هل خَلَق العرب حضارة؟

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
2023 / 7 / 30

إن كل خلق جديد لا ينشأ من عدم. بل هو تطور- خطوة إلى الأمام، يميناً أو يساراً، بالطول أو بالعرض، ومن حيث الشكل والمضمون- من رحم ما كان قائماً قبله وما هو معاصر له. هكذا كان المعبد يسبق الكنيسة، التي بدورها قد سبقت ثم عاصرت المسجد. وقبل المعبد، كانت معابد وهياكل وأضرحة ومراقد بلا حصر تسبق وتعاصر وترث وتستخلف بعضها بعضاً منذ آلاف السنين. كلها تطورات من أرحام بعضها البعض- جدران شاهقة من الحجارة تحيط بفسحة كبيرة تسع العابدين والمصلين. رغم ذلك، ما من شك في أن هناك شيئاً ما في نقش الحجارة ورصها يميز ويفرق بما لا يدع مكاناً للشك ما بين المعبد والكنيسة والجامع. الأكثر والأهم لايزال، هذا التمايز الشكلي الواضح في نقش الحجارة كان في جميع الأحوال يعكس تمايزاً مؤكداً في المضمون، الذي لولاه ما كانت الأشكال قد تمايزت أصلاً بالنظر إلى أصلها الواحد- الحجر.

أن يكون هنا معبد وكنيسة وجامع جميعاً من نفس الحجارة وذات الطراز المعماري والهندسي لدرجة تثير الدهشة لكن كل واحد منهم رغم ذلك يبقى محتفظاً بهوية خاصة لا يمكن أن تخطئها العين، هذا معناه أننا نقف أمام ثلاث مخلوقات- حضارات- متمايزة وهذه المعالم المعمارية ليست سوى انعكاس مادي محسوس لتمايز آخر حضاري ومعنوي.

قبل الإسلام، كان لدى العرب مساجد ومعابد وأضرحة كثيرة وكانوا يصلون في صحن الكعبة ذاتها القائمة حتى اليوم. رغم ذلك، ما كانوا أبداً يمثلون حضارة من أي نوع وما كانت كعبتهم تلك تجسد أي مضمون حضاري على الإطلاق- مجرد طقس أو تقليد أو عرف أو دين محلي أو قبلي. ومتى بدأ العرب يخلقون حضارة، وبدأت كعبتهم تعمل بمثابة التجسيد الحجري المحسوس، أو الشكل الظاهر لمضمون حضاري أعمق جديد ومتمايز عن سابقيه ومعاصريه؟

حين خرج العرب من تحت عباءة سَلَفهم وكفروا بعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم، وهجروا قبيلتهم ومَكتهم وكعبتهم؛ حين خطوا الخطوة إلى الأمام، في الشكل والمضمون، بطول وعرض محيطهم الإقليمي؛ حين انتشروا إلى حد أن ضَّيَعوا أنفسهم وسط محيط شاسع من البشر والشعوب شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً؛ عندئذٍ لم يعد العرب عرباً كسابق عهدهم. بل تحولوا إلى عامل محفز في تفاعل هائل تمخض عن خلق عالم جديد بالكامل.

في الواقع، كان لابد أن يضيعوا إذا ما كانوا يبتغون حضارة. الحضارة لا تشتري بثمن أقل من التنازل عن كل ما هو قبلي أو عرفي أو محلي أو قومي أو وطني، كل ما هو صغير ومحدود، دون التطلع إلى ابتلاع العالم أجمع وضمه إلى معسكرك وجعله وطناً لك. لكنهم، في مقابل خسارتهم لخصوصياتهم القبلية والمحلية ربحوا انتشاراً عمَّ الإقليم بأسره، لدرجة أن جزيرتهم الأم الشاسعة والأكبر من قدرتهم على توحيدها في السابق أصبحت مجرد جزء ضئيل ومحدود القيمة في العالم الجديد الذي غرقوا فيه.

من اللافت أن الحضارة التي فجر العرب تفاعلاتها انطلاقاً من شبه الجزيرة العربية ليست عربية! ما من حضارة عربية وجدت أو موجودة أصلاً. هناك ثقافة عربية. الثقافة أصغر بكثير عن أن تفي بمعايير الحضارة، التي هي أوسع وأشمل وأعمق كثيراً من حيث الشكل والمضمون معاً. اللغة هي عنصر ثقافي يُنسب بلا شك إلى عرب الجزيرة؛ وكذلك الحال مع المسجد الذي يرفع فيه الآذان باسم الله والنبي العربيين نفسيهما، بذات الحرف والمعنى. رغم ذلك، المسجد منتشر ومؤثر وقابل للحياة على نطاق جغرافي عالمي يتحدث بكل اللغات، بينما العربية محصورة على منطقة بالذات. واليوم، لا يشكل المسلمون المتحدثون بالعربية سوى أقلية زهيدة للغاية من جملة المسلمين. معنى ذلك أن الدين الإسلامي الذي يجسده المسجد هو الذي كبر إلى حضارة، بينما بقيت الأبجدية العربية وما تجسده من مضامين مجرد ثقافة لا تتعدى الحدود المحلية والإقليمية.

في الواقع، لم يكن العرب أصحاب حضارة حتى يحملوها معهم إلى الشعوب التي احتلوها بعد أن هجروا قبائلهم وأوطانهم الأم في شبه الجزيرة واستقروا في مستعمراتهم الجديدة. لكن من هذه المستعمرات التي ذاب وضاع فيها العرب، هناك من تبنوا لغة العرب ودينهم معاً بينما اكتفى آخرون بالدين فقط. وفي جميع الأحوال، كانت شعوب هذه المستعمرات ذاتها هي التي طورت اللبنة اللغوية والدينية العربية الأولى حتى تصلح لتشييد الصرحين الثقافي والحضاري. وحين خسر العرب سيطرتهم السياسية، تحولوا إلى مجرد تابعين محكومين من مستعمراتهم السابقة، وتلاميذ يتلقون دروساً في قواعد اللغة العربية الصحيحة وأصول الدين الإسلامي من عرب باللسان وليس بالعرق، ومن مسلمين أعاجم لا ينطقون العربية أصلاً.

تدفعهم روح المجازفة وحب الغنيمة وحنكة الاقتتال فيما بينهم، اندفع العرب بقوة بعيداً عن قبائلهم وأوطانهم وانتشروا لأقصى ما قدرت عليه سيقان جيادهم ونصال سيوفهم. من رحم هذا الانتشار الجغرافي ولدت كلاً من الثقافة العربية والحضارة الإسلامية. وحتى لو لم يقدم عرب الجزيرة الأوائل للعالمين العربي والإسلامي سوى هذا الانتشار الجغرافي بحد السيف، تبقى الحقيقة الثابتة والمؤكدة أن وجود هذه الثقافة أو تلك الحضارة ما كان ممكناً أو متصوراً من دون هذا الانتشار الجغرافي المسبق، وشبه العالمي في حالة الحضارة.

ولماذا وقع اختيار شعوب المستعمرات العربية تحديداً على لسان العرب وإلههم لكي يصنعوا منهما ثقافتهم وحضارتهم بالترتيب؟! كان المستعمرون العرب هم المنتصرون، ويشكلون النخبة صاحبة السلطان والجاه والنفوذ التي تتحلق من حولها بالضرورة النخب المحلية الطامعة في مال أو شهرة أو وجاهة اجتماعية.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي