|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
محمود شقير
2023 / 7 / 30
ينحسر دور الثقافة في القدس. تلعب الحواجز العسكريّة والحصار وجدار الفصل وحالة عدم الاطمئنان الناتجة عن استمرار الاحتلال الإسرائيلي، دوراً بارزاً في ذلك. وتلعب الأحوال الاقتصادية المتردّية دوراً في ذلك أيضاً. وللمدّ الأصولي الذي ينمو في المدينة دور، فالثقافة الحديثة من وجهة نظر الأصوليين مدخل إلى نشر العلمانية، وإلى إفساد الأجيال الشابة وزعزعة انتمائها الصحيح.
لم تعد في القدس مكتبات تبيع الكتب كما كانت الحال في السابق. لم تعد هناك دور للسينما. دور السينما مغلقة منذ الانتفاضة الأولى. تُعرض في بعض الأحيان أفلام سينمائية في قاعة المسرح الوطني الفلسطيني، لعدد محدود من الناس. لم يعد في القدس جمهور للسينما (مؤخرًا نشط مركز يبوس الثقافي في عرض أفلام سينمائية).
توجد في القدس بؤر ثقافية معزولة إلى حدّ ما عن الجمهور. ثمة فرق مسرحية وعروض متفرّقة. وثمة نخبة معنيّة بالثقافة وبما تشهده المدينة من أنشطة في ميادين المسرح والغناء والفن التشكيلي والندوات. تتشكّل هذه النخبة من مثقّفين مخضرمين وجدد، ومن بعض طلبة الجامعة وقلّة من المواطنين.
ينحسر دور الثقافة وتستفحل نزعة الترييف في القدس، وتتراجع النزعة المدنيّة فيها، بتأثير عوامل شتّى من أهمّها إحساس المقدسيّين بأنهم متروكون لمصيرهم تحت الاحتلال الإسرائيلي، حيث لا نفوذ للسلطة الوطنية الفلسطينية في المدينة، وحيث لا تأبه بهم سلطات الاحتلال الإسرائيلي التي تسعى للتخلّص منهم، باعتبارهم عقبة في مواجهة خطّة تهويد القدس.
ينتج عن ذلك كلّه مشهد مقلوب للتراتب الاجتماعي في المدينة، وللحالة الثقافية السائدة فيها. في سنوات سابقة، كانت للشهادات العلميّة قيمة واعتبار. كان الطبيب والمهندس والمحامي والأستاذ الجامعي والصحافي يشغلون موقعاً مميّزاً في سلّم التراتب الاجتماعي في المدينة. وكان القائد السياسي الذي يخوض معارك النضال الوطني ويتحمّل مرارة السجن والسجّان، صاحب حظوة لدى الناس.
ينقلب المشهد هذه الأيام، ويصعد الوجهاء ليصبحوا في الواجهة، ولتصبح لهم الكلمة الطولى في معالجة مشكلات الناس اليومية، في ظلّ غياب الأمن وتفاقم الصراعات العائلية، التي يغذّيها الحصار وتوتّر الأعصاب الناتج عن وضع معيشي لا يطاق.
يصعد الوجهاء القادمون من عائلات لها نفوذ مستمدّ من القوّة العددية لأفرادها، وتصعد معهم حالة ثقافية تُعلي شأن التعصّب العائلي والركون إلى أشكال بدائية من التنظيم الاجتماعي التي أعيد إحياؤها بعد أن لفظتها المدينة في فترة سابقة. وتنتشر الدواوين العائلية المكرّسة لاجتماعات أبناء العائلة الواحدة، تلك الاجتماعات التي تتأكّد من خلالها مكانة وجيه العائلة المتميّز على غيره من أبنائها، بغضّ النظر عن حظّه من التحصيل العلمي.
يمارس الوجهاء دورهم الاجتماعي عبر هذه الدواوين وغيرها، وينشطون لحلّ المشكلات الناشئة عن المشاجرات والخلافات على حدود ملكيّة الأرض والاعتداءات على الأعراض، وما ينتج عن ذلك من مضاعفات قد تصل حدّ القتل وإزهاق الأرواح.
ينظر الناس في القدس وفي محيطها، نظرة إيجابيّة لظاهرة صعود الوجهاء في زمن يفتقر إلى نظام سياسي يرعى شؤون الناس، وإلى محاكم فلسطينية وأنظمة وقوانين. هنا يتمّ الاعتماد على العرف العشائري الذي يهتدي به الوجهاء بأسلوب خلاّق حيناً وبأساليب متخلّفة لا إبداع فيها ولا تجديد في أحيان كثيرة، ما يدفع إلى عدم الانضباط في تطبيق هذا العرف والخروج عليه في حالات شتى، الأمر الذي ينذر بحالة من الفوضى وانهيار صيغة التعايش الهشّة بين الناس.
لا تقتصر ظاهرة صعود الوجهاء على القدس وحدها، فلها تجلّيات متفاوتة في مدن فلسطينية أخرى، غير أنّ لها حضوراً أكثر فاعلية في القدس بسبب ظرفها الخاصّ تحت الاحتلال الإسرائيلي، حيث يتصدّى الوجهاء وحدهم تقريباً لحلّ مشكلات الناس، التي تقع أثناء ممارستهم لحياتهم اليوميّة في ظلّ الاحتلال.
مع ذلك، ثمة جانب سلبي مرتبط بالحالة الثقافية التي تواكب هذه الظاهرة، وهي حالة معنيّة بتكريس ما هو قديم من أشكال التنظيم الاجتماعي المستمدّة من بيئة محافظة، لا ترقى إلى أبسط أشكال التنظيم المدني، لأنها تجعل الفرد ملحقاً بالجماعة ولا حقّ له في ممارسة حرّيّته الشخصية، ولأنها تتعاطى مع المرأة باعتبارها عنصراً ضعيفاً مُلحقاً بالرجل، ولا يحقّ لها التعبير عن وجهة نظرها أو التحكّم بمصيرها وبوضعها الاجتماعي والمعيشي.
وتنمو على هامش هذه الظاهرة أدبيّات مبسّطة وعادات وتقاليد، حيث تتحدّد أمكنة الجلوس في الديوان بحسب أهمية الأشخاص وموقعهم في سلّم التراتب الاجتماعي. فالوجيه الأكبر له صدْر الديوان ومن حوله يجلس وجهاء آخرون، والذين لا يُحسبون في عداد الوجهاء لهم الأمكنة البعيدة من مكان الصدارة، وللوجيه الأكبر الحقّ في الكلام قبل الجميع، وهو الذي يختتم الكلام ويتوصّل إلى آخر الاستخلاصات.
وأما بخصوص الأدبيات، فمن يتابع صحفنا المحلية، فسوف يعثر في صفحاتها الداخلية على إعلانات، يجري نشرها بعد كلّ اتّفاق على عطوة عشائرية أو صلح بين العائلات المتخاصمة، حيث يبدأ نصّ الإعلان بسرد أسماء المشاركين في الجاهة العشائرية، وهم في هذه الحالة من الوجهاء دون غيرهم، ويعتبر نشر أسمائهم ميزة لا ينالها إلا من كرّسوا وقتهم لمثل هذا النشاط.
ولا يندر أن يقع كاتب النصّ في أخطاء لغوية لافتة للانتباه، حيث يتطرّق لذكر كبير الجاهة ويقول: إنه ترجّل كلمة في الحاضرين! (وهو يقصد بطبيعة الحال: ارتجل، والترجّل هو النزول عن ظهر الفرس) ، وتكاد تتشابه الكلمات التي يقولها كبير الجاهة في هذا المقام، مع الكلمات التي تقال في المناسبات الأخرى الشبيهة بهذه المناسبة، وهي تتلخّص في ضرورة إحلال الوئام بين المتخاصمين وتنقية النفوس من الضغائن، والحثّ على مكارم الأخلاق والشكر على الكرم والتسامح، وما إلى ذلك من كلام له وقع طيّب في النفوس.
بالطبع، ليس ثمة اعتراض على حضور الوجهاء في الحالة المقدسيّة. الاعتراض في الأساس على الوضع السياسي غير الطبيعي المتمثّل في بقاء الاحتلال، هذا الوضع الذي قزّم حضور الثقافة الحديثة في فضاء المدينة، وقلب سلّم التراتب الاجتماعي لأسباب اقتصادية وسياسية، وأدخل الناس في حمأة مشكلات يومية معقّدة، أدّت مع الزمن ومع تكرار وقوعها، إلى تخفيض سقف تطلعاتهم التي تواكبها ثقافة محلية محدودة الآفاق، بديلاً من الثقافة التي تشمل الوطن بأسره وترتبط بمصيره وبآفاق تطوّره الخلّاق، وترتبط في الوقت نفسه بالمواطن الفلسطيني، وتسهم في صيانة حريته الشخصية، وفي إغناء هويّته وتعزيز قيم المواطنة والعصرنة لديه دون انتقاص.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |