|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
دلور ميقري
2023 / 7 / 5
1
كان دارين من النرجسية، أنه أعتقدَ فعلاً بقدرته على إرضاء المرأة من خلال تناوب المتعة والألم. رأى ذلك التنويعَ ضرورياً، دفعاً لملل العادة أثناء الجماع. وربما لم يكن قد توصل إلى تلك القناعة لولا أنه شاعرٌ، مؤمنٌ بالحداثة ونبذ الأساليب القديمة. ولو فنّدَ أحدهم رأيه، بالقول أن البيولوجيا غير الشعر، لردّ بلهجةٍ ماجنة: " وماذا عن أسلافنا البدائيين، الذين ظلوا عشرات ألوف السنين يركبون المرأة على طريقة الحيوانات؟ ". لكنه لو كانَ أيضاً على شيءٍ يسير من المنطق، لأمِلَ بمَن تتفهّم نظريته في المعاشرة، أن تكونَ بدَورها شاعرة، أو فنانة، وليسَ إمرأة ذات عقلية تقليدية كنادين. هذه الأخيرة، كانت أكثر من مرة قد خرجت من شقّته وقد خلّفت في فضائها قَسَماً مُحلّقاً بألا تعودَ مرةً أخرى أبداً. بيدَ أنّ عودتها، لم تكن تتأخّر حتى لو لم تسمع صوته سلفاً على الهاتف. إنه لم يكن قد سئمَ منها بعدُ، وما تعمّده الإستهانة بمشاعرها إلا لخشيته من ضياع حرّيته الشخصية. لقد كانَ يتهرّب كلّ مرةٍ من موضوع الزواج، بمُسوّغ جديد. رغبته بحضورها بينَ فترةٍ وأخرى، كانت لشعوره بالحرمان الجنسيّ لا لأنه على شوقٍ للحديث معها. " فأيّ حديثٍ مُجدٍ، يُمكن أن يدور بين شاعرٍ وإمرأة تقليدية؟ "، هكذا كانَ يُقنع نفسه. حقاً إنها جامعية، لكنه إفتقدَ لديها الثقافة بالحدّ المطلوب. عندما كانَ يتكلم، مثلاً، عن مشاريعه الأدبية، تأخذ هي بالتثاؤب؛ ولو عن غير قصدٍ مُبيّت. من ناحية أخرى، في الوسع القول أنّ عقد التسعينيات شهدَ العديدَ من حالات زواج الشعراء بالشاعرات. إنّ أولئك، خالفوا وصيّةَ بودلير أو لم يسمعوا بها أصلاً: " على الشاعر أن يتجنّبَ الإقترانَ بالمرأة المثقفة، بنفس القدْر من تجنّبه للمرأة المومس ".
كان طريقُ دارين مُمهداً للتقرب من إمرأة مثقفة، سيلتقيها في النادي الكرديّ كل يوم سبت. لقد دأبت تلك المرأة التركية، آينور هانم، على مرافقة ابنتها إلى درس الرسم. إذاك لم تعُد تُبهر المدرّس بهيئتها، الأنيقة والمُثيرة، مثلما تفعله بقدرتها الذكية على تناول أيّ حديث لتجعل منه مادة أدبية أو فنية. إلى ذلك، فاجأته حينَ علمت منه أنه سيبدأ بالخريف الدراسة في معهد الفنون. لأنها قالت له عندئذٍ: " في قصر ‘ فيك ‘ نفسه، سأنضمّ أيضاً في الخريف إلى كورس ترجمة يستغرقُ عاماً واحداً "
" هل حصلتِ بدَوركِ على حجرةٍ، هناك في الكُريدور؟ "
" لا، بالطبع. سأتنقّلُ كل يوم بسيارتي بين المنزل والمعهد "، أجابت مبتسمة على سؤاله الساذج. لم ينتبه للأمر، كون ذهنه راحَ إلى بعيد. لقد سُعِدَ، ولا غرو، بهذه الفرصة لمحاولة عقد علاقة حميمة مع إمرأةٍ، فتنته بحُسنها وثقافتها في آنٍ معاً. بينما هما على أتم إنسجام، وكانت حجرة الدرس قد خلت إلا منهما، دخلَ المحاسبُ لينثر ريقه عليهما مع كلماته اللئيمة: " لو شئتما الحديثَ في أمور خصوصية، فليكن ذلك في كافيتريا النادي وليسَ في حجرة الدرس ". وكانت ردة فعل المرأة، أنها أطلقت ضحكة إستخفاف: " هيا بنا إلى الكافتريا، لأن ابنتي ستضجر ثمة وحدها "، قالتها للمدرّس مع غمزةٍ مُداعبة. كانَ " التفّاف "، كما علمنا، قد بدأ يكره دارين مذ ساعة تعارفهما. لكنه في هذه المرة، كانَ يردّ الكرةَ في ملعب الآخر ـ كما يُقال عادةً. فإنه أكثر من مرة، إقتحمَ حجرةَ الدرس لإلقاء نظرة فضولية. وفي إحداها، خاطبَ المدرّسَ وهوَ يعقف فمه بنبرته القروية: " أخي، التلاميذ في عُمر لا يسمح لهم بتقبّل هذه التقنيات الصعبة "
" أخي، إهتم أنتَ بميزانية النادي ولا تتدخل فيما لا يعنيك! "، ردّ عليه دارين بغضب. بقيَ مبهوتاً من الجواب، فيما تصاعدَ ضحكُ فتاتين صبيتين. إنهما إبنتا خالة، من إحدى بلدات الشمال السوريّ. إحداهما، " نالين "، كانت ترافقُ إلى الدرس شقيقتَها الصغيرة ذات السبعة أعوام. الأخرى، واسمها " بيمال "، كانت آنذاك تقيمُ في منزل خالتها، كون والدتها قد هُرعت إلى موسكو كي تعاين عن كثب تجارةَ رجلها وما لو كانت تتخللها علاقاتٌ نسائية: بيمال، وكانت فتاة سمراء تناهز السادسة عشرة، كأنما كانت هبةَ القدَر حينَ بدأ دارين يضيقُ ذرعاً من وجود نادين في حياته؛ وبالطبع، على خلفية مطالباتها المُلحّة بعقد الزواج.
نالين، كانت في مثل عُمر ابنة خالتها، لكنها ذات بشرة فضيّة وقامة مشيقة ممتلئة نوعاً ما. وكانت تخصّ " التفّاف " بنفورٍ جَليّ، لأن والدتها أقترنت معه في عامٍ سابق وشحنته إلى السويد. الوالدة، وهيَ إمرأة ثلاثينية لا تخلو من الجمال وامتلكت صالون تجميل مؤخراً، ترمّلت مُبكراً. لقد إعتادَ دارين، فيما مضى، على قصّ شعره عندها في المنزل، وكانت تكنّ له الود. سبقَ أن تعارفا في معهد اللغة الأساسية، وأحياناً تبادلَ الحديث معها. حينَ رفضت أول مرة تناول أجرها نظير الحلاقة، بادرَ في اليوم التالي إلى دعوتها على الغداء في مطعم كباب بمركز المدينة. على أثر الدعوة، تعددت مرات إتصالها معه هاتفياً. كانَ واضحاً عندئذٍ، أنها عقدت عليه الأمل لتوديع مرحلة الترمّل، السوداء. فلما تجاهلَ دارين عاطفتها، حلّ نوعٌ من النفور بمحل الود. ذلكَ كانَ، بالطبع، قبلَ إقترانها مرةً أخرى. " التفّاف "، رجلها الجديد، لا بد وعلم بطريقةٍ ما بذلك المشروع الخائب. ولو تذكّرنا أيضاً فشل مشروعه الشخصيّ، لكسب ثلاثة آلاف دولار، لأدركنا مدى حقده على دارين.
وهذا رمّو، يلتقي صديقه القديم عقبَ فترة إنقطاع غير يسيرة. كانت أحواله مزدهرة في ذلك الوقت، بإدارته حلقة الروليت في ملهى " فلوستريت ". لكنه كان يومئذٍ بغاية الإنزعاج، لما تمّ التطرُق، مصادفةً، إلى شخص " التفّاف ". عند ذلك تحدّث رمّو لدارين عن واقعةٍ، وصفها بالمُشينة: كانَ قد علمَ من أهله في الوطن، أنهم أرسلوا إليه بعضَ الأغراض مع " التفّاف " حينَ قدمَ هذا إلى السويد لأول مرة. بادرَ إلى الإتصال به، ومن ثم حضرَ بنفسه كي يأخذ أغراضه. غبّ إيابه إلى منزله، انتبه رمّو إلى فقدان قفاز يديه؛ وبحَسب قوله، كان من النوع الثمين، المُبطّن بفراء حيوانٍ قطبيّ ناصع. لما إتصلَ من فوره مع " التفّاف "، أنكرَ هذا وجودَ القفاز: " لعلك نسيته في مكانٍ ما قبل حضورك لمنزلنا ".
وأختتمَ رمّو روايةَ الواقعة، بالقول مع بسمة غلّ: " في أحد أيام الشتاء المنصرم، كنتُ ذات نهار أتجول بين محلات الألبسة في مركز المدينة. فصادفتُ الرجلَ مع إمرأته، وكانا خارجين من مخزن أولينز. إذا به يكسو يديه بذلك القفاز نفسه، الذي سبقَ وأدّعى أنه لم يعثر عليه في منزله حينَ أتصلتُ معه. وقفنا دقيقةً، نتكلم ببعض العبارات المُجاملة. وفي الأثناء، كنتُ بينَ فينةٍ وأخرى أحدّق في قفازي المَسلوب. وكانَ هوَ، من ناحيته، يُحدّق في عينيّ بوقاحة بينما ريقه الكريه يتناثرُ على وجهي عندما كانَ يثرثر ".
سأله دارين، مُغيّراً دفّة الحديث: " هل لديك أخبار، تخصّ صديقنا نورو؟ ". أطلقَ الآخرُ ضحكة، كأنما الإسمُ ـ كالنكتة ـ يُثير المرح بحدّ ذاته: " إننا نتواصلُ أحياناً، هاتفياً بالطبع. الموسمُ كان جيداً الصيف المنصرم، ومردوده السخيّ أتاح له قضاءَ أوقاتٍ ممتعة في حلب ودمشق بصُحبة مومسات الكباريهات "
" ألا يسألك عني؟ "
" نعم، بالتأكيد، يقول لي دوماً: ماهيَ أوضاع ذلك الشامي، المُعقّد! "، ردّ ضاحكاً. ثم أستدركَ: " على فكرة، سيُرسل لك مع أحدهم شريطيّ كاسيت لحفل صباح فخري في باريس ". قبلَ أن يذهب في سبيله، دعا دارين للقدوم إلى الملهى مساءً: " إذا كنتَ قد عزفت عن إرتياد فلوستريت، لأنك تدبّر العشيقات بسهولة، ففي وسعك الحضور للعب الروليت. لن أجعلك تخسر، لأنني معتادٌ على منح ‘ فيش ‘ اللعب لأصدقائي "
" بودّي أن أحضرَ اليوم ، لأنني ضجرتُ حقاً من عشيقاتي "، قالها دارين بلهجة جدّية مُتماهية بالتهكّم. إلا أنّ حائلاً منعه من الذهاب إلى الملهى ذلك المساء، فلم يستطع الوفاءَ بوعده لصديقه القديم.
2
في ذلك المساء، كانَ إذاً في الحمّام يُلقي نظرةً خِلَل المرآة على سترته الوحيدة، التي أعتاد في الأيام الخوالي على الخروج بها إلى السهرة. وكانَ من شيمته أيضاً، أن يتناولَ سلفاً عدّة أقداح كحول بالنظر إلى إكتفائه في الملهى بشرب البيرة. ولعله كانَ أكثر رضىً عن نفسه، لسببٍ آخر. إنّ مشروع روايته التاريخية، الذي وضعَ مخططها في عامٍ سبقَ لجوئه للسويد، أدخلَ عليها مؤخراً تعديلاتٍ جوهرية بحيث أضحى لا يتعرّف تقريباً على المخطط الأصليّ. في سبيل هذه الرواية، كانَ دارين فيما مضى يقضي ساعاتٍ كل يوم في مكتبات دمشق الأثرية والعامّة؛ نظير " الظاهرية " و" العادلية " و" الشعب ". كذلك دأبَ على إرتياد أماكن تاريخية معيّنة، تمتّ إلى قرون الهيمنة العثمانية على المدينة: في مستهل الألفية الجديدة، حينَ أنتهى من كتابة المسودّة الرئيسية لروايته، كانَ قد أدخلَ في الحبكة عقدةً بوليسية، وذلك تأثّراً بمشاهدته لعدة أفلام، مأخوذة عن قصص أجاثا كريستي.
رنّ جرسُ الباب في لحظةٍ، كانَ فيها دارين يُسبغ على نفسه نفحاتٍ من عطر " أراميس "، الفرنسيّ الكلاسيكيّ. لأول وهلة، ظنّ أنه ذلك المُتطفّل، حمي؛ وكانَ يحضرُ أحياناً، كما علمنا، بدون حاجةٍ إلى موعدٍ مُسبق هاتفياً. في الفترة الأخيرة، أضحت لقاءاتهما تتم غالباً في النادي أو مقهى " الحجرة الحمراء ".
ألقى دارين نظرةً عبرَ العين السحرية، وإذا هما إبنتا الخالة. بادرت بيمال، وهيَ الأكثر حريّة وإنطلاقاً بينهما، إلى القول ببساطة حالما أجتازت بابَ الشقّة: " أستاذ، ليسَ في وسعنا إنجاز الوظيفة المدرسية دونَ مساعدتك ". خطت من ثم إلى الصالة، تهز ردفيها المُكتنزين، المَحشوكين في بنطالٍ ضاق بهما. أما الأخرى، فإنها سارت ملوحة بيديها الطويلتين، وكانت بفستان مُزْهِر يصل إلى الركبتين. بطبيعة الحال، توجّسَ دارين من مقدمهما على هذه الصورة، وذلك بغض الطرف عن سنّهما اليافع وبراءتهما: لكن صورة ميديا العهد الأول، مثلت للحال في ذهنه؛ هيَ مَن كانَ يعتقدُ أيضاً ببراءتها.. وحتى سذاجتها!
حذراً بعضَ الشيء، ولا شك، رحبَ بهما في برود. إذاك، كانتا واقفتين بإزاء لوحة " سيامند وخجي "، التي رسمت بسمةً خبيثة على فم كلّ منهما، بالنظر إلى عُري شخصيتيها الأساسيتين. سألهما دارين أولاً، عقبَ جلوسهما على الأريكة: " هل الأهل على علمٍ بمجيئكما إليّ؟ "
" طبعاً، وإلا هل كانَ في مقدورنا الخروج من المنزل في مثل هذه الساعة؟ "، ردّت نالين فيما كانت عيناها تجولان بفضول على موجودات الصالة. عندئذٍ نظرَ في ساعة يده، وأيقنَ آسفاً أنه سيفوّت سهرةَ الملهى لو طالت هذه الزيارة غير المُرتقبة. همدَ بدَوره على الكرسيّ العريض، المركون بين طاولة الكتابة والفترينا. نالين، وكانت الأقرب إليه، ما لبثت أن مدّت إليه يدها بدفتر خاص مدرسيّ، كبير الحجم: " المطلوب مني، هوَ رسمٌ كهذا ". قالت ذلك، فاتحة الدفتر على أسكتش لرجل عارٍ وقد ظهرَ قضيبه ضخماً ومنتصباً. لاحظ بارتباك، وهوَ يُحدّق بالرسم: " كأنه نموذج عن رجل النافورة البولندية، القائم تمثاله البرونزيّ ثمة على مدخل مبنى محطة قطارات أوبسالا؟ "
" نعم، لقد قادنا معلمُ الرسم إلى ذلك المكان قبل بضعة أيام "، أجابت نالين. انتقلَ إلى التعليق على الرسم، قائلاً: " إنه منجزٌ بطريقة متقنة، فما المطلوب مني؟ "
" لقد أنجزه المعلّم بنفسه، وعليّ أن أنسخه "
" حاولي نسخه الآنَ، وأنا أقدّم لكِ بعضَ الإرشادات "، قالها وهوَ يُعيد إليها الدفتر. نبرت عند ذلك بيمال، لتعرض دفترها بدَورها: " أستاذ، المطلوب مني أيضاً نسخ الرسم ". وكانَ الاسكتش لإمرأة عارية، وهوَ في حقيقته رسم التمثال الآخر لنفس النافورة. تعقيباً على معلومته، تساءلت بيمال مومئة بعينيها نحوَ تلك اللوحة المعلّقة على الجدار: " وأنتَ، أستاذ، هل رسمتها نقلاً عن صورة؟ "
" لا، لقد أوقفتُ فتاةً في مثل سنّك أمامي كموديل "
" أكانت سويدية؟ "
" بل شرقية "
" آه، إنها جريئة! "
" أبداً، إنها كوقوف الفتاة عاريةً أمام الطبيب "
" ولكنك لستَ طبيباً "
" سأحملكِ على فعل ذلك، وإن لم أكن طبيباً "، قالها مُداعباً. أنفجرتا بالقهقهة، وما عتمَ الجوّ الكامدُ أن تبددَ بسرعة. على الأثر، كانَ على دارين تحمّل الحركات العابثة، الجديرة بمراهقتين يلوحُ أنهما، حقاً، بدون أيّ تجارب جنسية. تحرّكت بيمال في البدء، فطلبت من قريبتها الإنتقال إلى الأريكة، التي تفتح عند النوم لتغدو سريراً. تمددت بعدئذٍ على بطنها، فيما وجهها باتجاه الأستاذ، ترمقه مبتسمة كلما ضبطت عينيه تجولان فوقَ ردفيها. كانت نالين تلاحظ ذلك بنظراتٍ موارَبة، غير مُريحة. فما عتمَ أن نهضت من مكانها، تحملُ بإحدى يديها وسادةً ثقيلة جذبتها من الأريكة. وضعت الوسادة تحتها، ثم جلست بمقابل الأستاذ تماماً وقد فتحت رجليها على وسعهما. السروال الداخليّ، كانَ إذاك يشقّ المشفرين، الذين بلون الورد، فيما صاحبته راحت تخفي بسمتها الساخرة وراءَ دفتر الرسم.
بيمال، راقبت بدَورها حركة الأخرى. لكزت خفيةً مرفقَ المدرّس، قائلةً بصوتٍ هامس فيما تومئ إلى ناحية ابنة خالتها: " أنظرْ إلى الماكرة، كيفَ تعرض نفسها بلا حياء "
في ظهيرة اليوم التالي، عنّ لبيمال أن ترافقه من الدرس إلى البيت. عند باب النادي، تردد في الذهاب معها. كان ينوي الزعمَ أنه سيمضي إلى موعدٍ هام، وإذا هيَ تمضي أمامه بخطى سريعة باتجاه موقف الحافلات الكبيرة. لقد كانَ يخشى حضورَ نادين، بالرغم من أنّ هذه معتادة على مخابرته مُسبقاً. هناك في الشقّة، استوت بيمال على الأريكة، واضعة رجلاً على رجل. كانت بلباسٍ صيفيّ، يكشفُ أعلى فخذيها وجانباً وافراً من ثدييها الكبيرين. سألها عن سبب تخلّف نالين وشقيقتها الصغيرة عن حضور الدرس، فقالت: " إنهما بجانب خالتي، التي نُقلت إلى المستشفى فجراً عقبَ شعورها بآلام الوضع "
" وأنتِ، لِمَ لستِ في المدرسة؟ "، سألها شاردَ الذهن. ردّت ضاحكةً، تُذكّره بأن اليومَ هوَ السبت: " وسأمضي من هنا مباشرةً إلى ستورفريتا، لكي أعمل في مطعم زوج خالتي ". إذاً، " التفّاف " أضحى من أصحاب المطاعم؛ وهذا يُفسّر غيابه عن النادي في الأسبوعين الأخيرين: " لا ريبَ أن الرأسمالَ، كانَ من مال امرأته. تلك البلهاء، تعتقدُ أنها بذلك ستربطه بالسّرج؛ وأيضاً، عن طريق تبذير طفلٍ من صلبه "، فكّر دارين.
نهضت بيمال نحوَ طاولة الكتابة، أين وُضِعَ دفترها، وفتحته على الرسم المطلوب: " دارين، إنك لم تنجز شيئاً تقريباً منذ جلسة الأمس؟ "، قالتها مُتكلّفةً نبرةَ إحباط. لحظَ أنها نادته باسمه لأول مرة. " ماذا وراءَ هذه الشيطانة الصغيرة! " خاطبَ نفسه. أوضحَ لها، وقد صارَ بالقرب من الطاولة، أنه لم يكن يتوقّع حضورها مُبكراً: " لكنني أظنُ أن خطوطكِ تنسابُ على الورق بشكل أفضل عن ذي قبل ". وإذا بيدها تنسابُ على مؤخرته، بحركةٍ لم يَدرِ كنهها عندئذٍ؛ أهيَ مُعابثة، أم ودّية على مألوف عادة السويديين.
" أرغبُ بالذهاب إلى الحمّام "، قالت ذلك فجأةً ثم مضت إلى تلك الجهة. بابُ الحمّام، كانَ ينفتحُ على ردهة المدخل. فما مضت خمسُ دقائق، إلا وبيمال تظهرُ عند باب الصالة، عاريةَ تماماً ـ كتمثالٍ إغريقيّ، لربّةٍ مولودة تواً من صَدَفة بحرية.
" أرغبُ بالوقوف أمامكَ كموديل، لتُنهي الرسمَ بشكلٍ أفضل وأسرع ". على الرغم من سمرة وجهها وأطرافها، فإنّ بدنها كانَ ناصعَ البياض. لم يعِ دارين كم من اللحظات، بقيَ مُثبتاً نظره في بدنها، لحين أن صدرَ صوتُ رنين جرس الباب. قبلَ أن يفيقَ من ذلك الموقف، كانت بيمال قد التفتت إلى ناحية الباب كي تذهب لتنظر من العين السحرية.
" تلك الفتاة الشقراء، هل هي صديقتك؟ إنها فتحت كوّةَ البريد، وربما رأت قدميّ "، قالت ذلك بطريقةٍ غير مُكترثة وكانت مستلقية في حضنه.
3
استمرت الهواجسُ تحتشدُ في نفسه، كما السُحُب الرمادية في يومٍ شتائيّ. إنه، مثلما علمنا، جرّبَ قبلاً عاطفةَ فتاةٍ مراهقة؛ فمرّ الأمرُ بسلام، بالرغم من إنتهاكه عفّتها. بيدَ أنّ الأمرَ، مختلفٌ الآنَ. أليسَ مُرجّحاً، أن يكونَ زوجُ الخالة وراءَ الستارة، يُحرك خيوطَ هذه الدُمية؟ أما بساطتها وبراءتها، فلا يُستبعد أن يكونا من واردات المكر القرويّ، المُتجذّر في جيناتها. في كلّ الأحوال، ما كانَ وارداً في ذهنه موضوعُ مضاجعتها. لكنها هيَ من تجرّه إلى الفراش جراً، بإرتمائها عاريةً فوقَ ركبتيه. وإذاً، ضابطاً نفسه بشدّة، شاءَ أن يتعامل معها كموديل حقاً. قبّلها في لطف من وجنتها المُلتهبة، ومن ثم أوقفها على بُعد خطوتين منه: " هل طلبَ مرةً معلّمُ الرسم من إحدى زميلاتكِ، الوقوفَ هكذا؟ "
" نعم، عدة مرات "، أجابت بلهجةٍ جافة. سألها لمُجرد التشديد على أنه يتعامل معها كنموذج فنّي، كونه على معرفةٍ مُسبقة بأسس التعليم في السويد. ففي " زيارة دراسية "، كما يدعونها هنا، لاحظ أيضاً كيفَ تقوم الطالبات بتغيير ملابسهن أمام معلّم الرياضة الشاب.
في الأثناء، كانت بيمال تحدّقُ فيه بثبات، بنظرةٍ ساخرة تقريباً. لأنّ أنفاسه كانت ما تفتأ متلاحقة، وعينيه زائغتين. كذلك لحظت، ولا شك، إرتعاشَ صوته. لكنها ما لبثت أن غيّرت نبرتها، لتسأله في مرح: " هل ستقفُ أنتَ غداً كموديل، لكي ترسمك نالين؟ "
" لِمَ لا؟ "، أجابَ على سبيل الدعابة. وإذا بها تعودُ للقول، ضاحكةً بمجون: " أتصورك واقفاً عندئذٍ كتمثال محطة القطار، بقضيبٍ كبير مُنتصب! ". شاركها الضحك، وهوَ يهزّ لها إصبعه بحركة تحذير. كذلك، كانَ دارين على درايةٍ بطبيعة المجتمع الكرديّ في الشمال السوريّ، المُتّسم عموماً بالحرية والإنفتاح.. وأيضاً، ببعض الإباحية في العلاقة بين الجنسين؛ بالأخص، أستخدامهم بتلقائية المفرداتِ الجنسية حتى أمام الأطفال.
بغيَة سبر غورها، أراد أن يسألها هذه المرة عن زوج الخالة: كيفَ يتعامل معها في منزله، وثمة في المطعم؟ لكنه قبل ذلك، طلبَ منها الذهابَ إلى الحمّام لإرتداء ملابسها: " أنهيتُ الاسكتش، وما عليكِ إلا محاولة نسخه في المرة القادمة "، قال لها وهوَ يُدني الرسمَ لتراه.
الأريكة السرير، كانت ما زالت مفتوحة حينما حضرت بيمال للشقّة. وإذا بها تخطو باتجاهها، لتسلتقي هناك على ظهرها: " آه، أرجوك دارين! أشعرُ بشبق شديد! "، خاطبته بالسويدية. كان هذا، ولا غرو، فوقَ طاقة إحتماله وصبره.
غبّ وصولها للنشوة، سألها أن تجلبَ من خزانة الحمّام قارورةَ " فازلين ". طرحها من ثم على بطنها، وحرثَ ثمة لبضع دقائق. قالت وهيَ تئنُ: " الآنَ أدركتُ، لِمَ يُحاول الشبانُ في المدرسة النيلَ من أستي ". هُرعت بعدئذٍ بلهوجة إلى الحمّام: " لقد تأخرتُ عن العمل ". بادرَ إلى اللحاق بها بعد دقائق، لكي يوجه إليها ذينك السؤالين. أجابت بسرعة، فيما تكتسي بملابسها: " إنه يتحرّشُ بي في كل مرةٍ، إلا أنني أصدّه "
" وهل يفعل ذاتَ الأمر مع نالين؟ "
" لا أعلم، استفهم منها أنتَ "، قالت ذلك ثم استدركت لتوصيه بعينين مفتوحتين على وسعهما: " ولن تذكر لها عن حضوري اليومَ، مُطلقاً ".
بعد مغادرتها، مكثَ في السرير دونَ أن يرتدي ملابسه. لم يكن مُتكاسلاً، بل مُرهقاً بالندم وتأنيب الذات: " ما كانَ ينبغي أن تضعفَ في نهاية المطاف، فتجرّكَ كالخروف إلى السرير. إنها طفلةٌ بعدُ. فما الفرق بينك وبين ذاك المأفون، التفّاف؟ يا للعار! ". إلا أنه، في المقابل، إرتاحَ لأن هذا الأخير على علاقةٍ سيئة مع بيمال؛ وبالتالي، لا خشيةَ من مكيدةٍ في آخر الأمر. كما واطمأنَ لعلاقتها المُلتبسة مع نالين ( مردّها الغيرة على الأرجح )، وأنها لن تبوحَ لها حتى بحضورها إلى شقّته. في أثناء ذلك، كانَ قد سلا تماماً حضورَ نادين. هذا مع أنّ الهواجسَ كانت قد سبقَ وهاجمته بلا رحمة، عقبَ زيارتها الخائبة: " يُمكن أن تكونَ قد ظنّت أنني لم أفتح لها البابَ، لوجود عشيقة أخرى في فراشي؛ هيَ من رأت قدميّ بيمال من خلال فتحها لكوّة البريد ". غلبه النعاسُ على الأثر، فحلمَ بابنتيّ الخالة وقد تحولتا إلى مصاصتيّ دماء ( فامبير )، وراحتا تعضانه بنهم وغلّ من كتفيه العاريين. ففي تلك الأونة، كانت إحدى قنوات التلفزيون السويدي، تعرضُ أسبوعياً فيلماً كلاسيكياً أمريكياً عن مصاصي الدماء من بطولة الممثل كريستوفر لي.
أفاقَ على صوت رنين جرس الباب، فنظرَ إلى الساعة وكانت قرابة الثامنة مساءً. لكن الشمسَ، كانت أشعتها ما تنفكّ تُداعب موجوداتِ حجرة الصالة. توهّمَ أنها نادين، بالرغم من علمه بأنها عادةً لا تزوره في مثل هذا الوقت: " إنه السبت، يوم عطلة، ولعلّها لم تصبر إلى الغد بغيَة معرفة حقيقة ما جرى ظهراً؟ ". ألحّ رنينُ الجرس، فاندفعَ إلى الحمّام لارتداء البينوار. فرخَ روعه، لما بانَ خِلَل العين السحرية وجهُ نالين الجميل.
قالت له بنبرة إعتذار: " تركتُ شقيقتي نائمة، ثمة في حجرة والدتي في المستشفى. كذلك فإنّ بيمال لن تعود مع زوج خالتها قبل منتصف الليل، لأنه يوم ديسكو في المطعم "
" أخبريني عن صحة والدتك؟ "
" إنها بخير، وقد أنجبت لنا أخاً جميلاً "، ردّت مُبتسمة. لاحظ دارين عندئذٍ، وليسَ بدون شعور بالشؤم، أنها ربما تعمّدت المجيءَ بفستانٍ قصير للغاية: " ابنتا الخالة في يومٍ واحد، هذا جنون! "، خاطبَ داخله. إحتياطاً، ما عتمَ أن قال لها مُتكلّفاً نبرةً مُداعبة: " اليوم عطلة، ولن نُشغل أنفسنا بالرسم. ما رأيكِ؟ "
" حقاً "، ردّت مُبتسمة مع غمزةٍ ماكرة من عينيها. لعلها فهمت ما عناهُ، بطريقةٍ خاطئة. وهيَ ذي تنهضُ ببساطة إلى تشغيل جهاز التلفاز، وكانت إحدى القنوات تعرضُ فيلماً أمريكياً كوميدياً. شعرَ دارين بالجوع، كونه لم يتبلّغ بشيءٍ غير فطور الصباح: " ما رأيكِ أن تنتظرينني، ريثما أعودُ بطبقيّ بيتزا من المطعم اليوغسلافي؟ "
" موافقة "، قالتها ثم حددت نوعَ البيتزا الذي ترغبه. بعدَ نحو نصف ساعة، عندما دخلَ إلى الصالة، وجدها محمرّة العينين. قلقاً، سألها ما الأمر. وإذا هيَ تجهشُ ببكاءٍ مرير، دافنةً رأسها بين ركبتيها. انتبه عند ذلك لدفتر بيمال، الملقى على الطاولة، وكانَ مفتوحاً: إنه لم يكتفِ برسمها كموديل، بل أنجز لها أيضاً بورتريه بخطوطٍ سريعة.
لقد أدركت نالين، ولا ريب، أنّ ابنة خالتها كانت هنا هذا اليوم: " ولكن، ماذا يعني ما هيَ عليه من تعاسة؛ إلا أنها تشعر نحوي بالحب؟ اللعنة! "، فكّرَ وقد اجتاحه إنزعاجٌ شديد. لم يكن مُجبراً على أيّ توضيح، ورأى حالتها شيئاً يبعث على الضحك لا يفيدُ معه العزاء. لكنه في آخر الأمر، شعرَ بالشفقة نحوها شعوره إزاء طفلة. عللَ لها عندئذٍ حقيقةَ الرسم، مُكرراً ما ذكره لبيمال عن مثال الطبيب والمرأة المريضة. وفي أثناء ذلك، كانت قبلاته بمثابة العزاء المُفترض. كانت قبلات سريعة، كالتي تُمنح للأطفال تعبيراً عن التعاطف. إلا أنّ نالين فاجأته بعدئذٍ بقيامها عن مكانها على الكرسيّ العريض، لتطرح نصف جسدها عليه وهوَ في مكانه على الأريكة: " أنا أحبك، لأنك أجمل ما رأته عيني من الرجال "، قالتها فيما كانت تتوغّل فيه بقوّة. تزحزحَ رويداً، وما عتمَ أن حاولَ التملّصَ بالقول: " هيا نأكل قبل أن تبرد البيتزا تماماً "
" ولكن قل لي أولاً، أأنتَ تحبّني أم لا تحبّني؟ "، ألحّت وهيَ تتشبّث بتلابيبه. عند ذلك، أنحلّ " الشورت " الذي يكتسي به وسقط إلى ركبتيه. قالت ضاحكةً، مُستثارة: " آه، إن قضيبك يُشبه قضيبَ رجل التمثال! ". على أثر سماعه جملتها الطائشة، أضحى إنتعاظه أشدّ. قال لها دونَ تفكير: " ما رأيكِ، إذاً، أن تتخذينني موديلاً لرسم رجل التمثال؟ ". وكان ذلك الشيء مُنتصباً على مبعدة شبر واحد من وجهها، فأمسكت به وراحت تتشمّه كما تفعل القطة مع قطعة اللحم قبل إلتهامها: " رائحته لاذعة، لكنها مُثيرة. فهل طعمه كذلك؟ "
" على المرء تجربة الأشياء بنفسه "، ردّ فيما كانَ يدفعه في فمها. لقد استهترَ بكلّ ما عدا القبض على هذه اللحظة الحميمة، مُصمماً على المطارحة الجسدية وإن بشكلها السطحيّ. ومَن عدّها " طفلةً " قبل قليل، تبيّنَ أنها على مقدارٍ كبير من الشبق وإن تنقصها الخبرة. فلم يستطع الفكاكَ بسهولة من أسر رغبتها، فمدّها بالمزيد عقبَ فراغهما من تناول الطعام.
إتفاقاً، كانت نالين في الحمّام تغتسل، حينَ رنّ جرسُ الهاتف. رفعَ دارين السماعة، ليسمعَ صوتَ نادين. قالت له جملةً وحيدة، بنبرةٍ غاضبة وجريحة: " لم أستغرب خيانتك، أيها المُنحط، إلا لو كنتُ من الغباء أن أصدّق وعدك بالزواج ". قبلَ أن يُتاح له الرد، أُغِلقَ الخطُ. على الرغم من إحساسه بالمهانة، فإنّ المكالمة جرّدته من همٍّ أثقلَ صدره في خلال الفترة الأخيرة. عليه كانَ أن يشكرَ ابنةَ خالة هذه الفتاة، التي تغسل مؤخرتها في الحمّام، وذلك لتخليصه نهائياً من ضغطٍ كادَ أن يُخضعه لإرادةٍ من الصعب مقاومتها.
4
قبل منتصف الليل بقليل، غادرا الشقّة وطلبا مصعدَ العمارة. كانَ دارين سيُوصل فتاته إلى مسكنها، الذي يفصله الشارعُ العام عن مسكنه. أمامَ المصعد، وجدا ثمة رجلاً متوسّط العُمر وأشعثَ الملامح. كان رجلاً من أصلٍ فنلنديّ، مُدمناً على الكحول، يُقيم لوحده في الشقّة المجاورة. في أثناء خروجهم من المصعد، تمزّقَ في يده كيسُ الميكا، المُحمّل بزجاجات الخمر الفارغة. قاما بمساعدته على جمع الزجاجات ومن ثم حملها لرميها في حجرة حاوية المهملات، الكائنة بأسفل العمارة. قالت نالين مُشفقةً، وهيَ تشيّع بعينيها الرجلَ العائد بخطى مُترنّحة إلى مسكنه: " ما أصعبَ أن يعيشَ الإنسانُ وحيداً "
" إلا الفنان، فإنّ الوحدةَ تلائمُ طبيعة عمله "
" ولكنه بحاجةٍ إلى وجود المرأة في حياته، على الأقل كموديل "، قالت ذلك وهيَ تتمعّن فيه تحتَ أضواء الشارع. كانت ليلة رخيّة، تسري فيها بعضُ البرودة المُنعشة. النسيمُ، كانَ يُبعثر شعرَ نالين وينثره في كلّ إتجاه. بقيَ مُمسكاً عن التعليق على كلامها، كونه أدرك أنها لمزته بذكر الموديل. كذلك لم يشأ بعثَ شعور الغيرة لديها، وكانَ بالكاد قد تمكّنَ من تهدئتها غبَّ رؤيتها للرسوم في دفتر بيمال. أقسمَ لها في حينه، كاذباً بالطبع، أن ما جرى بينهما لم يتجاوز الرسمَ. وكانت نالين من شدّة الغيرة، أنها صدّقته دونَ حاجةٍ لطلب المزيد من التفاصيل.
خرقت نالين الصمتَ، بأن أقترحت عليه الاستمرارَ بالمشي عبرَ الدرب الدائريّ، المحيط بالمنطقة السكنية، والذي جعلها أشبه بالجزيرة. قال لها: " قد يرجع زوجُ أمكِ إلى المسكن، فكيفَ ستبررين غيابك في مثل هذه الساعة؟ "
" لا حاجة بي لأيّ تبرير، لأنه ليسَ له حُكم عليّ "
" إنه في مقام والدكِ "
" لا تقل هذا، أرجوك "، قاطعته بانزعاج كأنه وجّهَ لها إهانة. ثم توقفت فجأةً عن السير، مُتملّيةً ملامحَ رفيقها. أستدركت بنبرة أخرى، هادئة وحالمة،: " أتعلمُ أنك شبيهٌ لوالدي، خصوصاً بشكل عينيك ولونهما؟ أتذكّرُ أيضاً، أنه حينَ رحلَ عن الدنيا كانَ تقريباً في مثل عُمرك "
" في هذه الحالة، مُحالٌ أن نتزوّج! "، قالّ ذلك مُداعباً فيما يحثّها على المسير بوضع يده وراءَ ظهرها. عقّبت بالقول في غموض، عابسةً بعضَ الشيء: " ما زالَ الأوانُ مُبكراً ". كانا عندئذٍ في طريقهما إلى ذلك الدرب، الذي يُشكّل أيضاً حدودَ الغابة. فما هيَ إلا برهة قصيرة، ليجدا نفسيهما بصُحبة الأشجار، يستنشقان أنفاسَ نعاسها. ولأن نالين أخذت كذلك بالتثاؤب مراراً، قررَ رفيقها أن يختصرَ الجولة.
صباحاً، أيقظه حلمٌ أشبه بالكابوس. لقد أوهمه ذلك المنام، أنّ مَن إتصلَ به يوم أمس كانت نجوى وليسَ نادين. بقيَ في الفراش مُفتّحَ العينين، في حيرةٍ حقّة: " إنّ نبرتهما واحدة تقريباً، فكيفَ في الوسع التمييز بينَ صوتيهما عبرَ خطّ الهاتف؟ ". مع تفاقم الوهم، قررَ أن يُجرّبَ طريقة يتأكّد فيها من شخصيَة المُتّصلة. نظرَ إلى ساعة يده، الملقاة على منضدة الصالة، فوجدَ أنها التاسعة: " إنّ رجلَ نجوى الآنَ في العمل، وهيَ قد عادت إلى المسكن بعدما أوصلت ابنتها الصغيرة إلى روضة الحضانة ". نهضَ إلى الهاتف، وكان في سبيله للإتصال بعشيقته السابقة، حينَ دهمه هذا الخاطرُ المُرعب: " آه، اليوم أحد! ". فكّرَ عندئذٍ، أيّ ورطة كان سيتسبب بها لو كانَ قد إتصل وردّ عليه زوج نجوى. ذلك أنّ الهاتفَ الحديث، باتَ يحفظ أرقام المتصلين. نفخَ وهوَ مُفرخ الرّوْع: " كانَ من نتيجة بطالتي، أنني أضحيتُ لا أميّز بين الأيام ". بلى، إنه بالأمس سألَ بيمال، لِمَ لم تذهب إلى مدرستها؛ هذا، بالرغم من وجودها يومئذٍ معه في درس الرسم بالنادي.
ولكنه لم يتصل في اليوم التالي، وذلك لأنه تحققَ له من مقارنة ذهنية بسيطة، أنها نادين مَن خابرته: " لِمَ ستصفني نجوى بالخيانة، وهيَ من تركت لي مهلة للتفكير في مشروع الزواج؟ كما أنها تخرجُ بالحجاب، فيما بيمال رأت فتاةً شقراء ". في تالي الأيام، فكّرَ أكثر من مرة بالاتصال مع صاحبة الحجاب، لمحاولة جلبها إلى الفراش ولو عن طريق إطلاق المزيد من الوعود الكاذبة. إذ أضحى يُعاني من الحرمان، بعدما جدّ حدثٌ لاحَ أنه سيمنعُ ابنتيّ الخالة من المجيء إليه مُجدداً. فوالدة نالين، إتصلت به ذات يوم، لتطلبَ منه بلطف ألا يستقبل مرةً أخرى الفتاتين في شقّته: " إنهما مراهقتان وعلى شيءٍ من الطيش، وأنا أقدّر أخلاقك العالية وأنك كنتَ تساعدهما في إنجاز وظيفة مدرسية ". هذا الإتصال، بلبله بشدّة، وكانَ بحاجةٍ لمقابلة إحدى الفتاتين، على الأقل، لمعرفة جليّة الأمر.
تفاقمَ قلقُ دارين، لما جاء السبت ولم يجد نالين وشقيقتها الصغيرة في الدرس. في يوم السبت التالي، تكررَ الأمرُ. لكنه عندما غادرَ النادي يومئذٍ، صادفَ بيمال على الدرج وكانت برفقة فتاة أريتيرية. خرجت معه من ثم إلى الشارع، بناءً على طلبه. وفيما هما سائران، باتجاه موقف الحافلات الكبيرة، استفهمَ منها عما لو حصلت مشكلة ما في منزل خالتها. أجابت بنبرة حزينة: " بلى، وكانت نالين هيَ السبب. أنتَ تذكر ذلك اليوم، الذي مررتُ فيه عليك قبل ذهابي إلى المطعم؟ حسنٌ. في اليوم التالي، بادرت نالين بعدوانية غير مفهومة إلى تمزيق دفتري، المحتوي على رسومك. عندئذٍ عرفت خالتي من مشادتنا بعضَ الأمور، ومن ثم شددت علينا ألا نزور شقتك مرةً أخرى "
" لا يمكن أن تتصرف نالين بذلك الشكل، إلا لو أنك بحتِ لها بما جرى بيننا؟ "
" لقد فعلتُ ذلك بعدما مزقت الدفتر "، أجابت بنبرة المُذنب. غبّ هذا الإعتراف، تأكد دارين بأن الأخرى لن تعود إليه من جديد. الغيرة والغضب، لا تعليمات الأم، جعلا نالين العنيدة تقطعُ كل صلة به. لكنه سأل بيمال عن أمر كان قد أقلقه: " وزوجُ خالتكِ، هل علمَ بالمشادة؟ "
" لا، إنه عادةً يحضر من عمله متأخراً ثم يُبكّر صباحاً بالذهاب إلى المطعم "
" أعتقدُ أنّ خالتكِ معها حق، والأفضل ألا نلتقي إلا في النادي "، قالها بالضد من رغبته. نظرت إليه بيمال باستغراب، ولم تعلّق على كلامه. لكنها ظلت سائرة معه دونَ وعي، إلى أن وصلا إلى المَوقف المطلوب. عند ذلك، سألها: " هل ستركبين الحافلة أم تعودين إلى النادي؟ ". بقيت مُمسكة عن الجواب، كأنما أصابها الخرس. لكن دارين أدركَ من هيئتها، أنها ما فتأت مصدومة من كلامه. رقّ لحال هذه الفتاة المراهقة، وما عتمَ أن أحتضنَ رأسها. وإذا دموعها تنهمرُ بسخاء. همست بصوتٍ مخنوق تأثراً: " أرغب بمرافقتك إلى شقتك، وسأحرصُ على ألا يعلم أحدٌ بذلك "
" هل تعتقدين حقاً، أنه قرارٌ صائب؟ "
" نعم، وليكن ما يكون "، قالتها بشيءٍ من الغضب وكأنما تمثّلت لها صورةُ غريمتها. لم يُسعده موقفها. كانَ قد تعبَ حقيقةً من هذه العلاقات السريّة والمُلتبَسة. حقّ له إذاك أن يحسدَ السويديين، الذين لا شأن لهم بتلك العنعنات: " كأنما لا نعيشُ في ظهرانيهم، وكأننا لم نُبارح قط أوطاننا! ". بيدَ أنه حالما أحتوته الشقّة، وضَمّ جسدَ بيمال، العارمَ العُريّ والشديدَ الشبق، سلا كل ذلك. غبّ الفراغ من المُطارحة، شاءَ دارين الإلمام أكثر بموضوع النزاع بين الغريمتين. سألها، وقد استعادت ذاكرته بعضَ التفاصيل: " حين جئتِ مع ابنة خالتك أول مرة إلى الشقة، أكدتما أن الأهل على علم بالأمر. بهذه الحالة، لا بد أن زوج خالتكِ كان أيضا في الصورة؟ "
" نعم، هذا صحيح "
" ألم يستفهم منكما بعدئذ عن شيءٍ يخص الزيارة؟ "، تساءلَ دارين هذه المرة على خلفية شكوكه السابقة بالرجل. أجابت باقتضاب: " لا ". لكنه قرأ في عينيها، أنها تُخفي أمراً ما. ثم تطاول الصمتُ بينهما. إلى أن خاطبها فجأةً، مُتمعّناً بعينيها: " كأنك تودين الكلامَ، وممتنعة عن ذلك لسببٍ من الأسباب؟ ". وكما حدث تقريباً أمام موقف الحافلات العمومية، فإنها تكلّمت بتأثّر: " لم أشأ الكلام في الأمر، كونك لم تسألني من قبل. في حقيقة الحال، أنه زوجُ الخالة مَن حملها على إرسالنا إليك مع دفاترنا المدرسية. إذ أنصتُ ذات ليلة من وراء باب حجرة نومهما، لما تصاعدَ جدلهما بصوتٍ عال. سمعتُ الخالة تقول له: " لو كانت نالين ابنتكَ، هل كنتَ ستُفرّط بشرفها؟ ". وقد رد قائلاً: " إنها ليست طفلة غريرة كي يحصل لها ذلك. كل ما في الأمر، أنها ستأتي وتخبرنا لو تحرّشَ بها المدرّسُ أو بابنة خالتها. عند ذلك، نرفع عليه دعوى أمام المحكمة ونكسبُ تعويضاً قد يصل إلى مائة ألف كرون ". عندئذٍ قالت الخالة: " أنت كنتَ تريدُ المال لمشروع المطعم، وأنا ضمنتك في البنك وحصلت عليه. فماذا في رأسك الآنَ؟ ". ولم أسمع بعد ذلك بوضوح بقية الحديث ".
5
غبّ فراغ بيمال من الكلام، بقيَ دارين عاجزاً عن التعليق لشدّة تأثّره. لكنه راحَ يُخاطب داخله: " المأفونُ الخسيس، يتشدّقُ بأنه من عائلة آغوات وأخلاقه جديرة بأحط السوقة والرعاع. كانَ على استعدادٍ لتلويث سمعته بسلب قفاز رمّو، وثمنه بالكثير مائة كرون. فكيفَ لا يُخطط لاستحواذ مائة ألف كرون، ولو بتلويث شرف ربيبتيه المراهقتين؟ ".
في تلك الفترة، تذكّرَ دارين، شاعت في السويد حوادثُ إغتصابِ نساءٍ، مزعومة، على خلفية الرغبة بنيل تعويضٍ ماليّ مُجزٍ عن طريق المحكمة؛ وكنّ سويديات غالباً. أحد الضحايا ( بالرغم من دناءة أخلاقه ) كانَ زوجَ شقيقة نادين؛ سامو. كانَ قد كررَ حكايته عشرات المرات، وذلك في خلال فترات وجوده في النادي. وبعضهم كانَ يسأله عن الموضوع، رغبةً بالتفكّه. كان الرجلُ يسردُ عندئذٍ الحادثة، مع سحبات من سيجارته: " ابنة الحرام، كم كانت جميلة وسكسية! لقد رقصت معي في الديسكو، وكانت تحكّ فَرْجها بوَسَطي في غلمةٍ وشهوة. لما أقترحتُ عليها في آخر السهرة أن أرافقها إلى شقتها، قالت أن صديقها موجودٌ هناك. عند ذلك أخذتها إلى شقّة تركي، المُخصصة أصلاً للعب القمار! تنازل لنا الرجلُ بأريحية عن حجرة النوم، بل ومدّنا أيضاً ببعض الشراب. في الفراش، راحت تتغنّجُ بأنها ترغبُ بالمزيد من المُداعبة قبل الإيلاج. إلا أنني لم آبه بالغنج، وأسرعتُ بزجّه في رحمها. في صباح اليوم التالي، أفقتُ من النوم فلم أجدها. قال لي تركي، أنها غادرت الشقة مُبكراً. بعد نحو ساعة، حضرَ البوليسُ وساقوني إلى التوقيف مع جميع متعلقات سرير النوم. في المحكمة، إدّعت القحبة أنني اغتصبتها عنوةً. حينما صدر الحُكم عليّ عامين بالسجن المُشدد، نصحني المحامي ألا أقوم بالاستئناف. أوضحَ بالقول، أنني لو إستأنفتُ الحكم قد يحكمونني فوق السجن بالطرد من السويد. لقد حصلت المُدّعية على تعويضٍ من مائة ألف كرون، بقيَ ديناً عليّ للدولة. لهذا السبب، أنا أرفضُ العمل. وسأجعلهم يدفعونَ ثمنَ سجني، ظلماً، من مال السوسيال! ".
لكن الحياة، كما يُقال، ليست فقط أبيض وأسود. لقد كان للرجل خصاله الحميدة، ومنها صراحته الواضحة وهروعه لمساعدة الآخرين. لم يكن سامو يُخفي عيوبه، حال بعض المثقفين الراطنين بالمفردات اللاتينية، والذين يلتقيهم المرءُ في النادي ومقهى المثقفين اليساريين. أحدهم، كان المدعو " علي جان "، وهوَ من إحدى قرى مدينة نصيبين؛ التوأم التركيّ للقامشلي. إنه ربيبُ الملاهي ليلاً، مع أنّ ابنتيه التوأم هما من سنّ بيمال. بالرغم من شعره المصبوغ بالحنّة السوداء، لم يكن يَحظى هناك بأيّ إلتفاتة من الجنس الناعم؛ حتى من لدُن أولائي المُتصابيات، اللواتي تجاوزنَ الخمسين. إذاك كانَ يُعوّل على سامو، الجريء ذي اللسان الذرب، في جذب النساء. حينَ فشلَ في إستمالة إحداهن، المرة تلوَ الأخرى، لم يكن منه إلا الحقد على سامو. وإذا به ذات يوم، وعلى رؤوس الأشهاد في النادي، يُخاطب هذا الأخير، نافخاً شدقه بنبرةٍ فخمة: " لا أرغبُ منذ الآنَ أن تزورني في بيتي، أو تخابرني هاتفياً. أنا رجلٌ ذو مقامٍ إجتماعيّ مرموق، يحرصُ على مركزه وسمعته ". قبل ذلك بنحو شهر، كانَ سامو قد تبرّعَ من جيبه الخاص باستئجار سيارة نقل كبيرة، ومن ثم تولى قيادتها، وذلكَ لشحن متعلقات الرجل المرموق إلى شقةٍ جديدة.
وعلي جان، بالطبع، يفخرُ بكونه من عائلة آغوات؛ ولو أنه ماركسيّ، متبريءٌ من طبقته. ابنتاه التوأم، أرادتا أن تكونا من تلامذة دارين، لكنه وعدهما أن يضمهما لاحقاً إلى فصل آخر ينوي إنشائه لمن هم في سنهما. كانت لهما عينا الأب، المُشعّتان بالمكر القرويّ. ذاتَ مرة، سألَ الأبُ مُدرّسَ الرسم في الندي عما يمكن أن يشتري لإبنتيه من أدوات، لكي تتمكّنا من ممارسة الرسم في المنزل. في صباح اليوم التالي، انتبه دارين لإختفاء أدوات الرسم من خزانة حجرة الدرس. عند ذلك، اجتمعَ في حجرة الإدارة مع رئيس النادي والمُحاسب. هذا الأخير، لم يكن سوى علي جان نفسه، الذي أخذ محلَ " التفّاف " في تلك المهمّة. حينَ أبلغ دارين عن سرقة محتويات الخزانة، نبرَ علي جان للقول بإنزعاج: " من المُعيب أن تُسمّي ذلك، سرقة! "
" وهل ثمة مفردة مناسبة أخرى في قاموسك، بديلة عن مفردة السرقة؟ "، سأله دارين وقد تكهّنَ عندئذٍ بمَن مدّ يده إلى الخزانة. عاد الرجلُ للإنفعال، مُستخدماً نبرةً ساذجة، وخبيثةً في كل الأحوال: " أنا أكّدتُ على العيب، كوننا نخدمُ النادي بملء إرادتنا ودونما مُقابل. مع أنّ بعضنا، ربما يَحظى بالمتعة لقاءَ خدمته! ". كان واضحّاً للمدرّس ما وراء ذلك اللمز. فردّ عليه، مُتكلّفاً ابتسامةً مُتسامحة: " أجل، بالأخص إذا كانَ هذا البعضُ يَسهر في الملاهي ليلاً ويبيعُ الوطنيات نهاراً ". عند ذلك، وكعادته في هكذا مواقف، تدخّلَ رئيسُ النادي للقول وهوَ ينقلُ بصره بين الرجلين: " لا شكّ أنّ كلاكما لا يقصدُ الآخرَ بسوء، مثلما أنّ القضية ليست بتلك الخطورة. سنعوّضُ حالاً النقصَ في أدوات الرسم، وذلك لأنّ العديدَ من أصدقائنا المعلّمين يرفدوننا بها ". كانت هذه سرقة من نوع آخر، ولكن لمال الدولة السويدية. فإنّ المحاسبَ سيكتبُ في تقريره للمانحين، أنهم في النادي قد أشتروا تلك الأدوات؛ فيما هيَ مسروقة من المدارس الحكومية.
في حقيقة الحال، أنّ المُدرّس كان على علمٍ مُسبق بعقلية أولئك القرويين، الذين لا يَعدّون السرقة عيباً؛ وفي مقابل ذلك، يَعدّون فضحَ السرقة هوَ العيبُ. كذلك قرأ آراءَ المؤرخين والرحّالة عن الشعوب الجبلية، التي شكّلَ النهبُ والسلب والسرقة، في زمنٍ ما، مصدرَ معيشتها. بحيث أن هذه الأعمال، كانت في نظر أفراد تلك الشعوب، بطولية وليست مُجلبة للعار والصيت السيئ. إنّ هذا الجبليّ، فكّرَ دارين، يختبئُ تحت جلده أيضاً: وإلا فماذا عن سعيه الدائب لسرقة نساء الآخرين، ومن ثم تبرير الأمر بمسوّغ مُختلفٍ كلّ مرةٍ؟ آخر ضحاياه، ستكونُ تلك التركيّة الحسناء، آينور هانم؛ وللمفارقة، أنه يسرقها من رجلها الكرديّ. لعلها لا تُعتبر سرقةً، ما لو أخذَ المرءُ بعين الإعتبار فلسفةً الآغا، الماركسيّ.
6
وإنما في هذه الآونة، المُفعمة بالمشاعر المُتضاربة، هبطت على دارين فكرةُ تأليف رواية جديدة. لم يكن قد كتبَ حرفاً واحداً من روايته الأولى، التاريخية، غير المزيد من المخططات والدعائم اللازمة للعمل ـ كملخصات الكتب، المُتناولة دمشق في القرنين الأخيرين من السيطرة العثمانية، أو رسم ملامح الشخصيات الرئيسية لذلك العمل الروائيّ. لكنه في عمله الجديد، لن يبتعد كثيراً عن تفاصيل معيّنة من سيرته الذاتية، وبالطبع مع تدخل كبير للخيال وأيضاً للفنتازيا. إنها شيمةُ الكثير من الكتّاب، الذين يجدون السيرةَ الذاتية قد إقتحمت عملهم الروائيّ الأول، أو كانت محوره الرئيس. على ذلك، رأى دارين أن تجاربه الجنسية ومغامراته العاطفية، التي جدّت في العامين الأخيرين، في الوسع توظيفها في روايته الجديدة لمحاولة تقديم نموذجٍ فنيّ لهذه الشخصية النسائية أوتلك.
وكانَ دارين يُعوّل على الكحول في التركيز أثناء الكتابة، تماماً كما كان غيره من الكتّاب يُعوّلون على الحشيش؛ كجان جينيه ووليم برّوز وبول بولز. أما في الأحوال العادية، فإنه كانَ يكتفي غالباً بشرب النبيذ في الشتاء والبيرة في الصيف. مع أنه لم يكن قد غازلَ بعدُ آينور هانم، ولا حتّى قد فكّرَ جدّياً في رغبته بجسدها الرائع ـ سيجدُ شخصيتها تتماهى، إلى حدّ ما، مع إحدى نساء الرواية: إمرأة ميكانيكي بحّار، تعيش مع ابنتها الصغيرة، وتعاني بالطبع من الحرمان، مما يضطرها لإقامة علاقة مع بطل الرواية ( وهوَ الكاتبُ إلى حدّ كبير )، وذلك في أثناء خدمته الإلزامية بمدينة اللاذقية. ربما أسقط دارين شخصيّة الأولى على الأخرى، لمجرّد الحَدَس بأنّ آينور هانم ستغدو عشيقته في يومٍ ما. لمَحض المُصادفة، أنّ المرأتين يدينان بالمذهب العلويّ، الذي يَعفي مُعتنقيه من الواجبات الدينية بشكلٍ كبير. ما عدا ذلك، يجوز القولُ أنهما على إختلافٍ بيّن في مستوى الثقافة والمؤهل التعليميّ، فضلاً عن طبيعة المزاج والعاطفة. ولكن، هل كانَ سيعرفُ حقاً آينور هانم، لكي يضعها في هكذا مُقارنة، تبدو إعتباطية تماماً؟
من ناحية أخرى، إهتمّ دارين بموضوع عودة والدة بيمال من موسكو، بما أنّ ذلك أثّرَ في حاجته الجسدية. الأم، وهيَ على شيءٍ من الخبل، كانت أكثر تشدداً مع الفتاة من الخالة، لدرجة منعها أيضاً من العمل في المطعم. ألتقى بعد فترةٍ بوالدة فتاته، ثمة على طريق الغابة، وكانت برفقة شقيقتها وعليهما ملابس رياضة المشي. فيما رحّبت شقيقتها به، فإنّ هذه أكتفت بتحيته في عبوس. كانَ واضحاً، أنها على علمٍ بشكل ما، بزيارات ابنتها بيمال لشقّته في أثناء غيابها بعاصمة البلاشفة، المُتحوّلة سريعاً إلى مرتعٍ للمافيا والشركات العابرة للقارات. بالرغم من ذلك، أمِلَ دارين في شبق فتاته، وأنه سيدفعها سريعاً إلى أحضانه في أول فرصة سانحة. وإذا به بعد أيامٍ قليلة، يسمعُ في النادي عن حادثٍ خطير، كادَ أن يودي بحياة بيمال ووالدتها.
" التفّاف "، كانَ قد طلبَ من شقيقة امرأته محاولةَ التوفيق بين ابنة عمّه وزوجها، الذين يعيشان في مدينة صغيرة إلى الشمال الشرقيّ من أوبسالا. آنذاك كان الزوجان قد اتفقا على الطلاق، وينتظران إذن المحكمة بما أنّ لديهما أطفالاً. شقيقُ الزوج، وكانَ رجلاً أربعينياً يُقدّس المرأة ( بالأخص إذا كانت من عائلة آغوات )، أعربَ عن غضبه الشديد حينَ وصلَ الأمرُ إلى الطلاق. عندئذٍ، طُلِبَ منه أخذَ والدة بيمال إلى تلك المدينة في مسعى حلّ الخلاف. قادَ الرجلُ سيارتها، بما أنها لم تكن بعدُ قد حصلت على إجازة السياقة الرسمية. بيمال، دُعيت إلى مرافقتهما؛ ربما كنوعٍ من " المُحْرَم ". في خلال الطريق، أخذت الأم تؤنّب السائقَ باستمرار، تارةً بسبب السرعة وتارةً أخرى لأنه تاهَ في منعطفٍ خاطئ. بالنتيجة، أنّ السيارة حادت عن الطريق ودخلت بإحدى الأشجار. كانت الضربة من جهة السائق، فأدّت إلى تهشّم جسده وموته حالاً. الأم، فوقَ خبلها، أصيبت بصدمة عصبية. فيما ابنتها خرجت من الحادث مع كسرٍ في ساعدها.
الحادث، ترتّبت عليه مأساة إضافية. لأن الرجلَ الصريع كانَ ينتظرُ موافقةَ السلطات على طلب لجوئه، فيما أسرته ما زالت في تركيا. لقد تُركت الجثة تتخمّر في براد المستشفى لمدةٍ تزيد عن ثلاثة أشهر، وذلك على خلفية مسعى الشقيق إلى حمل السلطات السويدية على منح أسرة الراحل حقّ الإقامة. إلى الأخير، شُحنت الجثة إلى الوطن في نعشٍ أنيق وعلى نفقة السلطات. شقيقُ الراحل، سبقَ أن تعرّفَ عليه دارين في النادي، كونه رسّاماً. بعضُ لوحات الرجل، بيعت للنادي، وتم تعليقها على جدران الصالة كي تُرهب الأطفالَ المشاغبين. وتذكّرَ دارين، عند رؤيته لتلك اللوحات، أنه كانَ يرسم بطريقةٍ أكثر إتقاناً عندما كانَ في الخامس الإبتدائي. كذلك لوحة كبيرة على القماش، لنفس الرسّام، كان يجري تعليقها في صدر المسرح أثناء الإحتفال القوميّ بعيد نوروز. حينَ ظهرَ على دارين شعورُ الرعب إزاءَ تلك الرسمة، قالوا له في النادي: " تفضّل وشمّر عن ساعد الجدّ لرسم لوحة أفضل ". وقد بقيَ دارين يعمل في اللوحة الجديدة لمدة شهر، كونها بحجم ثلاثة أمتار طولاً بأربعة أمتار عرضاً. لقد تبرّعَ بها للنادي، وتم تعليقها في حفل النوروز في عامٍ مضى، وأيضاً نقلت إلى ستوكهولم كي تُعرض في نفس المناسبة. أثناء حفل أوبسالا، الذي أقيمَ في صالة كبرى، ظهرَ رئيسُ النادي مع طفلةٍ تحملُ سلة مليئة بالأزهار. تم توزيع أكثر الزهور على بعض النسوة السويديات، تقديراً لحضورهن الحفل. ولم يتذكّر أحدٌ الرسامَ بزهرة. في أسفل لوحته تلك، قام خطاطٌ من كرد لبنان ( على قرابة بالحوت ) بشخبطة شعار التهنئة بالعيد. وقد حصلَ على ثمانية آلاف كرون، لقاءَ ساعةٍ من العمل بالتخطيط، فضلاً عن زهرةٍ لم تثر في ملامحه سوى الإشمئزاز. وبالطبع، لم ينسَ رئيسُ النادي زوجتَه وابنَه من التكريم بالزهور: " لأنهما صبرا طوال العام المنصرم على فراقي، وذلك أثناء خدمتي للنادي ". لكنه حينَ دعا ابنه ذا السبعة أعوام للصعود إلى المسرح كي يتلقى هديّته الرمزية، بقيَ هذا واقفاً وقد تلبّسته الحيرة. عندئذٍ، تصاعدت أصواتٌ ساخرة من داخل صالة الحفل: " تكلّم مع ابنك باللغة التركية، لأنه لا يعرف الكردية! ".
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |