|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
عباس علي العلي
2023 / 7 / 26
من الحكايات الخالدة التي بقيت تدور في عقلي رغم كل هذه السنين أن جدي حدث جمعا من الناس في محفل عام ومناسبة ختان أنه في أحدة القرى العراقية القديمة، وبسبب بعدها عن المدينة والوضع الاجتماعي العام حينئذ كان هناك شيخ يشبه الثور العظيم في انتفاخته وبدانته يعيش وسط قرية انهكها ظلم الاقطاع وفقر الحال والحاجة لكل شيء، مستغلا كونه رجل دين ويتحدث باسم الله والحسين بأعتباره العليم الفهيم الوحيد الذي يعرف كل شيء عن أي شيء، لأن الله أرى أمه وهو في بطنها أنه أطعمه طاسة حليب من ضرع غزالة من غزالات الجنة، فولد فقهيا عريفا لا يدانيه في العلم أحد، حتى شيخ العشيرة التي يعيش في كنفها لأنه الوحيد الذي أطعمه الله حليبا من الجنة وهو في بطن أمه، لذا فهو معصوم ومقدس وجليل عند أهل القرية.
حتى جاء أحد الشباب الذين ولدوا في القرية وعاش في النجف وتعلم العلوم الدينية على أصولها وبدأ ينافس شيخ دبس في المعرفة، هنا تحير الشيخ العنيق ماذا يفعل مع هذا الشاب الذي أطاح بهيبته العلمية وأظهره للناس أنه مجرد بقرة لا يفقه شيئا، فأحتال على الناس وبمحضر من الشيخ الإقطاعي الذي هو الأخر أكثر جهلا وسخافة منه، وطلب مناظرة بينه وبين هذا المتشيخ الزعطوط، فقبل الشيخ الجديد المناظرة وجلس الجميع عصرا عن حائط بين الإقطاعي الذي كان مبنيا من الطين، وطلب من الشيخ الجديد أن بكتب شيئا بسيطا، قال له أكتب " كلمة حيه"، فأمسك الشيخ بفحمة وكتب على الحائط كلمة "حية"، عندها ضحك شيخ دبس وأخذ الفحمة ورسم شكل حيه على الحائط، وطلب من الشيخ الإقطاعي والحاضرين جميعا أن يبينوا أي الكلمتين أصح، فأشار الجميع للصورة، هنا أمر الشيخ دبس الشاب المعمم أن بلم "جوالاته" ويخرج من القرية لأنه لا يعرف أن يكتب كلمة واحدة، فكيف له أن يعلم الناس دينهم، هنا أذعن الرجل وحمل أغراضه وهاجر القرية تاركا للشيخ دبس أن يدبس عقول الناس كما يدبس الطرشي .
مما يؤسف له الآن وفي عصر المعرفة والمعلومة الموثقة المتاحة لكل الناس وبالمجان، نجد هناك وتحديدا في طبقة ما يسمون أنفسهم مثقفين ما زال مؤمنا بأن ما قاله شيخ دبس في مجلس قريته قبل مئة عام من حكايات وتخاريف وروايات لا يقبل بها حتى عقل الرضيع، هي جزء أساسي ومكون متكامل من معرفة أصيلة لا تقف أمامها كل حقائق الكون، ولا معارف الوجود ولا حتى الحقيقة النيرة التي أنزلها الله في كتابه الكريم، عنده عقل شيخ دبس الذي يؤمن بأن القمر تأكله الحوت وأن سبب تحريم الجري لأنها ضربت الماء في ذيلها عندما أراد الإمام علي الوضوء، وأن حرمة تهديم موقد النار بسبب أن عمر هدم تنور الزهرة، مثل هؤلاء كيف يمكن التعامل معهم وهم يتسيدون الساحة التي يسمونها فكرية وثقافية... إنه العودة لعصر شيخ دبس.
الحقيقة المرة التي يكابدها الناس وهم في محاولة الخيار في الوعي أن يختاروا بين المقدس بظنهم وما تعودوا عليه وما رسخ في ضميرهم الإيماني، وبين الحقيقة التي تفاجئهم كل يوم أن هذا الإرث القدسي في غالب غالبه ليس إلا توهمات وأنفعالات وأشتغالات مقصودة يراد منها في حينها تأسيس وعي مناسب وتناسب مع أفتراض أن الناس مع مرور الزمن تستعود كل شيء طالما أنه جاء عن طريق مقدس، فرجل الدين في نظر الغالب من الناس رمز قدسي والمعبد والمسجد والجامع وحتى بعض القبور تحولت لبيوت الله حتى لو كان يسكنها الشيطان، المهم أنها أسمها بيت الله وفيها رجل دين، لا يهم إن كان يعرف الله أم لا، لا فرق إن كان مع الحق أو ضده، الأهم في كل ذلك أنه مكان مقدس، حتى أني في مرة كنا في زيارة قرية من قرانا وكنت طفلا مع عائلتي، لم أجد مكانا للتبول سوى حائط الجامع المبني من الطابوق والطين ومن خارجه تبولت ولم أبلغ حتى سن السادسة، عندها جاءني رجلا وأشبعني ضربا لأنني دنست الجامع، وهكذا فعل بعض أهلي، مع أن في وسط الجامع كانت هناك حمامات ومرافق صحية في داخله، الحرام أن تفعل بجدار أصم ما يهين قداسته.
الموضوع اليوم الذي يناقش على مستوى عام وبصوت لم يعد مخفوضا ولا خجولا عن الكثير من الأمور التي زرعها إرث التحليل والتحريم الأعتباطي خارج معيار "حلال محمد حلال إلى يوم الدين، وحرام محمد حرام إلى يوم الدين"، فقد برع المتفيقهون والفقهاء المتزمتون وأتباع ورفاق شيخ دبس في رسم أشياء في الذهن للدلالة على القصد بدلا من كتابة الحقيقة للناس وتعليمهم القراءة بدلا من أستخدام الحواس البدائية في الإدراك، هذا هو مضمون عملية التجهيل، فقد أعتاد أحد البقالين في قرية في أواسط السبعينات من القرن الماضي أن يسجل الديون مضاعفة على الزبائن، وعند مطالبتهم بالدين يكتشفوا أن المبلغ غير صحيح وينكرونه عليه، فيخرج من درج خشبي كتاب ملفوف بقطعة قماش خضراء على أنها كتاب الله وبطلب من الناس أن يقسموا عليه على أنهم غير مدينين بالمبلغ المطالب به، لا أحد يجرؤ أو تقدم للقسم وأخذ من الجميع ما يدعي به، وعندما مات مدهوسا في مدينة أخرى وفتح أبنه المحل وأخرج الكتاب على أنه القرآن الكريم ليقرأ شيئا منه على روح والده، تبين أن الكتاب هو عبارة عن جزء من قصص ألف ليلة وليله، فلعن الولد أباه وأعلن للجميع أن أبيه ظالم وقد سرق الناس باسم القرآن.
المطلوب اليوم منا جميعا أن نخرج هذا الإرث المغطى بغطاء القداسة والقماش الأخضر ونتبين منه هل هو فعلا دين الله، وكم هو قريب منه أو بعيد؟ وهل من الحق أن نحترم كل قطعة خضراء على أنها "علك" مال الإمام وأن نقبلها ونضعها على رأسنا، علينا أن نفهم هل أن كل ما نقدسه اليوم هو ليس كتاب ألف ليلة وليلة، علينا أن نملك شجاعة ذلك الشاب الذي لعن أباه لأنه كان مع الحق ولم يفارقه حتى مع أبيه، من يملك منا اليوم القدرة على أن يقول للناس ويحكم، هذا ليس دين الله ولا دين محمد ، هذا دين شيخ دبس وأنتم مجرد غوغاء لا تفرقون بين رسم الحية كشكل وكتابة كلمة حيه محروف، هذه صرخة أخرى من ضمير موجوع بأوجاع عصر الشيخ دبس وحزب الدعوة ومذهب الكفيشي وأفتاء دولة الصميدعي والملا وجماعة "الله حي" من مخرفي ومخربي المعبد القديم ....
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |