غرامُ آينور هانم: مُريدا الغلمة والكلمة

دلور ميقري
2023 / 7 / 22

1
كانَ على دارين، عقبَ تلك الرحلة العاصفة، أن يعود إلى مَسكنِهِ ورأسُهُ يطنّ بمختلف الأفكار، مثل خليّة نحل. الدخولُ في تجربةٍ جديدة، أساسها الخيانة الزوجية من جانبٍ واحد، كانَ أمراً مُتوقّعاً، بالطبع، مذ بداية تعرّفه على آينور هانم. كونه عانى مؤخراً من الحرمان، فمَن غير هذه الأخيرة قي وسعها أن تلبّي رغبته؛ هيَ المُغتنية بالغلمة ولا شك، والخبيرة بفنون الباهة؟ إنها أيضاً بنفسها، كما علمنا، تعاني حرماناً مُماثلاً، ما لم تكن لها مغامراتها غير المُعلنة. وإنها مَن تعهّدت ( ربما بتخطيطٍ مُسبق )، تبادلَ الحب مع دارين؛ وإن يكن عن طريق الفم، كحال الطيور. بجسارتها وقوّة شخصيتها، أشبهت أنثى بعض تلك الطيور، التي تُبادر لإغراء الذَكَر غن طريق التغريد ونفش الريش والتراقص من غصنٍ لآخر.
" ولكن، هل تتقافز آينور هانم من حضنٍ لحضن على عادة بعض النساء، الشبقات؟ "، فكّرَ دارين. وفي الأثناء، كانَ يُخرج مسودّةَ روايته. لم يكن قد كتب بعدُ سوى الخطوط العامة لعمله الأول، الذي أشرنا إليه في مكانٍ آخر. وكانَ يُزيد عليها بملاحظاتٍ ورؤى، تعكسُ تجاربه في الآونة الأخيرة. ومثلما علمنا أيضاً، فإنّ شخصية إمرأة البحّار ـ في الرواية ـ لم تكن مُختلقة من خيال المؤلّف. وما أدهشَهُ حقاً، أن تستمرّ الحبكةُ في التصاعد والتواتر، وذلك في كلّ مرةٍ توفّر له الظروفُ موقفاً جديداً مع " قرين " تلك المرأة؛ وهيَ عشيقته الجديدة. بلى، إنّ آينور هانم، أوضحت له بجلاء أنها تريد أن تكونَ بتلك الصّفة: " غداً، أريدكَ أن تنهضَ باكراً ومن ثم تتحمّم وتتناول فطوراً سريعاً، كأنك تنوي الذهاب إلى المعهد. كلّ ما سيتغيّر، أن تنتظر مجيئي بالسيارة، ثمة داخل شقتك لا خارجها "، قالت له قبل قليل بعدما أوصلته لمَسكنه.
ما أسعدَ دارين، بالرغم من كل شيء، ذلك الإقتران بين عقليهما وليسَ، حَسْب، بينَ جسديهما. فضلاً عن قراءاتها، الغزيرة والمتنوّعة، فإنه علمَ أيضاً بوجود دفتر يوميات لديها، سوّدت فيه الكثيرَ من الصفحات، وقالت أنه رافقها من الموطن الأول. وبالطبع، لن يكون في وسعه قراءة ما كتبته بلغتها التركية. من خلال قراءاته حتى ذلك الوقت ( ولم تكن أقلّ غزارة وتنوّعاً )، كانت ثقته قليلة بما يسمّى " الأدب النسويّ "، ويعتقدُ أنه لم يُضف شيئاً يُذكر للإبداع إن كانَ شعراً أو نثراً. فيما بعد، سيغيّر دارين رأيَهُ حينَ عكفَ على قراءة الأعمال الروائية للتشيلية، إيزابيل اللندي، التي تجاوزت عالمياً شهرةَ وشعبيةَ مواطنها؛ بابلو نيرودا.
من ناحيته، كانَ دارين مُهتمّاً أن تقرأ آينور هانم بعضَ قصائده، على الأقل، وقد عوّلَ على مساعدة أحد الأشخاص في ترجمتها إلى السويدية. هذا الشخص، لم يكن سوى ابنَ خال دوغان. كانَ " عمر " شاباً أسمر قد ناهز الثلاثين، معتدلَ الطول وذا جسمٍ رياضيّ. لم يكن قريبُهُ يرتاحُ إليه، وذلك لما في شخصيته من تناقضاتٍ لا تخلو أحياناً من الطرافة. فمن جهةٍ، كانَ خدوماً؛ كأن يضع سيارته بتصرف المعارف، فيستقبل هذا القريب في المطار أو يأخذ ذاك الصديق من أوبسالا إلى ستوكهولم. على وجه العُملة الآخر، كانَ على شيءٍ من الفضول والتطقّل. كما أنه من الإدعاء والزيف ( وغالباً دونَ قصدٍ أو وعي )، أن حظيَ بنَعتٍ مَشنوع؛ " دَرَوين "؛ أي الكذّاب، بالكردية.
لكنّ عمر، على أية حال، كانَ مثل قريبه لناحية شعوره بالودّ تجاه دارين. إنما كانَ ودّاً مُكلفاً في بعض الأحيان، ولم يتأثّر به المَعنيّ إلا حينما أنتقلَ صاحبُهُ إلى أوبسالا. لقد كانَ هذا الأخير، على سبيل المثال، يستسهلُ الطرقَ بيده على باب الشقّة، عوضاً عن رفع سماعة الهاتف، مُسبقاً، بغيَة الإستئذان بالمجيء. البابُ الآخر، الذي يُؤثره على أثر دخوله إلى الشقّة، كان باب الثلاجة؛ فيفتحه ببساطة، لكي يُخرج ما طابَ له من المأكل والشراب. لقد أشبه بحَمي، إلى حدّ ما، ولو أنّ هذا الأخير على غير إكتراثٍ بأيّ إدعاء إلا لو كانَ سياسياً.
لاحقاً، حينما توثقت صلة دارين بعمر، وكانَ يستقبله في شقّته، فإنه فتحَ له قلبه ذاتَ يوم. دونَ أن يُسمّي آينور هانم، كلّمَ ضيفه عن علاقته بإمرأة تركية. بقيَ الضيفُ صامتاً، يُحملق في الآخر بعينٍ مرتابة، قبلَ أن يُعلّق بالقول: " هذا أمرٌ مستحيل "
" وما هو وجهُ الإستحالة في الأمر؟ "
" لأنك كرديّ، وهيَ سيّدةٌ تركيّة! "، ردّ بنبرة مَن يٌسلّم بداهةً بأنّ الحليبَ ذو لونٍ أبيض. قال دارين في نفسه، ساخراً: " إذاً، هيَ سيّدة وأنا عبدٌ؟ لكنني لستُ عبداً مخصياً، على أية حال! ". أدرك دارين، ولا غرو، مبلغَ تهيّب هذا القرويّ من الأتراك، بل ومدى صغاره أمامهم. في حقيقة الأمر، أنّ تلك الحالة تنطبقُ على الكثير من مواطنيه الكرد، الذين يعتقدون فعلاً أنّ التكلمَ باللغة التركية يَرفعُ من شأنهم ويَجعلهم مُتمدّنين. ففي مناسبةٍ أخرى، قالَ عمر لدارين عن ابن عمته دوغان: " لو كانَ روائياً مُبدعاً حقاً، لكتبَ بالتركية وليسَ بالكردية! ".
في صباح اليوم التالي، المَأمول، أفاقَ دارين مُبكراً إنما بمساعدة المُنبّه. هذا الجهازُ الكهربائيّ، الدقيق الحجم، كانَ على شكل تحفةٍ فنّية من الجبص المُلبّس بلونٍ ذهبيّ، وذلك لخلب لبّ زبائن المحلّ الشرقيّ، مُحدثي النعمة. لقد أشتراه دارين، لرخص ثمنه. إتفاقاً، أنّ ذلك المحل الشرقيّ، كانَ يَمتلكه ويُديره، زوجُ ميديا. وكانَ قد أشترى مع المنبّه، دورقاً فارسياً بديعاً؛ وإن كانَ بدَوره نسخةً مُقلّدة ورَخِصة. إذاك، قال له البائعُ ذو اللحية الصهباء، المُورَّجة بعطر المسجد: " لدينا دنانٌ أخرى لشراب ماء الورد ". فردّ عليه، مُناكداً: " بل يُعجبني هذا، لأنني سأضعُ فيه النبيذ! ". آنذاك، لم يكن ليخطر في ذهن دارين، أنّ هذا الشابَ، المزروع وجهُهُ ببثور الكبت الجنسيّ، سيستأثرُ بمَن كانت حبيبته.
عقبَ تناوله الفطور، سمعَ رنينَ جرس الباب. خاطبَ دارين نفسه: " لو أنها هيَ، فإنني بالفعل ‘ روبوت ‘ قد وُجّهَ من قبلها! ". تأكّدَ من أنها أتت على الموعد، وذلك بإلقائه نظرة من العين السحرية؛ نظرة، أوهمته أنّ آينور هانم قد أستحالت إلى كائنٍ من كهرمانٍ أرجوانيّ. في الردهة، على ضوء السماء المُفرغة ليلاً من الغيوم، راحَ يتأمّل هيئتها المُبهرة. لاقت ذلك بضحكةٍ خفيفة، فيها بحّة مُميّزة صنو صوتها. بقيَ ذاهلاً، فيما كانَ يتناولُ منها الميكا، المُحتوي على غرضٍ ثقيلٍ بعض الشيء. قالت له: " ألا تريد رؤية هديتي؟ "
" آه، نعم، أشكرك "، أجابَ ببطء وهوَ يُحاول فتحَ لفافة من الورق الصقيل. ثم ما عتمَ أن ظهرت لعينيه تحفةٌ أصيلةٌ بحق، وكانت عبارة عن طبقٍ من الكريستال الثمين، فيه عروق نباتية مُلوّنة، كأنها من صنع نحّات. فاجأته الضيفة، على الأثر، بأن طلبت منه أن يَدَعها في الردهة: " أغلق عليّ أيضاً هذا الباب، المفتوح على الصالون ". فعلَ ما أرادته، دونما أن يشغل ذهنه بما بدا له أنها نزوةٌ: " ستتعرّى هنالك من ملابسها، لا غير ". ثم خطا نحو الطاولة العريضة كي يضع الطبقَ الجديد بمكان آخرٍ، رَخِصٍ، قد حالَ لونه. وكانَ في المطبخ، يهمّ بجلب فاكهة من الثلاجة لوضعها في الطبق، لما سمع صوتاً يُنبئ بفتح باب الصالون. بعدئذٍ حقّ له أن يتسمّرَ عندَ باب المطبخ، مذهولاً من جديد. بل ومال كيسُ الفاكهة بين يديه، وكادت الثمارُ أن تسقط على الأرض. عندئذٍ أفاقَ من ذهوله، وراحَ ينقلُ عينيه الشرهتين في التفاصيل المُثيرة، المَبذولة لهما: آينور هانم، كانت مُسربلة في ملابسٍ داخلية، شبيهةٍ بما تظهرُ فيها فتياتُ الليل، اللواتي سبقَ وشاهدهن دارين في أمستردام وهنّ وراء الواجهات الزجاجية لمقصوراتهن، المُضاءة بألوان الشهوة.
" لا ريبَ أنها أول عشيقة أحظى بها، تُعلي من شأن الملابس الداخلية "، خاطبَ دارين نفسه. حينَ طلبَ منها أن تستديرَ، ليلقي نظرةً على ردفيها وهما مكتنزان بالسروال الداخليّ الرهيف، قالت له: " لا تُمنّي نفسك إلا بما أتكرّم به عليها "
" مَن ليسَ له دالّة على مؤخرة إمرأته، فإنه ليسَ رجلاً! "، ذكرَ لها ضاحكاً هذا المثلَ الشاميّ. وكانت حينئذٍ قد أستدارت عن طيب خاطر، بل وتركت عشيقها يحتضنها من الخلف.

2
" روبوت "؛ هكذا عنّ لدارين أن يصفَ نفسَهُ، وذلك من ملاحظته لدقّة تنفيذه تعليماتِ عشيقته منذ صباح اليوم الأول لبدء علاقتهما السرية. مع مرور الأيام، إكتشف أشياءَ أخرى عززت من يقينه بطبيعة شخصية آينور هانم. لقد تبيّنَ أنها تمتلكُ ذلكَ المطعم في " سالو هال " ستوكهولم، أينَ تناولا سندويش الدونر حينَ عزما أول مرةٍ على زيارة دوغان. مَن يقومُ بإدارة المطعم، كانَ أحدُ أقاربها من جهة الأب؛ وهوَ أيضاً لاجئٌ سياسيّ، كانَ ينشط في نفس تنظيم شقيقها الكبير، اليساريّ. كانَ رجلاً على شيءٍ من البدانة المُفرطة، يصعبُ تقدير عُمره لهذا السبب، كما أنّ قسماته قد أغرقت تحت سطح الدهون والشحوم. كذلك كانَ إنطباعُ العشيق عن الرجل، عندما أخذته ابنة العم إلى المطعم مُجدداً في إحدى زياراتهما للعاصمة. آنذاك، جاز لدارين أن يُعجبَ لجواب عشيقته، لما تساءلَ عن موقف ابن عمها وهوَ يراها للمرة الثانية مع نفس الشاب الغريب: " ما يُشغل ذهنُهُ حقاً، إضافةً لجمع المال، شكوكاً تراوده إزاءَ مسلك إمرأته، المُتّسم بالكثير من الحريّة "
" ألا تساوره نفسُ الشكوك حينَ يراكِ معي؟ "
" لقد أخبرته، مُسبقاً، أنك زميلي في المعهد "
" ربما يُخبر زوجكِ بأمرنا، بما أنّ الرجلَ ذو طويّة مرتابة؟ "
" لكانَ قد فعل ذلك مذ ظهورنا ثمة لأول مرة، وعندئذٍ لما كنتَ رأيته مرةً أخرى على رأس إدارة مطعمي! "، ردّت باستهتار مع ضحكتها الخفيفة. لعلها كانت ستضيفُ أيضاً، بنفس النبرة: " ولكانَ خلو، بصفته طليقي، قد فقدَ أحدَ مطعميه علاوةً على الفيلا، التي نقيم بها! ". ليسَ كلامها، حَسْب، بل وأيضاً ملامحها، مَن أظهرها عندئذٍ كإمرأةٍ جبّارة ومُتسلّطة. مع ذلك، كانَ مظهرُها قناعاً يُخفي وجهَها الحقيقيّ؛ وجه إمرأة غيورة، وعلى شيءٍ كبير من سوء الظن: إنه طبعُ الشخص، الذي يعتبرُ شريكَهُ بمثابة الملكيّة الخاصّة ـ كما عرفناه قبلاً من مثال عادل، طليق نادين. ولكن، أكانَ ثمة ما يُبرر بالفعل غيرةَ آينور هانم؟
في أحد الأيام، التي سبقت الإحتفال بالكريسماس، تقررَ في المعهد زيارة " متحف الشمال "، المُستَمدّ صفته من الدول الإسكندينافية. وكانَ المتحفُ يقعُ في ذلك الأرخبيل، المُشكّل من جزر ستوكهولم القديمة، المرتبطة بعضها ببعض من خلال عشرات الجسور. على مقربة من المتحف، ترتفعُ هضبةٌ مُشجّرة، مُشرفة على البحر، تتربّع عليها حديقة حيوان، إقتصرت على دببة وذئاب وحيواناتٍ قطبية أخرى. الجانبُ الآخر من المكان، كانَ يحتفي بما يُعدّ أكبر مدينة ملاهي للأطفال والفتيان في البلاد. كالعادة، قررت آينور هانم في ذلك اليوم الذهابَ بسيارتها إلى المتحف، وبالطبع كان برفقتها كلّ من عشيقها وصديقتها الأرمنية.
في يومٍ سابق، وكانت العشيقة قد أخذت علماً بأمر الرحلة المدرسية، فاجأت دارين حينما حضرت إلى شقته وهيَ تحملُ كيسين عليهما اسمُ محلّ شهير، مُتخصص ببيع الألبسة الرجالية. قالت له، بنبرة إنتقاد ونفاد صبر معاً: " أريدك أن تتألّق بمَظهرٍ مُناسب، بدلاً عن هيئتك الرثّة والغريبة، الشبيهة بهيئة لاعبي السيرك ".
أزعجه كلامها، وأكثر منه هداياها، فقال: " لو أنكِ لم تنقلبي إلى إمرأة أعمال، لأدركتِ أنّ هذه هيَ هيئة الرجل المُبدع سواءً في الفن أو الأدب ". ما لم يرَ داعٍ للتوضيح حينئذٍ، أنه عمدَ إلى إتخاذ هذه الهيئة مذ قراءته في فترة المراهقة لسيرة حياة الشاعر الروسي ماياكوفسكي. هذا الأخير، كانَ يتعمّدُ الظهورَ غالباً بقميصٍ أصفر كئيب، وفوق ذلك، غير مُنسجم لونه مع البنطال والسترة والقبعة. مؤلّفة السيرة، إلزا تريولي، كانت شقيقة عشيقة الشاعر؛ وهيَ التي أضحت، لاحقاً في المنفى الفرنسيّ، زوجةَ الشاعر لويس أراغون.
رداً على كلام دارين، قالت آينور هانم دونَ أن تتفهّمَ سببَ إعتراضه: " صديقك دوغان، أليسَ بالكاتب؟ إنه يظهرُ دوماً، وفي كلّ مرةٍ، بسترةٍ أنيقة مُختلفة ". ثم أضافت ملاحظةً، كانت صائبة ولا شك وتدلّ على ثقافتها: " البوهيمية، من المُفترض بالكاتب، أو الفنان، أن يُظهرها في أعماله الإبداعية وليسَ بهندامه وطريقة عيشه. وإلا لكان لزاماً عليه أن ينضمّ لجماعة الهيبيين، الذين يقضون الوقتَ على الطرقات وهم يُحششون ". مع أنّ منطقها غلبَ حجّته، فإنه بقيَ يُعاندها. إلى أن هتفت، أخيراً، في مزيدٍ من الضيق: " أبقَ إذاً مُتمسّكاً بهيئتك، فأنتَ حرّ ". ثم استدركت، بنبرة رجاء: " لكن لا ترفض هذه الملابس الجديدة، لأنك ربما تغيّر رأيك فيما بعد ". هزّ رأسَهُ مُوافقاً، وقد أعترته حالة تأنيب الذات لأنه لم يُسمعها حتى كلمة شكر على هداياها.
لكن مشادةً وقعت بينهما، مُجدداً، وكانا في طريق العودة بالسيارة إلى أوبسالا. وكانت كريستينا قد تركتهما، وذلك مذ علمها بعزمهما على زيارة أصدقاء في ستوكهولم. وكانَ سبب المشادة، هوَ الغيرة. إذ أحتفظت آينور هانم بالصمت طوال معظم الطريق، وعلى غير عادتها، وكانت على شيءٍ من التوتر. وكانَ أن سألها دارين عما ألمّ بها، عندما قاطعته بغضب: " أظننتَ أنني عمياء، فلم ألحظ ما أحاطتك به شيلان من إهتمامٍ دونما أن تراعي حتى شعورَ رجلها؟ "
" لم ألحظ، من ناحيتي، شيئاً جديداً في مسلكها معي "
" بالطبع، لأنك قد أعتدتَ على مسلكها "
" ولكن ما هوَ ذنبي، لو أنّ مُعجَبَةً تصرّفت معي بتلك الطريقة؟ "، ردّ عليها مُناكداً. رمقته بنظرة هزءٍ، فيما صدرها ما فتأ يغلي بالغضب: " إنها مُعجبة ولا شك بهيئتك، المثيرة للضحك. ولعلمك فإنّ تلك المرأة، التي تمدّنت مؤخراً، كانَ يدفعها الشبقُ إلى التفكير بمضاجعة الحمير في قريتها! "
" في كل الأحوال، فأنا لا شأنَ لي بأيّة قرية "، قالها مُطلقاً ضحكة مكتومة. ثم أضافَ: " أبهذه الصورة المُشينة، تتكلمين عن صديقتكِ؟ ". ألقت عليه نظرة حانقة، قبل أن تجيب: " إنني أصلاً مُبتلية بهكذا بيئةٍ، بدائية ومتخلّفة "
" لو أنّ هذه البيئة كما زعمتِ، لما كنتِ تتمتعين بالحرية كأيّ إمرأة أوروبية. بل إنّ الكثيرات من الأوروبيات يتمسكنَ بحالة العزوبية، لكي لا يندفعنَ إلى الخيانة الزوجية "
" إنك تتكلّم عن الخيانة الزوجية، بمنطق البريء ". صرخت بحدّة دونَ أن تنظرَ إليه. لم يعلّق دارين على كلامها، ولعله لم يسمع جملتها الأخيرة. لأنه في الأثناء، لحظ بقلق كيفَ تزدادُ سرعة السيارة على الطريق العريض، المُكتنف بالعتمة. أثارها صمته، فالتفتت إليه لتخاطبه مشدّدةً على الكلمات: " يا لكَ من منافقٍ، مأفون! "
" توقّفي! "، صرخَ بها وهوَ يرى سيارةً أشعلت النورَ الأحمر تمهيداً للإنعطاف إلى طريقٍ جانبيّ. لكنّ آينور هانم لم تَدُس على كابح السرعة إلا متأخرة، لتصطدم بمؤخرة تلك السيارة. عندما دلفا إلى الخارج، لحظا أن دخاناً خفيفاً بدأ يتصاعد من مقدمة سيارتهما، التي تهشمت قليلاً. أما السيارة الأخرى، وكانَ سائقها قد نزل منها بدَوره، فإنّ ضررها كانَ بسيطاً. فيما كانت آينور هانم تتكلم مع الرجل، وكانَ سويدياً، وصلت سيارة بوليس إلى المكان ونزل منها عنصران. وكانت هيَ، بحديثها الطليّ والمُراوغ، قد لحقت إقناع ذلك السويديّ بما يتوجب عليه أن يقوله للبوليس: " لحظتُ سيارةً أخرى، قادمة من الطرف المُقابل، كيفَ سلّطت ضوءاً مُبهراً؛ ما أدى إلى صعوبة الرؤية ومن ثم الحادث! ".
غبّ إنتهاء الشرطيّ من تسجيل المَحضر، قال للسيّدة ومُرافقها: " سيارتكما مُتضررة، وستُرفع من مكان الحادث بعد قليل. في وسعنا أن نأخذكما معنا إلى مسكنكما في أوبسالا ". ما لبثت سيارة البوليس أن أوصلته ، أولاً، إلى مسكنه. لما همّ بالنزول، ألقى تحيةً على رفيقته. لكنها لم ترد أو تنظر إليه. لحظ دارين، عندئذٍ، كيفَ تبادل الشرطيان إبتسامةً ساخرة.

3
ما يزيد عن الشهر، وغيابُ دارين عن المعهد يتكرر، على الأقل في الساعتين الأوليتين من الدروس. وكانَ ذلك قد أثّر على راتبه، الذي وصله من خلال شيكٍ أنيق قبلَ عطلة الكريسماس ببضعة أيام. في المقابل، كانَ صرفه قليلاً على المواد الغذائية بشكلٍ خاص، طالما أنّ عشيقته كانت تمدّ بها ثلاجته يومياً تقريباً. مراتٌ عديدة، طلبَ منها ألا تفعل ذلك. وكانَ جوابها في كلّ مرةٍ تقريباً، مع فمٍ مُتبسّمٍ: " كأني بك نسيتَ، أنّ المرأة في هذه البلاد هيَ المسئولة عن تدبير المنزل ". مع مضيّ الوقت، كانَ عبوسُهُ يضطرد حينَ يسمع ذلك التبرير، الذي كانَ يعني أنها تفكّرُ جدّياً بمُستقبلٍ يجمعهما تحت سقفٍ واحد. لعلها كانت قد لحظت تغيّره، وكانَ ذلك سبباً غير مباشر لمشادتهما الأخيرة، المُنتهية بالحادث على طريق ستوكهولم. لقد تجنّبته مذاك اليوم، وكانت تحضرُ إلى المعهد في سيارة تيمور ريثما يتم إصلاح سيارتها.
" إنها هجرتني، وذلك في أفضل وقتٍ كان سيُتاح لنا فيه قضاء وطرنا دونما حسيبٍ أو رقيب "، فكّرَ دارين بأسى في صباح أول أيام عطلة الكريسماس ورأس السنة. فيما مضى، بانغماسه مع عشيقته في الملذات، لم يكن مُكترثاً بمراجعة هذا الموقف أو ذاك حينَ كانَ يختلي بنفسه. وكان يعجبُ لسهولة سيطرته على جسدها، وأنها كانت تستسلمُ لأكثر نزواته إثارة للتقزز. غير ذلك، ما كانَ ليشغل به نفسه على أثر إنقضاء تلك الصباحات، المَشهودة بالشهوة والرغبة والغلمة: " ربما أنّ الحرمان الجسديّ هوَ دينامو فكر المرء، وعلى ضوئه تُبتدع النظريات الفلسفية والأدبية والفنية. إنّ الكبت الجنسيّ، الذي ركّز عليه فرويد وتلامذته، هوَ صنو ذلك الحرمان. الغريب، من ناحية أخرى، أن يُزاح شعورُ الحب جانباً "، خاطب داخله في أوان وحدته الصباحية الطارئة. لقد أقنع دارين نفسه، طوال الأشهر الأربعة الأخيرة، أنه وقعَ حقاً في غرام آينور هانم. حتى علاقاته الجسدية مع هذه وتلك في خلال ذلك الوقت، كانت تُغذّي أوارَ غرامه عوضاً عن إخماد جذوته: " الآنَ، عقبَ إختباري لخلق عشيقتي ومدى غيرتها، فإن عمدتُ مُجدداً لمُحاولة الإرتواء الجنسيّ ـ بالتعرّف على فتاة جديدة أو تقليب الدفتر القديم ـ فإنّ هذا يعني المُغامرة بذلك الغرام والحُكم عليه بالفناء ".
أسبوعٌ مُمضّ، انقضى على هذا المنوال. لحين أن فاجأته آينور هانم بالحضور ذات صباح، وكانَ قد أخلد للنوم مُتأخّراً. أطلقت ضحكتها ذات البحّة الخفيفة، قبل أن تقبّله في فمه: " كأنك سلوتَ موعدنا الغراميّ؟ "، داعبته بهذا السؤال فيما كانت تخلعُ جزمتها الشاموا عالية الساق. إلا أنه تشبّثَ فيها عند الردهة، كما يفعلُ الهرّ بسمكة طازجة، فلم يَدَعها إلا بعدما خلع عنها كل ثيابها. قالت له مُستاءة: " وأنا من أشتريتُ ملابسَ داخلية جديدة، خصيصاً لهذا اللقاء "
" ستكتسين بها لأجلي، لاحقاً، طالما أننا سنقضي النهارَ كله معاً "، ردّ دارين فيما كانَ يعود معها إلى السرير المُفعم بأنفاس النوم. طارحها الحب المرة تلو الأخرى، وكانت في الأثناء تقتنص ما أمكنها من لذّة قبل حلول لحظات الألم؛ وإنها لحظاتٌ ألفتها ـ كعادة تحويل المرء وجع أسنانه إلى متعة، وذلك من خلال استعمال عود التنظيف.
لم تعُد تستفزّه، بُعيد إسترخائه، بأسئلةٍ عن محظياته السابقات وما لو كانَ قد أخضعهن بدَورهن لإمتحان لذّته، المُستمدّة من ألمهن. بل إنها كانت قد أخرجته عن طوره في إحدى المرات، بالقول: " لقد قرأتُ في مقالةٍ علمية، أنّ الشذوذَ حالةٌ وراثية "
" لا تتكلمي، كجاهلةٍ بلهاء! الشذوذ، هوَ حالةٌ مُحددة بين أفراد الجنس المُتماثل؛ وليسَ بين الرجل والمرأة "، قاطعها آنذاك بنبرةٍ شديدة. مع ذلك، كانت محقّة لو تم ربط ملاحظتها العلمية بحجّته المنطقية. وبيوغرافيا أعلام الأدب، ذاخرة بأمثلة عن هكذا إنحراف كانت الوراثة سببه: لقد عزا بازوليني مثليته إلى جينات السلالة، وصولاً إلى الخال الشاب، الذي أثّرَ فيه أيضاً بفكره الماركسيّ. فيما أنّ بول بولز، نصف المثليّ، تكلم في سيرته الذاتية عن حادثة من الطفولة كانَ بطلَها الرئيسَ أحدُ أقاربه. امرأته، جين أور، وكانت كاتبة موهوبة أحرقت معظم مخطوطاتها في نوباتها العصبية، كانت بدَورها سحاقية. ولقد عاشت معه حياةً عقيمة لمدة تقارب العقدين بين باريس وطنجة، لحين وفاتها المُبكرة بمرضٍ عُضال.
" أوسو "، قريب دارين، عليه كانَ أن يُمتحن بكرامته، بحسب عقلية عقد الخمسينيات. لقد تسنّى له رؤية الفتاة أكثر من مرة، بما أنه صديقُ شقيقها الكبير، فأدارت رأسَهُ بحُسن قسماتها وإمتلاء بدنها؛ بالأخص، لما كانت تتمايلُ بردفين فاتنين وكما لو أنهما ثملان بموسيقى شرقية راقصة. وكانت دمشق، في ذلك الزمن، قد أمتلأت بالراقصات المصريات، اللواتي تسببنَ في فتح المزيد من أماكن اللهو في المدينة. الشغفُ بالرقص الشرقيّ حدّ التولّه، كانَ نتيجة الإقبال على الأفلام المصرية، بحيث أنّ المسارحَ تحوّلت إلى صالات سينمائية. الحارَة، وكانت قد خرجت من قوقعة العزلة منذ مستهل ذلك العقد، فإنّ الرقصَ الشرقيّ أضحى يأخذ مكانَ الدبكة الكردية الجماعية في العديد من حفلات الأعراس.
أوسو، بقيَ مُتردداً لفترةٍ طويلة في خطبة الفتاة، على خلفية ما نمّ إليه من الأقاويل عن شبق أمها. الجارُ الأقرب، لحظَ مراراً تلك المرأة الأربعينية، وهيَ تعتلي السلّمَ كي تتلصص على حجرة نومه في أثناء معاشرته لقرينته. إلى الأخير، وبعدما هدرَ بضعةَ أعوامٍ في التردد، تكلّم أوسو مع ذلك الصديق بشأن شقيقته. صديقه الآخر، وهوَ ابنُ عم العروس، أحيى حفلَ الزفاف بصوته الرخيم، الذي سيصعد به مستقبلاً إلى النجومية.
" حبيبي، أنا متألمة لحالة حرمانك هذه. فلو شئتَ، في وسعك نيل متعتك من وراء "، لعل العروس فاهت أيضاً بهذا الكلام بينما هيَ مستلقية بعريها الصارخ على بطنها. إذ مضى نحو أسبوع، وما أنفكّت تتعللُ بحالة الرهاب من فضّ بكارتها. في نهاية الأسبوع الثاني، كانَ أوسو ما زالَ غارقاً في المتعة المُحرّمة. ثم هيّأ له الوسواسُ، على حين غرّة، أنها غير عذراء: إنّ نقطة زهيدة من الدّم، غير كافية لإثبات إحتفاظ عروسه بسلامة بكارتها؛ هيَ مَن كانت في خلال أسبوعين تخشى النزيفَ!
منذ صباح اليوم التالي، أرسلَ عروسَهُ إلى منزل أسرتها وهيَ مُجللة بالعار، المُظلل بظنونه ووساوسه. ثم أنفجرت الفضيحة في الحارَة، لما خاضَ الطرفانُ معركةً قضائية إنتهت لصالح العروس: لم يقتنع القاضي بحجّة رهاب العروس، المُبررة بقاءها تحت سقف زوجها لمدة ناهزت على الأسبوعين. ثم عزز ذلكَ، طلبُ الفتاة المعنيّة الإختلاء بالقاضي. هذا الأخير، على أثر سماعه تفاصيل وقائع المتعة المُحرّمة، أقترحَ على الفتاة تطليقها مع أحتفاظ عائلتها بالمهر والذهب.
حينَ عرفَ أوسو موقفَ القاضي، عمدَ من فوره إلى مساومة أهل عروسه في عودتها إلى بيته. آبت الفتاة التعسة كي تستظل تحت سقف بيته، وواصلَ الرجلُ المُوسوس إنهاك أعصابها باستجواباته عمّن يكون مُنتهك عذريتها. عبثاً كانت جهودُهُ، على أية حال. تساقطت أوراقُ الروزنامة، الواحدة تلو الأخرى، وما زال يُحدّق في عينيّ هذا وذاك من شبّان الجيران عسى أن يكتشفَ المُنتهك. في الأثناء، كانت قد انتشرت في الحارة حكايةُ الإبن، الذي بلغ به البرّ بوالدته أنه كانَ يحلق لها شَعر عانتها. لم تكن هذه سوى حماته، المُعرّفة بالشبق؛ ما دفعَ بظنون أوسو، في نهاية المطاف، للتفكير في زنا المَحارم ـ كتفسيرٍ جائز، لموضوع إنتهاك عذرية إمرأته.

4
بعيداً عن أيّ ذكرى مُنغّصة، كانَ دارين وآينور هانم في حالةٍ من الإنسجام، الجسديّ والروحيّ، غبّ قطيعةٍ أستمرت لنحو أسبوع. تحصّنا في هذا الصباح الشتويّ وراء أسوار مَخدع المُتعة، لحين شعورهما بالجوع. أقترحَ دارين عندئذٍ، أن يمضي إلى المطعم اليوغسلافي كي يأتي بقرصَيْ بيتزا. آينور هانم، قدّمت إقتراحاً آخر: " سنتناولُ غداءً صحياً، هناك في أحد المطاعم الراقية بالمدينة. لأنّ السيارة في خدمتنا، وذلكَ عقبَ عودتها إلى رونقها السابق ".
ثمة، في المطعم اليوناني، " الكسندر "، وبينما كانَ دارين يرتشفُ نبيذَ ساموس، المُحلّى، أضافت عشيقتُهُ مفاجأةً جديدة: " خلّو سافرَ إلى تركيا، ولن يعودَ قبل أسبوعين. إنها سانحةٌ نادرة، لنقضي معاً أكبرَ وقتٍ مُمكن ". اتسعت ابتسامتها، قبل أن تستطرد: " سنمضي غداً في سيارتي إلى مدينة هلسنبورغ، فنبقى يومين في ضيافة عائلة صديقة. بعدئذٍ نصعدُ مع السيارة إلى ناقلةٍ بحرية، تأخذنا إلى كوبنهاغن "
" ستكون رحلةً رائعة، لو إننا غير مُجبرين على المكوث عند تلك العائلة "
" هيَ عائلة ابنة عمي، للحقيقة، ورَجُلها إنسانٌ مُتحرر الفكر "، قاطعته بهذا التوضيح. ثم أستدركت: " وعلى فكرة، فإنّ رجلها يتكلمُ نفسَ لهجتكم السورية؛ كونه من ولاية هاتاي "
" وماذا عن ابنتكِ؟ "
" خجي سافرت مع أبيها. هل كنتَ تعتقد، أنها سترافقنا في رحلتنا؟ "
" لا، ولكنني ظننتُ أنكِ ستتركينها مع أخوة زوجك "
" ليتك تعلم ما تكنّه لكَ خجي من محبّة، هيَ التي نادراً ما تلتقي مع أبيها "
" وأنا، قطعاً، أبادلها نفس العاطفة "، ردّ دارين فيما هاجسٌ خفيّ بدأ يطفو على سطح نفسه. لقد فكّرَ، أنها ربما عوّلت على موضوع الطفلة كي تُمهّد للحديث الكارثيّ عن زواجهما. إلا أنها أمسكت عن الكلام، مكتفية بتأمّل عينيه في شغف.
صباحاً، إنطلقت بهما السيارة في ساعةٍ مُبكرة نوعاً، فانسابت عبرَ الطريق النديّ، الذي سبقَ للآليات أن أزاحت عنه ركامَ الثلج جانباً. التلالُ البيضاء الناصعة، سترافقُ رحلتهما طوال الطريق إلى هلسنبورغ، المقدّر بنحو خمس ساعات في سرعةٍ متوسّطة. في الأثناء، تبادل دارين الحديثَ مع صديقته. وكانَ قد قررَ، سلفاً، ألا يتجادل معها بأية مسألة شائكة. وإنه قرارٌ صائب، بالنظر إلى وحشة الطريق وكآبته في هذا الفصل من السنة، ما لو تسببَ هكذا جدل في حادثٍ جديد.
من ناحيتها، استعملت آينور هانم تركيّتها في مُحاولة شرح بعض المواضيع، بالنظر إلى أنّ صديقها صارَ يلمّ بالقليل من مفردات وتعابير هذه اللغة. كاد الجوّ أن يغيمَ بسُحُبٍ مشئومة، لما قال لها دارين بنبرة مُنتقدة: " لو أنكِ في خلال أعوام زواجكِ تعلمتِ القليلَ من الكردية، لكان في وسعنا التفاهم بشكلٍ رائع "
" مَن يرغب بإضاعة وقته في تعلّم هكذا لغة، بدائية؟ "
" الكردية ليست لغة بدائية، وهيَ أغنى من التركية "
" هه، أغنى من التركية! "
" لغتنا نقية، تقريباً. فيما أنّ ما يزيد عن الخمسين بالمائة من المفردات التركية هيَ دخيلة، مُستعارة من العربية والفارسية واللاتينية.. وأيضاً، بالطبع، من الكردية "
" كم كانَ يُغيظني أن أسمعَ من الكرد، مثل هذا الكلام: الأتراك سرقوا مفرداتنا، سرقوا أغانينا، سرقوا آثارنا.. وأنا كنتُ أقول لهم: إذاً لِمَ تعيشون في تركيا؟ لِمَ لا تذهبون للعيش عند أخوانكم في كردستان؟ "
" آه، معكِ حق في هذا القول! "، قالها دارين ضاحكاً في حنق ثم أوقفَ المُجادلة عند هذا الحدّ الكوميديّ.
هلسنبورغ، مدينة صغيرة، تقع على البحر في مقابل أرخبيل الجزر الدنماركية، وأيضا على مسافةٍ قصيرة من حدود النرويج. وقد وصلت سيارة آينور هانم إلى مسكن ابنة العم على وقت الغداء تقريباً؛ أي وقته، بالمفهوم الشرقيّ لا السويديّ. كونه يوم عطلة نهاية الأسبوع، وجدا المُضيفَيْن في مسكنهما، وكانَ من نوع " راد هاوس " ذي الدورين مع حديقة صغيرة خلفيّة ومَساحة مُظللة بسقفٍ قرميديّ ـ كمَوقف للسيارة. كانت ابنة العم امرأة شقراء بدينة، تقاسيمها كبيرة ولكن على قدرٍ من التناسب. بينما زوجها، وكانَ يلوحُ أصغر منها عُمراً، تمتع بالوسامة والرشاقة. لكنهما، إزاء ضيفيهما، كانا على نفس السوية من اللطف والودّ والكرم. بدا واضحاً من العدد الكبير نسبياً من الأولاد، المُكمّل نصف دزينة، أنّ المرأة تبغي بهذه الطريقة التقليدية ربط الرجل. في هذه الحالة، وفي المُقابل، يُمكن التفكير بسبب عدم إنجاب آينور هانم سوى لطفلٍ واحدٍ. ذاتَ مرة، قالت لدارين: " أنا أؤمنُ بالقدَر، بمعنى كونه قوّة خفيّة. فإنك لو كنتَ، مثلاً، تبحثُ عن قميصٍ معينٍ بين كومة غسيل، فلن تجده إلا بعد جرد الكومة قطعة قطعة! بهذا المعنى، أجدُ أنني التقيتُ، مُتأخرةً، ذلكَ الرجل الذي يُناسبني حقاً ". ثم أستدركت، بنبرة حنان: " مع ذلك، فإنني لا أتخلّى عن خجي في مُقابل كل رجال العالم ".
على مائدة الغداء، وكانت حافلة بثمار البحر، تبادل دارين الحديثَ مع المُضيف. هذا الأخيرُ، كانَ يتكلّمُ بنفس لهجة ريف الساحل السوريّ. وكانَ علويّاً كزوجته، بالطبع مع إختلاف مذهب كل منهما عن الآخر. وكانت مفاجأة جميلة لدارين، أن يُعلمه المُضيف أنه على قرابةٍ مُباشرة بالفنان المُخضرم، أدهم إسماعيل، الذي نزحَ من لواء إسكندرون عقب احتلاله ومن ثم عاش في دمشق لحين وفاته المُبكرة: " وعلى فكرة، يُقال أنّ أصول عائلتنا كردية! "
" لقد درستُ في فترةٍ من طفولتي ومراهقتي بمعهدٍ، حَمَلَ اسمَ أدهم إسماعيل، كائنٍ في منطقةٍ مُجاورة لحيّنا الدمشقيّ "
" وهل واصلتَ الإهتمامَ بالرسم حينَ كبرتَ؟ "
تدخلت آينور هانم للقول بنبرة زهو، وكانَ الحديثُ قد تحوّل إلى السويدية: " دارين رسّامٌ ماهر، وهوَ يدرسُ الآنَ في معهد الفنون ". أبدى المُضيف إهتمامه بالخبر، وكذلك بما أضافَ إليه المَعْنيّ من معلوماتٍ عن تمرّسه برسم الكاريكاتير السياسي وإشتراكه ببعض المعارض داخل وخارج سورية. ثم نهضَ الرجلُ، لكي يُري دارين بعضَ أعمال ذلك الفنان، المعلّقة في الصالون وحجرة المكتب: " جلبتُ هذه اللوحات من دمشق، لما كنتُ فيها بصفة اللاجئ السياسيّ قبل نحو عشر سنوات. وكذلك لديّ بعض أعمال شقيقه، نذير، لكنها موجودة في مخزن القبو لحين أن ننتقل إلى الفيلا ".
قالت ابنة العم لآينور هانم: " لندعهما يتحدثان في مواضيع الفن، ولنذهب إلى مركز المدينة قبل أن تَحُلّ الساعة الخامسة وتُغلق المحلات ". على أثر مغادرتهما المنزل، أجلسَ المضيفُ دارينَ في الصالون ومن ثم أقترحَ عليه شربَ الفودكا المُثلّجة. لاحظ هذا الأخيرُ حينئذٍ، أن اليساريين يُفضّلون الفودكا على غيرها من المشروبات الكحولية. علّقَ المضيفُ بالقول، دونَ أن يعدّ تلك الملاحظة مُوجّهة إليه: " بل إن بعضهم يمقتُ الويسكي، بإعتباره صناعة إمبريالية بريطانية "
" لقد ألتقيتُ خالد بكداش في موسكو مع بعض الرفاق الطلبة، قبل زهاء سبع سنوات. أنتَ تعلم عمّن أتحدث؟ حسنٌ، لقد كانَ القائدُ الشيوعيّ في رحلة علاج. انتبهتُ إلى أنه كانَ يُدخن ‘ فايسروي ‘ الأمريكي، وليسَ ‘ يافا ‘؛ سجائر معلّمه ستالين! "، قالها دارين ثم أسترسلَ في ضحكةٍ ساخرة. شاركه الرجلُ بالضحك. ثم ما لبثَ أن سردَ بعضَ ذكرياته، المُتواشجة مع الموضوع.
ليلاً، عادوا جميعاً ليقضوا سهرةً جميلة، تخللها بالطبع رنينُ أقداح الشراب. في ساعةٍ مُتأخرة، عرضت ابنةُ العم على الضيفين الرقادَ في حجرةٍ بالدور العلويّ. مُحرجاً، أبدى دارين رغبته في النوم على أريكة الصالون. عندئذٍ، وبدون أن تعلّق على كلامه، سحبته آينور هانم من يده ومن ثم دفعته أمامها على الدرج، المُفضي إلى تلك الحجرة. قالت له بنبرة تأنيب، لما أغلقَ البابُ عليهما: " ابنة عمي وزوجها، على علمٍ مُسْبَق أننا عشيقان! ".

5
عندما ودّع دارين المُضيفَ، طلبَ هذا منه بحرارة المرورَ على مَسكنه في طريق الإيّاب: " لكي نُكمل حديثاً، لم ينتهِ بعدُ ". إذاك، كانَ الضيفُ قد تحررَ تماماً من حَرَجٍ، لازمَهُ في مُستهلّ الزيارة. ففي الليلة السابقة، جعلَ عشيقته تغسلُ مؤخرتها مرتين على الأثر. وكانَ ذلك في مقابل الليلة الأولى، التي أمتنعَ فيها حتى عن مُجرّد مُداعبتها في الفراش. كذلك، من ناحية أهم، أسعده أن تمرّ الزيارة دونَ أيّ مشادةٍ أمام المُضيفَيْن. في حقيقة الحال، أنّ آينور هانم تصرّفت طوال الوقت بغاية اللباقة مع دارين. لولا أنها ضايقته قليلاً، بما كانت تفوهُ به قدّام الآخرين من عباراتِ الثناء بحقّه، فضلاً عن نظراتِ الإعجاب والوله.
الرحلةُ البحرية، كانت بدَورها على شيءٍ وافر من التسلية والمُتعة. لقد ظنّ دارين للوهلة الاولى، أنها ستكون مُضجرةً وكئيبة، كحال طريق السفر من أوبسالا إلى هلسنبورغ. لقد كادَ ألا يُلقي نظرةً على الخارج من نوافذ المركب، وذلك بسبب إنشغاله بالحديث مع صديقته في البار الأنيق، الحافل بالروّاد والصادحة فيه أنغامُ الموسيقى والغناء. سرّه عندئذٍ أن يُضطرّا أحياناً للصراخ كي يسمعا بعضهما البعض، وضافرا ذلك بضحكاتٍ عالية من تأثير الشراب. في الأثناء، ألتفتَ رجلٌ خمسينيّ، نالَ منه الكحولُ، إلى آينور هانم: " أأنتِ فنلندية؟ ". أطلقت ضحكتها ذات البحّة الخفيفة، قبل أن تُجيب: " لا، أنا تركية. لكنّ لغتينا من نفس المجموعة ". ثم عنّ لها، كالعادة، التباهي بعشيقها. فسألت الرجلَ، مومئةً إلى المعنيّ: " وصديقي، مَن يُشبه؟ ". تمعّن الرجلُ برهةً في هيئة دارين، ثم إذا به يُخاطبه بالفرنسية: " هل أنتَ من بروفانس؟ "
" لا، إنه من سورية "، تولّت ضاحكةً الردّ وكانت تعرفُ القليلَ من الفرنسية. ربما لم يسمع الآخرُ كلامها، أو زهدَ بالحديث. فإنه أشاحَ وجهَهُ إلى ناحية البارمان، وصارَ يتكلم معه. إذا بها تلمسُ يدَ عشيقها في رقّة، لتقول حالمةً: " طوال عُمري، أمِلْتُ بالعيش في باريس "
" كانَ لديّ الحلمُ نفسه في زمن الصبا، وقد شاركني به أحدُ الأصدقاء "
" سنفعلُ ذلك معاً، بمجرّد أن تحصلَ أنتَ على الباسبورت السويديّ! "
" إنني ما فتأتُ أحلمُ بمدينة الفن والأدب "
" لِمَ سافرتَ إذاً إلى موسكو لدراسة الفنون، بدلاً عن باريس؟ "
" كونها دراسة مجانية، وفوق ذلك، كانَ الطالبُ يحصلُ على راتبٍ شهريّ "
" أأحببتَ هناك فتاةً روسية من أولائي، الشبيهات بالدُمى؟ "
" بلى، ولكنها كانت أجمل من الدُمى "
" يا سلام! ولِمَ تخليتَ عنها؟ أم أنها هيَ مَن هجرتك؟ "
" لا هذا ولا ذاك، بل إنها ظروفٌ أجبرتنا على الفراق "
" أما زلتَ تُفكّر فيها؟ "
" فعلتُ ذلك دائماً، لحين أن تعرّفتُ عليكِ "
" أيّها المُحتال! "، قالتها ضاحكةً وهيَ تقرصُ يدَهُ. بعد قليل، أعلنَ أحدهم أنّ المركبَ قد وصل لميناء كوبنهاغن. أخذت عندئذٍ آينور هانم رفيقها إلى سيارتها، التي كانت تقف بانتظام مع عربات أخرى في مقدمة المركب.
المرّة الأولى، التي تواجدَ فيها دارين في العاصمة الدنماركية، كانت قبل ما يزيد عن الثلاثة أعوام؛ وكان قادماً بالقطار من أمستردام عَبْرَ الأراضي الألمانية، يحملُ في جنبه قلباً مَذعوراً. آنذاك، وكانَ الطقسُ ربيعاً، عَبَرَ كوبنهاغن خطفاً بجواز سفرٍ مزيّف، يحملُ شارة اليونان، كانَ قد حصلَ عليه في أثينا من قبل المُهرّب.
كون الوقتُ الآنَ في أوج فصل الصقيع، فإنه لم يكترث بتأمّل ملامح كوبنهاغن خِلَلَ نافذة السيارة. قالت له آينور هانم في أثناء الطريق، رداً على سؤالِهِ: " سننزلُ في فندقٍ أعرفه، يقعُ في مركز المدينة "
" هل سنبيتُ أيضاً في ذلك الفندق، أم نعودُ إلى هلسنبورغ؟ "
" بالطبع سنبيتُ في الفندق، وربما أكثر من ليلةٍ واحدة. إنسَ تماماً هلسنبورغ! "، قالتها بنفاد صبر. فكّرَ دارين، نافخاً في حيرة: " كم هيَ مزاجيةٌ وصعبة المِراس "
" هل قلتَ شيئاً؟ "
" لا، إلا إذا كنتِ تقرأين أفكاري! "، قالها في شيءٍ من السخط. على الأثر، أشارت بإصبعها إلى عمارةٍ ضخمة، أشبه بقصور النبلاء: " ذاكَ هوَ الفندق ". تبيّنَ لدى دخولهما المكانَ، أنّ ثمة ترميماً يجري في الدور الأرضيّ. على دهشتهما، لم يكن هناك أحدٌ من الموظفين في مكتب الإستعلامات. سارَ دارين بأثر رفيقته، مُجتازَيْن أخشاباً وأوعية دهان وأشياء من هذا القبيل، كانت مُتناثرة على طول الممشى الرئيس. ثمة في وسط الفوضى، أمكن لآينور هانم التعرّفَ على أحد المستخدمين. " إننا في ساعة الغداء، لكن من المُفترض أن يوجد موظفٌ مناوبٌ على الأقل "، قال لها قبل أن يُدير ظهرَهُ ويَمضي. لما آبا من جديد إلى المكتب، وجدا ثمة موظفة شابّة: " آسفة، كنتُ في الحمّام ". استخدمت هذه الموظفة اللغة السويدية، حال استلامها جوازَ سفر آينور هانم: " بسبب ترميم الفندق، فإنّ الزبائنَ يحصلون على تخفيضٍ بمقدار خمسين بالمائة "
" آملُ أنّ حجرتنا بعيدةٌ عن تلك الإصلاحات؟ "، سألتها آينور هانم. أومأت الموظفة رأسَها إيجاباً: " بالتأكيد، لأنني حجزتُ لكما حجرةً في الدور الرابع ". ثم أضافت بنبرة إعتذار: " المصعدُ معطلٌ، بسبب هذه الإصلاحات ". هكذا تعيّنَ على دارين حملَ الحقيبة الثقيلة، من طابقٍ لآخر، وفي كلّ مرةٍ كان يُردد حانقاً ـ كأنما يكلمُ نفسه: " كلّ هذه الأشياء اللعينة من أجل إقامة ليلة أو ليلتين ". في حقيقة الحال، أن الثقلَ لم يكن مصدرَهُ القماشُ؛ إنما حقيبةٌ أصغر حجماً، خاصة بزينة عشيقته. ثم ظهرَ أنّ الحجرة أنيقة وفارهة، ألحق بها صالة صغيرة تستخدم للمعيشة واستقبال الضيوف.
" سأحصلُ على دوشٍ سريع "، قالت له آينور هانم ثم أختفت خلفَ باب الحمّام. حينما خرجت، رأته مُستسلماً للنوم، كالطفل، وهو متمددٌ بنصف جسمه على أريكة الصالة. أيقظته برفق، فما عتمَ أن نظرَ في ساعته: " لقد بقيتِ ساعةً كاملة في الحمّام ". قالت ببساطة: " مكياجي أخذَ جلّ الوقت ". لما سألته ما لو كانَ يرغبُ أيضاً بنيلِ دوشٍ سريع، هزّ رأسَهُ نفياً. طلبت منه عندئذٍ، استعمالَ فرشاة الأسنان. قالَ وهوَ يتثائبُ: " سأفعلُ ذلكَ، حال عودتنا من المطعم "
" لن نعودَ إلى الفندق قبلَ منتصف الليل "، قالتها وهيَ تدفعه إلى الحمّام. عندما خرجَ بأسنانٍ لامعة، تصدرُ صريراً، طرحَ عليها سؤالَهُ المُؤجّل: " وماذا سنفعلُ حتى منتصف الليل في هذه المدينة، المُتجمّدة والكابيَة؟ "
" هل كنتَ قبلاً في الحيّ الشهير، كريستيانيا؟ "
" لم أرَ تقريباً من كوبنهاغن سوى محطة القطار والميناء، وذلك حينَ مررتُ بها في طريقي إلى السويد "، ردّ وفي الأثناء كانَ ينظرُ بامتعاض إلى صورته في المرآة الكبيرة. عانقته من الخلف، متسائلةً: " ولكنك كنتَ في أمستردام، ولا بدّ أنك زرتَ قلبَها، النابضَ بالرغبة؟ "
" نعم، إذا كنتِ تقصدينَ حيّ العاهرات! "
" إنّ حيّ كريستيانيا، يُدعى ‘ أمستردام الصغرى ‘؛ كونه نسخةٌ مُشابهة "
" ولكن، ما شأننا بهكذا مكان؟ "
" إنه مكانٌ مُسلٍّ ليلاً، وسأرافقكَ لمُجرّد الفضول "، قالتها وهيَ تعبثُ بوَسْطِهِ. مُهتاجاً، إلتفتَ فقبّلها ومن ثم طرحها على الأريكة. بيد أنها تملّصت من براثنه، قائلةً: " ليسَ الآنَ، بل حينَ عودتنا من كريستيانيا ".

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي