|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
عزالدين معزة
2023 / 7 / 30
إن حرية التعبير التي تم تكريسها رسمياً في إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان، والذي تم تبنّيه في عام 1948، العنصر الأكثر إثارة للجدل في الديمقراطية التمثيلية الحديثة على الصعيد العالمي، وفي الوقت الذي يتعرض فيه هذا الحق الإنساني الأساسي للتهديد في عدد مُتزايد من البلدان، تُختَبَر حدوده في بلدان أخرى.
ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة في باريس في 10 ديسمبر 1948، على أن "لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرِّيته في اعتناق الآراء دون أي تَدَخّل، وفي استقاء الأنباء والأفكار، وتلقيها ونَقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية". (المادة 19).
بالتالي، فإن حرية التعبير تعني قُدرة الفَرد أو المجموعة على التعبير عن مُعتقداتهم وأفكارهم ومشاعِرِهِم حول قضايا مُختلفة دون خوف من الرقابة. لكن ما هو نطاق الحقّ في حرية التعبير؟ وهل هو حق مُطلَق؟ من الواضح أنه ليس كذلك.
فحرية التعبير أصبحت مُهددة بشكل مُتزايد في الآونة الأخيرة، فمن ناحية، يتزايد عدد الحُكّام المُستبدّين في جميع أنحاء العالم ولا يستثنى من ذلك حتى العالم الغربي الليبيرالي، ومعهم الملاحقات القضائية لوسائل الإعلام المُستقلة والناشطين الاجتماعيين عبر وسائط التواصل الاجتماعي المختلفة.
إن تفسير معنى حرية التعبير يختلف اختلافا كبيرا عند التطبيق من دولة لأخرى إذ تعتبر بعض النظم السياسية أن حرية الصحافة و الإعلام هي حجر الزاوية في الديمقراطية و تحميها بالقانون في حين قد تقيد هذه الحرية في بعض النظم الأخرى وفق ما تراه السلطة الحاكمة ملبية الاحتياجات الوطنية من وجهة نظرها هي ، أو كما تفهمها وتفرض رأيها على الجميع، كما أنها قد تعتبر أنه لا حرية لأعداء الدولة أي أولئك الصحفيين والكتاب والمدونين الذين ينتقدون الحكام ويكشفون عن الفساد والمفسدين، وتعد حرية الصحافة والإعلام امتداد لحرية الفكر والاعتقاد حينما تبرز إلى العالم الخارجي وتتجاوز مرحلة الفكر التي يؤمن بها الشخص إلى مرحلة اشتراك الآخرين في هذه الفكرة أو العقيدة بعرضها عليهم فحرية الفكر هي حرية داخل الإنسان يتولد عنها الاعتقاد بفكرة معينة وممارسة هذه الحرية أي التعبير هي التي تعرف بحرية الرأي و حرية الصحافة إحدى تطبيقاتها.
يعتبر موضوع حرية الصحافة من أهم الموضوعات التي تطرح على بساط البحث في أي مجتمع وفي أي عصر، ذلك لأن الحرية تزداد قيمة ومكانة حينما تقترن بالصحافة وهذا للمكانة التي تتبوؤها هذه الأخيرة كإحدى وسائل التعبير عن الرأي في المجتمع المعاصر، وأبرز أداة من أدوات المعرفة استحدثها الإنسان ليجمع من خلالها في لحظة واحدة بين ماضيه وحاضره ومستقبله.
والذي يقيس أوضاع الصحافة في 180 بلدًا حول العالم من بينهم 22 دولة عربيّة، تتزايد الكراهية والعداء للصحافيين، حيث أصبحت "فوبيا وسائل الإعلام" واضحة جدًّا، وعرفت البلاد العربية فن الصحافة الذي ظهر في كل أقطارها أثناء فترة الاستعمار الأجنبي العثماني ثم الانجليزي ثم الفرنسي وذلك ابتداء من أواخر القرن 19 وتأسست الصحافة بفعل عدة دوافع ثقافية تجارية سياسية وشخصية ولقد تطور هذا الفن تطورا ملحوظا بفعل ازدهار الاكتشافات العلمية والتكنولوجية في الوطن العربي وفي شمال إفريقيا باعتباره جزء من قارة افريقية كفن من فنون المجتمع الذي يزاوله الأفراد، فانتقلت الصحافة المكتوبة من صورتها البدائية البسيطة لتتطور مع التقدم العلمي البشري والتكنولوجي مسايرة بذلك الصحافة العالمية مما أدى إلى تطور علم الاتصال الجماهيري إلى جانب مختلف فنون الإعلام.
إن الصحافة العربية مثلها مثل الصحافة في العالم، ناضلت نضال مريرا ضد قوى الاضطهاد وقانون الرقابة والمطبوعات وجبروت حكام إلى أن أسست لنفسها تقاليد صحفية نضالية عريقة فرضت نفسها كسلطة رابعة في البلاد، وقد عرفت هذه الصحافة ما يسمى بالتحزب والتنافس كمرحلة مثلت فترة ما بعد الاستقلال مباشرة ونجدها صدرت عن أفراد وعائلات وفي بعض الأحيان عن جمعيات أو أحزاب سياسية بالإضافة إلى الصحافة الحكومية وهذا راجع إلى عوامل من بينها رفع الضغوط الاستعمارية المفروضة على الصحافة كما حدث في العراق سنة1932 وسوريا 1946 والجزائر سنة 1962 إلى جانب ذلك نجد تنافس بين جماعات سياسية أثر على السلطة و التوازن السياسي الذي كان يميز الأنظمة الحاكمة في هذه الفترة.
لقد تم إقرار الميثاق العربي لحقوق الإنسان من طرف مجلس جامعة الدول العربية بموجب قرار رقم 5427د حرية الصحافة المكتوبة في الميثاق العربي المؤرخ في 1997/09/15 حيث نصت المادة 26 منه على أن: "حرية العقيدة والفكر والرأي مكفولة لكل فرد". في حين نصت المادة 27 على ما يلي: "للأفراد من كل دين الحق في ممارسة شعائرهم الدينية، كما لهم الحق في التعبير عن أفكارهم عن طريق العبارة أو الممارسة أو التعليم وبغير إخلال بحقوق الآخرين، ولا يجوز فرض أية قيود على ممارسة حرية العقيدة والفكر إلا بما نص عليه القانون." من خلال كل ما ذكر نلاحظ أن المادة 26 قد أقرت حرية الرأي والفكر وكفلتها لكل فرد، لكن دون ان تمنح على أية ضمانة تحقق لها الحماية، أما المادة 27 فنجدها كذلك أقرت حرية التعبير عن الأفكار بمختلف وسائل الإعلام وذلك في عباراتها "عن طريق العبارة أو الممارسة أو التعليم" فلفظ العبارة تضمن التعبير شفهيا أو مكتوبا أو مطبوعا.
لكن الصّحافة وحرية التعبير في الدول العربيّة يميل أغلبها إن لم نقل كلها إلى تقييد هذه الحرية للحد منها وخنقها، فضلاً عمّا تكشف عنه الممارسات الفعلية في العديد من الدول العربية، من انتهاكات مستمرة سواء بإغلاق بعض الصّحف أو ضبطها وترويضها عن طريق تهديد الصحفيين بالغلق والملاحقات القضائية أو مصادرتها أو بعدم توفر الضمانات الكافية للصحفيين لممارسة عملهم، فهم يتعرضون في كثير من الدول العربية دون استثناء للحبس وتغليظ العقوبات في قضايا الرأي والنشر والتوقيف عن ممارسة المهنة، ممّا جعلها لا تزال محدودة التأثير في الحياة السياسية والاجتماعيّة بسبب القيود الكثيرة التي تكبلها، والتي بعضها حكومي فيما البعض الآخر اجتماعي تُمليه التقاليد العفنة البالية الضّاغطة، وكم من صحفي عبر عن رأيه في أمور اجتماعية كفره الأئمة وكان مصدرا هاما لخطب الجمعة، وبسبب الرقابة المنظورة وغير المنظورة التي تحاصرها من كل جانب، يضاف إلى هذا ما تمارسه رؤوس الأموال المالكة للصّحف من تحكم في تدفق المعلومات وتداولها وتواطؤ مع أصحاب المصالح الذين يزوّدون الصحف بالإعلانات التي تُعدّ العصب الأساسي لأرباح الصّحف في الدول العربيّة.
ثمّ إنّ ضعف البيئة الإعلامية المحفزة والممكّنة للمعرفة في المجتمعات العربية يشير إلى أنّ الإعلاميّين العرب يواجهون وبدرجات مختلفة، صعوبات جمة في الوصول إلى المعلومات والحصول عليها والاطلاع على الوثائق والبيانات، والرجوع لمصادر الأخبار الرسمية وغير الرسمية على السواء، حيث تتذرع السلطات غالبًا بأمور غامضة مثل الحديث عن أسرار رسميّة أو معلومات تمس الأمن الوطني.
مثلاً بسبب الحروب الأهلية التي تعيشُها كلٌّ من سوريا واليمن والعراق وليبيا والسودان وفلسطين، تأثّر مؤشّر الصّحافة سلبًا وذلك لاستمرار تدهور الوضع الأمني المتدهور، الذي يمنع الصحافيين من الوصول إلى العديد من المناطق المتنازع عليها، وبسبب الاعتقالات والإعدامات العديدة التي نفّذت في حق الصحافيين والنّاشطين محليين كانوا أو أجانب لتُهم مختلفة، إضافةً إلى قضايا التشهير التي رفعت ضد آخرين، فتنوعت عقوباتهم بين السّجن والغرامات المالية الطائلة. في سوريا جميع الصّحف مملوكة للنظام الحاكم أو لرجال أعمال يعملون لصالح النظام، ولا توجد طريقة معروفة للحصول على المعلومات، كما شهدت مقتل أكثرمن 60 صحافيًّا منذ بداية الحرب الأهلية في سوريا، فيما اعتقل أو اختطف أو اختفى أكثر من 70 صحفيًّا على أراضيها، ما جعلها واحدة من أخطر دول العالم إعلاميًّا، وفي السّعوديّة أيضًا، إنّ وعود ولي العهد محمد بن سلمان الإصلاحية لم تترجم إلى تحسن في أوضاع حرية الصحافة، فالعشرات من الناشطين والمعارضين للحكومة والصحافيين اعتقلوا، في حين تعرف الجزائر العديد من الخطوط الحمراء، فمثلاً تطرق الصحفي لمواضيع مثل الفساد المنتشر في إداراتنا أو صحة الرئيس يجعله عرضة للتهديدات والمضايقات والاعتقال، وتستخدم السلطات سلاح الضغط المالي والسياسي على وسائل الإعلام، فضلا عن مقاضاتها. أمّا في مصر، فقد شهد مؤشّر الصّحافة هبوطًا واضحًا، والسبب يعود للعدد الكبير من الاعتقالات والدعاوى القضائية التي شهدتها السنوات الأخيرة بحق الصحافيين والإعلاميين، والتي أدت إلى عقوبات قاسية بحق الكثيرين منهم، إضافةً إلى الرّقابة الشديدة على الصحف ووسائل الإعلام ممّا ترتّب عليها إغلاق بعضها، والذي طبعًا أفضى تدريجياً إلى ظهور اللون الواحد لوسائل الإعلام، وجعل معظمها مؤيدة للنظام الحاكم" إن طبلت للحاكم تأكل الخبز وإن رفضت التطبيل تموت جوعا ". كما نجدُ النّخب والسياسيّين لا يؤمنون بالديمقراطية ولا يضعون أي اعتبار أو احترام لرأي الشّعب، بينما كلمة (الشعب) هذه تصير مضغة في خطبها وأحاديثها والصورة التي يرسمونها للآخرين عبر الكلمات والعبارات المنمقة.
إنّ هذا القمع الذي تُمارسُه الأنظمة العربية على حرية التعبير والصحافة والأقلام الحرة النزيهة، لأنّ لديها مثقفون مأجورون ومفتقرون إلى قدر كبير من النّزاهة والحياد والموضوعية تخصصهم فن التطبيل، خضعوا أو أخضعوا فطوّعوا أنفسهم وسخّروا أقلامهم ومعرفتهم وفكرهم للارتزاق ولخدمة ذوي السلطة في نظام اقتصادي أو طبقي دون مراعاة للمثل العليا وللمصالح العامة، وهؤلاء يمارسون ممارسات سياسية معينة لا تتفق مع رؤى وتطلعات شعوبهم. وعلى هذا النحو تُصبح تلك الصّحف والمجلاّت خادمة للرُّؤى والمصالح والأغراض السياسيّة والاقتصاديّة، وتكون أيضًا منابر لخدمة وفرض موقف الحكومة التي لا يكون عملها بالضرورة بتوجيه ووحي المصالح الوطنية والمعيشية لشعوبها، ومن نافلة القول أنّه يوجد في البلدان العربية صحفيّون وإعلاميّون يتوفر لديهم قدر أكبر من النّزاهة والصراحة والجديّة والصّدق في التعبير عن أفكارهم وأحاسيسهم وتتسم بياناتهم بالشجاعة والإخلاص للشعب والوطن بتسخير أقلامهم ونفوسهم خدمة لقضايا عادلة وعدم السّكوت عن القمع والاضطهاد بمختلف تجلياتهما.
رغم هذا الأفق الرمادي الذي يحيط بالحالة الصحفية وحرية التعبير في العالم العربي، فإنّ الكفاح الذي خاضه الصحفيون وقطاعات المجتمع المدني المختلفة، قاد القطاع إلى تحسن أوضاع الحريات الصحفية خلال هذه السنوات الأخيرة وتطوّر الصّحافة العربية (المكتوبة والمسموعة والمرئية وصحافة الأنترنت كذلك)، ودخول هذه الصحف ووسائل الإعلام المرئية (ونخص بالذكر هنا الفضائيات مثل الجزيرة ـ يسميها الإعلام المأجور قناة الخنزيرة ـ والعربية وغيرها من الفضائيّات التي أنشئت بتمويل من أشخاص أو من جهات حكومية أو مقربة من الحكومات في الوطن العربي) طورًا من المنافسة مع بعضها ، أو حتى مع وسائل الإعلام العالمية سواء من حيث قدرتها على الوصول إلى مصادر الأخبار وسرعة بثها لها، أو من حيث فتحها المجال للحوار الحر الجريء على شاشاتها، وإتاحتها المجال للرؤى المعارضة للجمهور الذي كان صوته مكتومًا فيما مضى.
ثمّ إنّ حريّة الصحافة أو الإعلام لا تتحقّق إلاّ على أساس مبادئ التحرّر الوطني الإنساني وأجواء نظام ديمقراطي ملتزم. وهنا يجب التشديد على أهميّة أن تكون الصحافة والإعلام حراً ومهنياً وتعددياً لأنّ تفعيلهم كسلطة رابعة تعمل كأداة لنشر الشفافيّة ضروري من أجل تحقيق نجاح واضح في محاربة الفساد الذي يُبدّد موارد الشّعوب من خلال سوء استخدام السلطة، وبالإضافة إلى ذلك تلعب الصّحافة والإعلام دوراً حاسماً في العمليّة السياسيّة الديمقراطيّة كوسيط بين المجتمع ومؤسسات الدولة، تقوم على دعم الديمقراطيّة كونها المنظومة الأفضل لإنعاش وتنمية المجتمعات العربيّة التي يُفتقد فيها غالبًا احترام حقوق المواطنة الأساسية.
إن العالم العربي ما زال يتصدر قائمة الدول المستبدة التي تنتهك بشكل صارخ حرية الإعلام والتعبير.
إن الإشكالية تجاوزت حرية الصحافة إلى حرية الأشخاص العاديين الذين لا يستطيعون التعبير عن أفكارهم في دول عربية كثيرة. وقد بين بحث أجرته مؤخرا المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمال افريقيا، أنه رغم أن دساتير معظم بلدان الشرق الأوسط وشمال افريقيا تنص على حرية التعبير، ففي حقيقة الأمر، لا تزال وسائط الإعلام التقليدية والدولية (بما فيها الإذاعة والتلفزيون الساتلي والإنترنت) تخضع لبيئة قانونية وسياسية وأمنية تقييدية. كما تبين للبحث أن قوانين الصحافة والمطبوعات الوطنية كثيرا ما يتم تغييرها وأن صياغتها مبهمة مما يجعلها عرضة لتفسير واسع ولانتهاكات محتملة.
إن قوانين الإعلام في الوطن العربي متشابهة فيما بينها ولا يختلف بعضها عن بعض إلا في جزئيات قليلة وقد جاءت هذه القوانين للحد من حرية الإعلام وليس لتنظيم الممارسة في الواقع.
يشهد الإعلام المستقل المكتوب والسمعي البصري أصعب أزماته، فالعديد من وسائل الإعلام المطبوع تختفي من الساحة، بعدما كانت تسجل أرقاما قياسية في السحب (أو المبيعات)، أما البقية فهي تصارع من أجل الصمود وسط أزمة ديون خانقة وتراجع مصادر الإشهار (الإعلانات) التي كانت تضمن لها جزءا كبيرا من المداخيل. في ظل مشكلة الديون التي باتت تثقل كاهل الصحافة المستقلّة في الجزائر نجد أن صحيفة «الخبر»، وهي الصحيفة الأكثر قراءة في البلاد، أعلنت هي الأخرى حسب الموقع الإخباري «توالا إنفو» وجود خطّة لإعادة هيكلتها بغرض مواجهة مصاعبها المادية، وهو ما يعني تسريح عشرات الموظفين والصحافيين، وهنا يرجع مراقبو المشهد الإعلامي الجزائري هذه الوضعية المتأزمة بالدرجة الأولى إلى تراجع عائدات الإعلانات التي تعتبر الوكالة الوطنية للنشر والإعلان «لاناب» المُمون الرئيسي لها في الجزائر. وبالفعل، فإن مشكلة نقص المساحات الإعلانية طالت كل وسائل الإعلام واتخذت أبعاداً مأساوية، وازدادت حدةّ بسبب انهيار النشاطات الاقتصادية والتجارية للمؤسسات، كوكالات بيع السيارات التي كانت توفر في السابق مكاسب إعلانية كبيرة للصحف قبل أن تتوقف بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. وللإشارة أيضاً، فإن المطبعة العمومية تدين المليارات من الدينارات، لمعظم الصحف المستقلة علماً بأن أنشطة الطبع والتوزيع والإعلان في الجزائر لا تزال كلها تحت سيطرة القطاع العام.
الباحث والإعلامي نور الدين بسادي يتحدث عن «الخطأ الاستراتيجي» الذي ارتكبته هذه الوسائل الإعلامية في اعتمادها الحصري على الإشهار (الإعلان) العمومي، وهو ما تسبب في انهيارها بمجرد توقف هذه العائدات. ويصف بسادي هذه المرحلة بـ «التحول الرقمي الفاشل» للصحافة المكتوبة «التي ضيّعت وقتاً طويلاً قبل أن تُدمج المعطيات الرقمية في استراتيجيتها التنموية... لتشهد، وهي مكّبلة الأيدي، تحوّل القراء نحو شبكات التواصل الاجتماعي الأكثر جاذبية، خاصةً، للأجيال الشّابة». وعلاوة على ذلك فإن التأخير في تعميم عمليات الدفع الإلكتروني في الجزائر لم يسمح لهذه الصحف بالتحرك نحو تسييل محتواها على الشبكة والاستفادة منه ماليا، على سبيل المثال، من خلال عرض إمكانية الاشتراك في الطبعات الرقمية.
الإعلام السمعي البصري، هو الآخر، لم يسلم من هذه الأزمة الخانقة. ذلك أن قنوات البث الإخباري الأكثر مشاهدة في البلاد كقناة «النهار»، مثلاً، تمرّ بضائقة مالية استلزمت تسريح أكثر من 100 موظف من أصل 300، وتجدر الإشارة هنا إلى أن مجموعة «النهار»، التي تضم قناة إخبارية وصحيفة وموقعاً إلكترونياً، تواجه منذ سنوات مشاكل قضائية بسبب الدعاوى التي رُفعت ضّدها من جهات سياسية وإعلامية وشخصيات عامة، والتي وصلت وفق أحد المواقع الإعلامية إلى أكثر من 200 قضية معظمها بتهمة التشهير.
ثم إن الوضع لا يختلف كثيراً بالنسبة لمنافستها المباشرة «الشروق»، التي تضم صحيفة وثلاث قنوات، والتي تواجه أيضاً منذ أشهر أزمة ديون وصلت حسب الموقع نفسه إلى 2 مليار دينار (10 ملايين دولار أميركي) بعد تأخرها في دفع مستحقات التأمين الصحّي. هذا، ولمّحت مصادر مقربة من إدارة المجموعة التي توظف نحو 500 موظف بين الصحيفة والقنوات الثلاث: «الشروق العامة»، و«الشروق الإخبارية»، و«سي بي سي بنة» - وهي خاصة بالطبخ - إلى أن مشروع التخلي عن قناة «سي بي سي بنة» وقناة «الشروق الإخبارية» وارد في جدول أعمال حملة أسهم المجموعة، وفي المقابل سيصار إلى التركيز على نشاط القناة الترفيهية العامة بهدف التحكم في النفقات.
فحرية التعبير هي عمود الحريات وذروة سنامها، ولا يمكن لمجتمع أيا كان وأيا كانت أهدافه أن يتقدم لبلوغها بغير ضمان تلك الحرية وصيانتها. على أن حرية التعبير لا يمكن أن تصان بغير ضمان إعلام مستقل وحر، فهو مستقل بمعنى أنه لا سلطان عليه لغير ضميره وواجبات وأصول مهنته، وحر بمعنى عدم خضوعه لقيود قانونية ترهقه وتجعل من العمل في ميدانه مخاطرة يحسب حسابها كل صاحب فكرٍ ورأي. على أن ضمان حرية الإعلام لا تكون فقط بإعتاقه من القيود القانونية المرهقة، ولكنها تكون أيضاً بضمان أعلى درجة ممكنة من المهنية والاحتراف بين العاملين فيه والقائمين عليه، فالإعلام في العصر الحاضر يكاد أن يكون صناعة قائمة بذاتها، وهي صناعة تتطلب من محترفيها درجة عالية من الوعي بحقوقهم واحتياجات مهنتهم، ومعرفة واسعة بثقافات ولغات متعددة ومختلفة، وإمكانيات أخرى تعين على فهم واستخدام التطورات التقنية الحديثة في مجال تبادل المعلومات.
فالاستبداد ومحاربة الرأي الآخر، لا يعود فقط إلى "أنظمة حكمنا الاستبدادية" ولكن أيضًا يعود إلى ينابيع ثقافتنا المعاصرة، التي تجعل جماهيرنا نفسها مهيأة لقبول هذا الاستبداد، أو متواطئة في التعايش معه.
ويمكن إيجاز البيئة التي ينمو فيها الأعلام العربي وفي القلب منه الإعلام في الدول المستهدفة بأن يعيش في بيئة سياسية تتسم بالاستبداد مع تباين في درجة هذا الاستبداد، ونسبة بطالة عالية رغم ارتفاع أعداد المتعلمين، وثقافة عربية إسلامية لا تقدس حرية التعبير، وتضع قيوداً صارمة عليها باسم الدين مرة وباسم التقاليد مرة وباسم الأمن القومي مرة، فهي بيئة لا تنتج في الغالب إلا إعلاما مشوها، لا يستطيع مناقشة الأمور الخلافية بعقل مفتوح ومتقبل للراي ـ إن خالفتني فأنت عدوي ـ
وكشف التصنيف أن الجزائر احتلت المرتبة 135 بعد أن كانت تحتل المرتبة 119 السنة الماضية. وأرجعت "مراسلون بلا حدود" خسارة الجزائر للمراتب إلى الضغوط المباشرة وغير المباشرة التي تعاني منها الصحافة المستقلة في البلاد، فأغلب الصحافيين الجزائريين يعانون من مشاكل اجتماعية ومهنية في الأساس، خاصة ما تعلق بالسكن وتدني الأجور وغياب التأمين الاجتماعي. ويبقى الحديث عن حرية الصحافة في ظل هذه الظروف غير عقلاني، فالتحرر من الضغوطات الاجتماعية هي أول خطوة نحو حرية الصحافة، التي بالتأكيد لن تكون هدية من السلطة، بل تؤخذ بنضال هذه الفئة، فالفوضى التي يعيشها القطاع مقصودة حتى يبقى الصحافي يلهث وراء الحاجات الاجتماعية، بدل المطالبة بالحرية"
في حين تعرف الجزائر العديد من الخطوط الحمراء، فمثلاً تطرق الصحفي لمواضيع مثل الفساد أو صحة الرئيس يجعله عرضة للتهديدات والمضايقات الإلكترونية والاعتقال. وتستخدم السلطات سلاح الضغط المالي والسياسي على وسائل الإعلام، فضلا عن مقاضاتها.
أمّا في مصر، فقد شهد مؤشّر الصّحافة هبوطًا واضحًا، والسبب يعود للعدد الكبير من الاعتقالات والدعاوى القضائية التي شهدتها السنوات الأخيرة بحق الصحافيين والإعلاميين، والتي أدت إلى عقوبات قاسية بحق الكثيرين منهم، إضافةً إلى الرّقابة الشديدة على الصحف ووسائل الإعلام ممّا ترتّب عليها إغلاق بعضها، والذي طبعًا أفضى تدريجياً إلى ظهور اللون الواحد لوسائل الإعلام وجعل معظمها مؤيدة للنظام الحاكم. كما نجدُ النّخب والسياسيّين لا يؤمنون بالديمقراطية ولا يضعون أي اعتبار أو احترام لرأي الشّعب، بينما كلمة (الشعب) هذه تصير مضغة في خطبها وأحاديثها والصورة التي يرسمونها للآخرين عبر الكلمات والعبارات المنمقة.
إنّ هذا القمع الذي تُمارسُه بعض الأنظمة العربية، يخلقُ حيزًا مُعيّنًا لممارسة حريّة الإعراب عن الفكر لمصالحهم دون خوف من نتائج ذلك الإعراب. لأنّ لديها مثقفون مأجورون ومفتقرون إلى قدر كبير من النّزاهة والحياد والموضوعية، خضعوا أو أخضعوا فطوّعوا أنفسهم وسخّروا أقلامهم ومعرفتهم وفكرهم للارتزاق ولخدمة ذوي السلطة في نظام اقتصادي أو طبقي أو إقطاعي دون مراعاة للمثل العليا وللمصالح العامة، وهؤلاء يمارسون ممارسات سياسية معينة لا تتفق مع رؤى وتطلعات شعوبهم. وعلى هذا النحو تُصبح تلك الصّحف والمجلاّت خادمة للرُّؤى والمصالح والأغراض السياسيّة والاقتصاديّة، وتكون أيضًا منابر لخدمة وفرض موقف الحكومة التي لا يكون عملها بالضرورة بتوجيه ووحي المصالح الوطنية والمعيشية لشعوبها، ومن نافلة القول أنّه يوجد في البلدان العربية صحفيّون وإعلاميّون يتوفر لديهم قدر أكبر من النّزاهة والصراحة والجديّة والصّدق في التعبير عن أفكارهم وأحاسيسهم وتتسم بياناتهم بالشجاعة والإخلاص للشعب والوطن بتسخير أقلامهم ونفوسهم خدمة لقضايا عادلة وعدم السّكوت عن القمع والاضطهاد بمختلف تجلياتهما.
رغم هذا الأفق الرمادي الذي يحيط بالحالة الصحفية في الوطن العربي، فإنّ الكفاح الذي خاضه الصحفيون وقطاعات المجتمع المدني المختلفة، قاد القطاع إلى تحسن أوضاع الحريات الصحفية خلال هذه السنوات الأخيرة وتطوّر الصّحافة العربية (المكتوبة والمسموعة والمرئية وصحافة الأنترنت كذلك)، ودخول هذه الصحف ووسائل الإعلام المرئية (ونخص بالذكر هنا الفضائيات مثل الجزيرة والعربية وغيرها من الفضائيّات التي أنشئت بتمويل من أشخاص أو من جهات حكومية أو مقربة من الحكومات في الوطن العربي) طورًا من المنافسة مع بعضها البعض، أو حتى مع وسائل الإعلام العالمية سواء من حيث قدرتها على الوصول إلى مصادر الأخبار وسرعة بثها لها، أو من حيث فتحها المجال للحوار الحر الجريء على شاشاتها، وإتاحتها المجال للرؤى المعارضة للجمهور الذي كان صوته مكتومًا أو خفيضًا فيما مضى. ثمّ إنّ حريّة الصحافة أو الإعلام لا يتحقّق إلاّ على أساس مبادئ التحرّر الوطني الإنساني وأجواء نظام ديمقراطي ملتزم. وهنا يجب التشديد على أهميّة أن تكون الصحافة والإعلام حراً ومهنياً وتعددياً لأنّ تفعيلهم كسلطة رابعة تعمل كأداة لنشر الشفافيّة ضروري من أجل تحقيق نجاح في محاربة الفساد الذي يُبدّد موارد الشّعوب من خلال سوء استخدام السلطة، وبالإضافة إلى ذلك تلعب الصّحافة والإعلام دوراً حاسماً في العمليّة السياسيّة الديمقراطيّة كوسيط بين المجتمع ومؤسسات الدولة، تقوم على دعم الديمقراطيّة كونها المنظومة الأفضل لإنعاش وتنمية المجتمعات العربيّة التي يُفتقد فيها غالبًا احترام حقوق المواطنة الأساسية.
وفي ظل ذلك، يظل السؤال عن سبب تراجع حرية الصحافة في العالم العربي باحثاً عن إجابة، وهل المبررات التي يقدمها المقيدون للصحافة منطقية؟ وكيف تنهض المجتمعات دون سلطة رابعة تميز الحقيقة وتحاسب المسؤول؟ وهل سيبقى الصحافيون في دولنا العربية يكابدون معيقات أحلاها الحظر والغرامة وأمرها القتل؟!
إنها الأسئلة العابرة للأزمنة والأمكنة في العالم العربي من محيطه إلى خلجيه، وليس من السهولة ان تكون صحفيا نزيها حرا في هذه الرقعة الجغرافية المملوءة بالممنوعات والقيود وسلب حريات الافراد.
للمقال مراجع
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |