غرامُ آينور هانم: في شباك العنكبوت

دلور ميقري
2023 / 7 / 1

1
طلبوا من دارين، في ذلك الوقت، أن يُسهم بتقديم درس رسم للأطفال في النادي الكرديّ. وكان هذا النادي يحتلُ طابقا أنيقاً في مركز أوبسالا، مجاوراً لمقهى " الحجرة الحمراء "، ويتألف من صالة كبيرة وعدّة غرف تستعمل للدروس والإدارة. ثمة كان آخرون يعطون دروساً لأبناء الجالية في إختصاصات مختلفة، نظير اللغة والموسيقى والسواقة. كانت الدروس مدعومة من مؤسسة حكومية، ( أ ف ب )، وتدرّ دخلاً جيداً على النادي. وبناءً على موعدٍ مُسبق، ذهب دارين إليهم كي يفهم المطلوب منه. إلتقى هناك في حجرة الإدارة برئيس النادي، وكان شاباً ثلاثينياً من تركيا. هذا الأخير، مع أنه رحّب بدارين بصورة طيبة، إلا أنه ذكّره بصورة صدّام حسين، بقامته الفارعة وشاربه السميك وعينيه القاسيتين وطريقة كلامه؛ إلا أنّ لونَ بشرته بيضاء. ثم أنضم إليهما المُحاسب؛ وكانَ هذا شاباً من شمالي سورية، حسنَ الصورة لولا لؤم نظراته وما يتناثر من ريق فمه عندما يتكلم. أكثر من مرة، تدخّلَ هذا " التفّاف " في أمور لا تعنيه في خلال المناقشة. لقد كانَ من طينة ذلك النوع من البشر، الذي يعرفُ كل شيء وقد يتنبأ أيضاً بالمستقبل. على العموم، قالوا لدارين أن عليه تقديم الدرس كل يوم سبت في ساعةٍ محددة صباحاً. وبالطبع، لن يحصل على أيّ أجر. في مقابل ذلك، يؤمّن النادي لوازمَ الرسم للأطفال؛ ومن المفترض أنهم بين سنّ السابعة والتاسعة. أخذه المحاسبُ من ثم إلى الحجرة، المخصصة للدرس، وكانت مجهزة على أكمل وجه ـ كأمور السويديين بعامّةٍ.
في خلال الدردشة مع الشاب، تبيّنَ أن لهما صديقاً مُشتركاً يُقيم في دمشق. وإذا المحاسبُ، يُفاجئ دارين بهذا الإقتراح: " لو أردتَ أن تساعد صديقنا في اللجوء إلى السويد، فلن يكلفك ذلك سوى مبلغ ثلاثة آلاف دولار "
" والله أنا لا أملكُ، حالياً، حتى ثلاث دولارات! "، قالها دارين ببساطة. ثم سألَ صاحبَ الإقتراح السخيّ: " وأنتَ، أليسَ بمقدورك دفع المبلغ من أجل صديقنا؟ ". حدد الآخرُ فيه عينيه بنظرةٍ مُستخّفة، وردّ بالقول: " لا، ولكنني كنتُ سأتولى مهمّة تدبير المُهرّب "
" على أيّ حال، تواصل أنتَ مع المهرّب. لأن صديقنا في وسعه دفع المبلغ بنفسه، كونه يمتلكُ مشغلاً لصنع أدوات الغيار "
" أخي، أنا قلتُ ما عندي وأنتَ بإمكانك الإتفاق مع صديقك حول الموضوع! "، أجابَ " التفّافُ " بانزعاج. لقد لاحَ ـ كأيّ قرويّ ـ شرساً للغاية فيما يتعلق بأمور المال ومُستعداً للعراك من أجله. ولعلهم أسندوا إليه وظيفةَ المُحاسب، لهذا السبب؛ فضلاً عن نزاهته وأمانته، بطبيعة الحال.
هكذا رأى دارين نفسه في يوم السبت التالي مع تلاميذه وأهاليهم، وذلك في حجرة الدرس. كان هذا اليومُ منذوراً للتعارف، حَسْب. أولياءُ أمور التلاميذ، كانوا جميعاً من النساء، وغالبيتهن كانت معلوماتهن عن الفن أقل من فهمهن للغة الهنود الحمر. فكّرَ دارين يومئذٍ ( مُستنداً على تجاربه السابقة )، أنه بصُحبة زوجات أصحاب مطاعم كباب وبيتزا، انتقلت إليهن عدوى سعار جمع المال. إلا إمرأة واحدة بينهن، كنّ يَدْعونها ب " آينور هانم "، بكثير من الاحترام. إذ ظهرَ بشكلٍ ما للمُدرّس، أنها على جانبٍ من الثقافة، والرقيّ أيضاً. تكلم معها دارين، بينما الإجتماعُ يتشتت رويداً، كونها شاءت أن تسأله عن بعض الأمور. كانت آيةً في الحُسن ـ كما يُقال عادةً؛ صهياء، بقسمات متناسقة وطول مُعتدل. إلتفاتةٌ واحدة إلى أظافر أصابع يديها، المطلية باتقان بلونٍ أحمر يُناسب ملابسها، كانت كفيلةً باعطاء المرء وجهة نظر صائبة عن مدى إهتمامها بالتجمّل والتأنّق. لقد استفادت من قلة الإهتمام بالمراقبة الصحية، هنا في النادي، كي تُشعل سيجارة. تحدثت مع دارين باللغة السويدية، بينما كانت تخاطب ابنتها الصغيرة بتركيّة المدن لا تركيّة الأرياف. لم تكن كردية، ولكن زوجها كانَ كذلك ـ كما فهمَ منها. ابنتها ذات السبع سنين، ويُخاطبونها بالاسم المُختصر، " خَجِيْ "، كان جمالها لا يُقارن سوى بأطفال لوحات عصر التهضة، اللواتي تُحلّق الملائكةُ فوق رؤوسهن المُتوّجة بسبائك الذهب. ظنّ دارين، لأول وهلة، أنها استمدت جمالها من الأم، لكن هذه قالت ضاحكةً بشيءٍ من الإرتباك: " بل إنّ جمالها كرديّ، ولا أدري إذا كانَ هذا من حُسن حظها أو العكس! ". ثم أكملت مع نفثة من دخان سيجارتها، ومع نظرة حنو نحو الإبنة: " هيَ تُشبه عمّتها، التي تعيش في أنقرة "
" وأنتِ أيضاً من أنقرة؟ "
" لا، أنا من أضنة؛ ووالدي من أصلٍ بلغاريّ "، ردّت عليه ثم استدركت مُبتسمة: " أما والدتي، فأصل أسرتها من دمشق ". إذاك، كانت قد عرفت سلفاً أنه من المدينة، التي كان الأتراكُ يَدْعونها في زمن العثمانيين، " شام شريف ". عندئذٍ، تذكّرَ دارين رجلاً كردياً من تركيا، كانَ قد قال له ذات يوم نفسَ المعلومة عن والديّ زوجته. كانَ يومئذٍ يقفُ خلفَ الصندوق، ثمة في مطعم داخل مُجمّع " كفارنين ". كانَ شاباً ثلاثينياً، أشقر ووسيمَ الملامح، بالرغم من صلعته المُضيئة نصفَ رأسه.
لما ذكرَ ذلك لآينور هانم، فإنها قالت ضاحكةً وكأنها سمعت نكتة: " آه، إنه زوجي؛ خلّو! ". ثم أضافت، مُتّخذةً نبرةَ إمرأةٍ غير مُكترثة كثيراً بشريك حياتها: " إنه لا يستقر في مكان، ومنذ نحو شهر أشترى مطعماً في مدينة سالا ".
لقد خصّته هذه المرأة بودّ دافئ، وحتى أثناء تكلمه مع الأخريات كانت تلتهمه بعينيها الواسعتين، الشهلاوتين. بسبب إلحاح ابنتها، أستأذنت في الإنصراف: " إلى اللقاء في السبت القادم "، ودّعته بلطف ثم غادرت الغرفة مع الابنة الملولة. شيّعها بعينين جائعتين، إلتهمتا بدَورهما هيئتها المُثيرة؛ بالأخص ردفيها الثقيلين، المحشورين بصعوبة في بنطالٍ ضيّق بلون طلاء أظافرها.

2
وإذا بوجهٍ جديد يحلّ في المكان، مُتأخراً جداً بالطبع. لقد كانت نادين، التي رافقت فتاةً صغيرة على شبهٍ لافتٍ بها. قالت للمدرّس، معتذرةً: " كان لديّ موعدٌ في مكتب التأمينات الإجتماعية، ولم يكن في وسع أحدٍ آخر مرافقة ابنة أختي ". أدرك أنها تتكلمُ عن شقيقةٍ أخرى، غير والدة ميديا، التي هيَ كبراهن. وكانت تلك إمرأة مسكينة، على شيءٍ من السذاجة، تعيسة الحظ برجلٍ سيء الخلق؛ يُدعى " سامو ". كانَ الرجلُ يقضي وقتَه نهاراً بتصريف ملابس جديدة، سرقها مواطنوه المنحرفون من المخازن. ومساءً، يكونُ أولَ زبائن الملهى.
بحجّة إعطاء المعلومات اللازمة عن الدروس، سرعانَ ما أختلى دارين بالقادمة الجديدة، التي علمنا كيفَ أنها شغلت تفكيره فيما مضى، لحين أن إقتحمت حياتَهُ العاصفةُ العاتية. جلسا في نفس الحجرة بعدما خلت إلا منهما، كون ابنة الأخت رافقت إلى الصالة أطفالاً تعرفهم. كانت نادين تقريباً ملتصقةً به من جانب، حالهما حينَ إلتقيا أول مرة في الحافلة الكبيرة. فتغلغلَ فيه ضوعُ أنفاسها الطيّبة وعطرها الباريسيّ، فأسكره حقاً. كانَ ثملاً سلفاً، ولا غرو، بحُسنها الخلّاب. إلى ذلك، تأنقت بملابس صيفية خفيفة، فجّرت على أوضح صورة مفاتنَ النهدين والردفين والخصر الرشيق والأطراف المرمرية. لقد كسا وجهها نمشٌ مُحبب، أستقرّ فوق الخدين اللذين سفعتهما الشمسُ فأضحيا بلون اللوز المُحمّص. ولقد مالت عليه بهذا الوجه الجميل، تنصتُ إليه فيما عيناها لا تحيدان عن عينيه.
وكان دارين قد كررَ على سمعها المعلوماتِ القليلة، المُتعلقة بالدروس. ومن ثم بقيَ قليلاً على ترددٍ، قبل أن ينهمر عليها سؤاله الأول: " أترغبين بمواصلة الدراسة أم تسعين لعملٍ ما؟ "
" أنا أعملُ في رعاية ابن شقيقتي الصغير، المُعاني من مرض التوحّد "
" آه، أتمنى له الشفاء "، قالها بأسف ثم استدركَ حالاً بسؤال آخر: " وهل تقيمين معهم، أم في شقّة خاصّة؟ ". أجابت وقد رسمت على طرف فمها بسمة، بالكاد تبين: " أنا أسكنُ في منزل شقيقتي الكبرى، والدة ميديا ". لحظَ كذلك تشديدها على الاسم الأخير، ما جعل داخله يتبلبل إلى حد ما: " أمنَ المُمكن أنها على علمٍ بعلاقتي السابقة مع ميديا، وأنني كنتُ أسعى للإقتران بها؟ ". ثم أطلقَ تنهّدةً مسموعة، فيما كانَ يُنهي تفكيره بهذه الجملة: " كم كانَ عاصفاً، العامُ المنصرم! ".
بدَورها، بادرت تسأله لما طالَ الصمتُ بينهما: " وأنتَ، ماذا تفعل هذه الأيام؟ ". فأخبرها عندئذٍ أنه ينتظرُ حلولَ الخريف، لكي يبدأ الدراسة في معهد الفنون. علّقت هيَ بالقول: " في هذه الحالة، ستغدو مُدرّساً مُعتَمداً لمادة الرسم. أليسَ صحيحاً؟ "
" في حقيقة الحال، إنني أكرهُ مهنةَ التدريس لأنها لا تناسبُ طبيعتي "، قال ذلك ثم أوضحَ بسرعة: " لقد قبلتُ إعطاءَ دروس رسم للأطفال، دعماً لميزانية النادي "
" إذاً، أنتَ تسعى للعمل مُستقبلاً كرسّام حُر؟ "
" أنا مختصٌ أصلاً بالرسم الكاريكاتوري، لكنني عزفتُ عنه كون السياسة لم تعُد تثير إهتمامي "
" تمتلكُ الموهبة، إلا أنك محتارٌ كيفَ تستفيد منها لتدبير أمور حياتك "، خاطبته بعبارةٍ صريحة وكأني بها تحكمُ عليه بأنه شخصٌ فاشل. شعرَ عندئذٍ بالحَرَج، ولم يُعلّق على كلامها سوى بهز رأسه في غموض. ودّ لو أخبرها، أنه يجدُ مستقبلَ حياته في الأدب. إلا أنّ الأمرَ كان ليغدو أكثر هزلاً، هوَ مَن بلغَ سنّ الثلاثين قبلَ نحو أربعة أعوام ولم يطبع بعدُ أيّ كتاب. بغض الطرف عن كل ذلك، فقد أسعده ولا شك اهتمامها بالسؤال عن أحواله. عندما تحركت أخيراً للذهاب، نبرَ بالقول: " أنتِ ما زلتِ تحتفظين برقم هاتفي، أليسَ حقاً؟ "
" وما حاجتنا بعدُ للهاتف، نحنُ من ثرثرنا اليومَ شرقاً وغرباً؟ "، تساءلت بدَورها وأطلقت ضحكةً مرحة. ثم استدركت، مُطرفةً بعينيها في حركةٍ ماكرة، فيما توّدعه: " أم أنني سأحصلُ منك على موعدٍ، لكي ترسم لي صورة؟ "
" بل ستحصلين مني أولاً على موعدٍ، لتناول الغداء معاً في أحد المطاعم "، أجابَ مُتكلّفاً ضحكةً مُقتضبة. لقد تبلبلَ داخله مرةً أخرى، طالما أنّ جملتها الأخيرة تعني فيما تعنيه إحتمالين: الأول، الإحالة إلى موضوع ميديا؛ وكانت علاقته بها قد بدأت حينَ أقترحَ عليها أن تقفَ موديلاً أمامه لرسم لوحة. الإحتمال الثاني، وهوَ الذي أقلقه بحق ، أنّ نادين تعرفُ بموضوع نجوى وأنها كانت عشيقته.
ولكنّ نادين كانت هذه المرة سريعةً في الردّ، ولم تدَعَه ينتظرُ لأيامٍ طويلة. خابرته ليلاً في نفس اليوم، فاستهلت الكلامَ كعادتها بطريقةٍ صريحة ومباشرة: " دارين، ماذا تريدُ مني في حقيقة الأمر؟ ". ألجمه السؤالُ؛ مع أنه من المُفترض، ولا بدّ، أن يكونَ قد توقّعه. كما نوّهنا في مكانٍ آخر، كانَ يأملُ منها المعاشرةَ الحرّة ولم يُفكّر أبداً أن تكونَ قرينته.
قال لها بصدق، وليسَ بدون مُداورة: " أريدُ أن نكونَ صديقين، لحين التفاهم على صيغةٍ مُناسبة للمستقبل ". أمسكت عن الكلام للحظات، قبل أن تعلّق بالقول: " البعضُ يعتقدُ أنني فريسةٌ سهلة، كوني مُطلّقة. ولكنني لا أظنّ أنك من ذاك البعض؟ "
" نعم! "، أجابَ عكسَ المطلوب لشدّة إرتباكه. ثم أستدركَ حينَ انتبه لما فاتَ: " ليسَ عندي هكذا فكرة، بالرغم من أنني لا أدّعي أنني ملاكٌ "
" ما زلتُ صبيّةً بعدُ، وأتمنى ألا أرى الملاكَ قبل بلوغي سنّ التسعين "، قالتها ضاحكةً. شجّعه شعورُها المَرح، لكي يُعيد دعوته إلى الغداء: " غداً الأحد، وأظنكِ ترتاحين في خلاله؟ حسنٌ. سنمضي معاً إلى مطعمٍ يونانيّ، يُقدّم أطباقاً شهية. وهناك، نواصل حديثنا في حرية أكثر ". وافقته في الحال، فحدد لها مكانَ ووقت اللقاء.

3
ساحة الكاتدرائية، المُسطّحة الملساء ـ ككفّ رفيقته ـ أفرغتها الشمسُ الحادّة من كل الزوّار، ودفعت بعضهم إلى ظلال العمائر المجاورة أو إلى داخل الصرح العظيم. وكانَ يتناهضُ من الصرح، برفعةٍ وجلال، البرجان الضخمان والشاهقان، الشبيهان بالأهرامات الفرعونية؛ ليسَ شكلاً حَسْب، بل وأيضاً كقيمة روحية.. وسياحية. الجانبُ الروحيّ، أهتم به بابا الفاتيكان، البولنديّ الأصل والمنشأ، الذي كرّم أوبسالا ذات مرّةٍ بزيارةٍ نادرة. كثيرون، يُرجعون الفضل إليه في إنهيار الكتلة الشيوعية، الصمّاء، وذلك قبل نحو عامين.
قال دارين: " هذه الكاتدرائية هيَ من أوابد العقيدة الكاثوليكية، وذلك قبلَ أن يقلب السويديون ظهرَ المجن لسلف البابا الحالي ويتبعون ملّة المُصلح المُتزمّت، مارتن لوثر ".
" لكنهم تركوا الآنَ التزمتَ، بل والإيمانَ برمّته "، علّقت نادين على معلومته. وكانت ما أنفكّت تشخصُ ببصرها إلى البرجين، الممنوحين هذه المرة، بفضل أشعة الشمس، طبقةً ذهبية شبيهة بتلك الحقيقية، المُغلّفة التماثيلَ البرونزية، العائدة لعصور ما قبل الميلاد. وإنها هذه الأشعة، مَن رقّطت بالنمش ما تحتَ عينيّ رفيقة دارين ووجنتيها وأذنيها. عندئذٍ كانَ قد بلغ به التبسّط معها، أنه كانَ بين فينة وأخرى يُقبّل تلك الأماكن بحريّة. وفي الأثناء، كانَ أيضاً يُقلّد الشبان السويديين، الذين يُمسّدون بأيديهم على أرداف صديقاتهم ـ كتعبيرٍ عن العلاقة الحميمة. وإنه في سبيل الوصول إلى ما أبعد من هذه الحميمية، كانَ قد أقترحَ على رفيقته الذهاب بعد الغداء إلى شقّته كي يُريها أعماله الفنية، وغالبيتها رسوم كاريكاتير.
عقبَ زيارتهما السريعة للصرح، أينَ أشعلا شمعتين على سبيل التمنّي بحياةٍ مُشتركة، توجّها إلى المطعم اليونانيّ القريب. إنحدرا أولاً عبرَ الدرجات المُفضية من ساحة الكاتدرائية إلى الدرب الضيّق، ومن ثم إلى الشارع. ثمة تفرّدَ سبيلُ ماء، برونزيّ، من تلك العصور الخوالي؛ ويُمكن ملاحظةُ نسخةٍ قريبة منه، في المدينة القديمة بستوكهولم. قال دارين، واضعاً يدَهُ على الجانب المكسور قليلاً من أسفل السبيل: " هذا من آثار صاحبنا نيازي، وكانَ قد صدمَ سيارته بطرف السبيل لما كانَ عائداً ليلاً من أحد الملاهي "
" إنه شخصٌ كريه، نمّام "، أبدَت نادين رأيها مُتجهّمةَ الوجه. ثم أستطردت بالقول: " تصوّر أنه لاحقني ذاتَ مرةٍ في الشارع لدى خروجي من مكتب العمل، وفي وهمه أنني سأمضي من هناك إلى لقاءٍ غراميّ ".
تذكّرَ دارين عند ذلك، أنّ ربيبَ الملاهي قد صارحه يوماً بمعرفته للعلاقة التي ربطته بميديا: " لا تسألني كيفَ علمتُ بالأمر، أنا مَن أذرعُ الشوارعَ كلّ النهار وفي كل الفصول! ". لمَحض المُصادفة أيضاً، أنّ المرة الأخيرة وجدَ دارين فيها نفسه ثمة، في المطعم اليونانيّ، حينَ كان بصُحبة ابنة شقيقة نادين نفسها. لكنه بالطبع، أحتفظ بذكرياته لنفسه.
المطعم اليونانيّ، الذي دلفا إليه عبرَ درج ضيّق عتم، إكتسبَ برودة الكهوف وكأنما لا شأنَ له بحرارة الهاجرة خارجاً. أمّا إحدى الموائد المُنمنمة، المفروشة بسماطٍ ناصع البياض عليه رموز فنية إغريقية، وسُرعانَ ما حضرَ النادل وكانت فتاة ذات ملامح شرقية. عرفَ منها دارين على الأثر، أنها سريانية لبنانية وقد أشتروا المطعمَ منذ بضعة أشهر. مع ذلك، طلبَ ورفيقته طبقين من المطبخ اليونانيّ مع مازوات بصُحبة نبيذ ساموس، الحلو المذاق. قرعا قدحيهما بعضهما ببعض، فيما كانت جلبة مياه النهر تطغى على أصوات الطيور، الهاجعة على الأشجار. قال دارين، مُشيراً إلى تلك الأشجار: " لاحظي كيفَ تهمي أغصان الصفصاف على المياه، سعياً إلى الرطوبة. إننا ندعوها في الشام، ‘ مستحيّة ‘، لأنها تلوحُ كالبنت المطرقة برأسها في خجل "
" الشام، ما أجملها من مدينة "، علّقت نادين. وأضافت، بينما قدحها ما فتأ معلّقاً بيدها فوق المائدة، متوهّجاً كالياقوت الأحمر: " بسبب الحرب الأهلية في بيروت، كنتُ أزور الشام كل شهر تقريباً برفقة صديقاتي أو قريباتي. ذهبنا أيضاً إلى صالحية الأكراد في سفح قاسيون، ومن هناك إنبسطت تحتنا المدينة الغارقة باللون الأخضر. بيروت، بالرغم من أنّ الجبال المحيطة بها مُشجّرة، إلا أنها مدينة خالية تقريباً من الخضرة. حتى حرجها الصنوبريّ، إحترق بنيران المتحاربين "
" أنا أيضاً، بالطبع، تواجدتُ في لبنان أكثر من مرة. ولقد قضيتُ أياماً رائعة كالحلم، ثمة في مناطق الجبل القريبة من بيروت؛ كعاليه وبحمدون وسوق الغرب والمتن. ما زال ضوعُ أشجار الصنوبر العطريّ، يفغمُ أنفي حينَ أتذكّر تلك الأيام "
" لحظتُ أنّ كردَ الشام أكثر تمدّناً من كرد بيروت، لأنّ أواصركم انقطعت منذ أجيال عديدة مع مواطنكم الأصلية في أرياف ماردين وغيرها من أماكن كردستان. إننا ما زلنا تقريباً مجتمعاً قروياً، ينأى بنفسه عن مجتمع بيروت. قلة قليلة من شبابنا، نالوا قسطاً من التعليم، والأكثر ندرة بينهم مَن وصلوا للمرحلة الجامعية "
" أيضاً حرمانكم من الجنسية اللبنانية، أضطر شبابكم للنزول إلى سوق العمل "
" حتى النساء ذهبنَ للعمل في منازل الأغنياء اللبنانيين، فاكتسبت جاليتنا سمعةً سيئة بالنتيجة "
" ثم دارت الدائرة على اللبنانيين بدَورهم، بسبب الحرب الأهلية، ليجدوا أنفسهم كمهاجرين في السويد وغيرها من البلدان الغربية "، قال دارين. وفي تلك اللحظة، كانت النادلُ قد أقتربت من المائدة مع أطباق المازة. فيما كانت ترصفُ الأطباقَ، خاطبت دارين بنبرة مرحة وكانت قد سمعت جملته الأخيرة: " والله لم يُخرّب لبنان إلا أنتم السوريون، وجعلتمونا نترحّم على أيام ياسر عرفات، السوداء! "
" مَن خرّبَ لبنان، هوَ نفسه الذي خرّبَ سورية "، ردّ عليها دارين مُبتسماً بمرارة. هزّت النادلُ رأسَها، ولعلها لم تفهم ما سمعته. ثم قالت قبل ترك المائدة: " ليكن الرب في عون الجميع ". غبّ ذهابها، غيّرت نادين إتجاهَ الحديث: " أمن الضروري أن أرافقك اليوم إلى شقتك؟ "، تساءلت وهيَ تتمعّن في عينيه وكأنما تسبرُ غورَهُ. أمسك بيدها في رقة، وأجابَ مُتكلّفاً نبرة بريئة: " لِمَ لا، وأنتِ اليومَ في عطلة؟ "
" ولكنك، يجب ألا تُمنّي نفسك بالنيل منّي. أقولها لك منذ الآن! "، قالتها فيما كانت تفرك يده. رفعَ دارين يديه بحركة إستسلام، ضاحكاً: " أنا أسيركِ منذ الآن "
" ما أنعمَ أناملك! إنهم بالفعل، أناملُ رسّام "، قالت ذلك مواصلةً مداعبة يده بعدما استعادتها. عندئذٍ جذبَ يدها إلى فمه، فقبّلها ببطء ورويّة: " بل ما أنعمكِ وأجملك، إنكِ تفوقين بالحُسن كل ما يحيطنا من أشياء رائعة ". ولو أنه لم يكن حينئذٍ هائماً بفكره في رحاب حُسنها، لكانَ الحَريّ به أن يتذكّر بأنه قالَ نفسَ الكلام لإبنة شقيقتها؛ وربما في ذات المكان.

4
بعدَ أعوام من هذا اليوم الصيفيّ الخانق، تساءل دارين والندمُ يخنقه بدَوره: " ماذا كان في وسعي أن أحصل من نادين، غير الجنس؟ بالتأكيد، كنتُ سأكسبُ شريكةَ حياة ذات شخصية جذابة، ومثقفة نوعاً ما. وكانت حياتنا ستغدو فردوساً، بفضل نبلها وطيبتها وبساطتها. لكن الغباء، ولا ريب، كانَ قد أوحى لي بهذه الفكرة: أنتَ رفضتَ الإقترانَ بها لما كانت بكراً، فكيفَ تفعل ذلك وهيَ مطلّقة؟ بلى، غباءٌ وحماقة أيضاً. لم أفرق عندئذٍ بالعقلية عن أيّ من ذكور مجتمعنا الشرقيّ، وكانَ عبثاً تميّزي بموهبتيّ الرسم والكتابة. الغريب، أنه كانَ في وسعها ركل كل أولئك الذكور ( وأنا معهم بالطبع! ) والإرتباط بشاب سويديّ؛ بمَن سيجعلها سيّدة حرة، موفورة الكرامة ورغيدة العيش، لا جارية في سرير الجنس لا تنتج شيئاً في حياتها غير الأطفال. فلِمَ لم تفعل هيَ ذلك؟ لأنها كانت من التحفّظ والحياء، ألا تتمكن من التعرّف على شاب من خارج بيئتها الشرقية. أو توهّمت أنه لو حصل ذلك فعلاً، فإن حياتهما الزوجية لن يكتب لها الاستمرار بسبب فوارق الثقافة والدين والتقاليد ".
وفي ذلك النهار الصيفيّ، الذي بقيَ فيه روّادُ المطعم اللبنانيّ ( اليونانيّ سابقاً ) بمنأى عن الإختناق بالحر، بسبب طبيعة المكان وإطلالته المباشرة على النهر ـ كانَ كل حديث بينهما، تقوده نادين إلى جهة الزواج؛ مثلما يُقاد الأعمى من لدُن يدٍ بصيرة. في المقابل، حملها دارين أخيراً على الرضوخ لإلحاحه في أن تتجه معه إلى الشقّة. لعلنا غفلنا عن ذكر خروجها ذلك اليوم ببنطالٍ ضيّق، زهريّ اللون، جعلَ ردفيها الثقيلين كأنهما عاريين. وقد تحركا أمامَ نظرات دارين النهمة عند الخروج من المطعم، فأوحيا إليه بفكرةٍ لا تقل خراقة ـ برأيه ـ عن فكرة صاحبتهما بشأن الزواج.
ومع ذلك، كانَ أكثر هدوءاً في الشقّة حينَ راحَ يعرضُ أمام عينيها رسومَ الكاريكاتير، وكان يستمعُ بسرور إلى إشادتها بموهبته ومدى تتبعه لمجريات السياسة في الشرق الأوسط والعالم. كانت تتمتعُ بثقافة سياسية لا بأس بها، وذلك على خلفية نشأتها في عائلة وطنية كانَ لها جهودٌ مثمرة في نشر الوعي بين كرد بيروت. من ناحية أخرى، لم تنل إعجابَها الرسومُ المائية، فلاحظت بكثير من الصواب قلّة خبرته بالألوان. قالت عن لوحة " سيامند وخجي "، المعلّقة على الجدار فوق الأريكة السرير: " لو كنتُ بمحل الرسّام، لجعلتُ الماعزَ الجبليّ حياً، مُنطلقاً بكل حرية، بدلاً عن إبرازه رأساً مقطوعاً دامياً ـ كما لو أنها لوحة عن حكاية ثأر لا عن حكاية عشق! ".
خالٍ تماماً من شعور الضيق بسبب ملاحظاتها، قال لها دارين فجأةً: " وأنتِ يا نادين، ألم تعيشي من قبل حكايةَ عشق؟ ". رنت إليه بعينيها العسليتين، اللتين تتحولان أحياناً إلى لون العشب بفعل أشعة الشمس، وتملّته لبعض الوقت. لعلها كانت بحاجةٍ إلى توضيح، مثلما نمّ جوابها: " إذا كنتَ تعني أنني عشتُ قصةَ حبٍ أدّت لزواجي، فإن هذا لم يحصل "
" هذا ما عنيته بالفعل "
" لا، كانَ زواجاً تقليدياً. بل أسوأ من ذلك، لأنني كما لو كنتُ أتزوج بالمراسلة "
" إنهم خططوا قبل ذلك لمشروع زواجنا، أنا وأنتِ، بنفس الطريقة! "
" أعلمُ ذلك، بالطبع. وكنتَ على حق تماماً، بتملّصك من المشروع "، قاطعته مع بسمة ساخرة خفيفة. كانت إلى ذلك، قارئة جيدة للأفكار. فإنه عندما همّ بسؤالها عن موضوع طلاقها، كانت أسرع منه بالقول: " ربما أن قصرَ عُمر زواجي، كانَ من واردات ذلك التدبير البائس "
" أخبريني بصراحة، هل وجدكِ زوجك غير عذراء؟ "، طرحَ عليها هذا السؤال دونما تفكير تقريباً. ندّت عنها ضحكة خافتة، مشفوعة بهزّ رأسها في حركةٍ تُعبّر عن الأسف. ثم خطت إلى الوراء وجلست بقربه على الأريكة: " لا ألومُ كائناً مَن كان على هكذا تفكير، إلا أنتَ؛ الإنسان المثقف، الفنان "، ابتدأت تقولُ وقد لاحت مجروحة الشعور. حاولَ الإعتذارَ، لكنها استطردت دونَ توقف: " سأتجاوز خطأك، إذاً، لأقول أنني أقترنتُ بمخلوقٍ مُوَسوس. هذا المخلوقُ، لم يُغيّر شيمتَهُ التعليمُ العالي ولا أعوامُ إقامته في بلدٍ راقٍ كالسويد "
" ولكن، عفواً، كأنكِ تتهمينني أيضاً بكلامكِ؟ "، بترَ دارين كلامها وقد شعرَ أنه بدَوره أهينَ فعلاً. قبلَ الإجابة، وضعت يدها بلطف على يده المبسوطة على الأريكة: " آه، أعتذرُ لو أنك فهمتَ كلامي عن ذلك المخلوق بشكلٍ يمسّك "
" حسنٌ، وأنا ينبغي عليّ الإعتذار عن سؤالي الأول "
" واحدة بواحدة! "، قالت ذلك ضاحكةً. شاركها هوَ أيضاً شعور المرح. وبهذه الروحيّة، النائية عن سوء الفهم، أكملت كلامها بطريقتها الصريحة: " إنّ مجردَ كلمة، تقال لهذا النوع من المخلوقات، تنمو فوراً في دواخلهم كبذرة شوكة ". إلا أنها سكتت عن تتمة الحديث. بادرَ دارين بدَوره إلى إمساك يدها، للقول: " لستِ مضطّرة إلى الكلام، لو أنه يُثير حساسيتكِ "
" بلى، إنه يُثير خجلي في حقيقة الحال. لكن بما أننا كلانا بالغان ونمتلكُ التجربة، سأواصل كلامي "، ردّت وهيَ تتنهّد. وحقاً كسا وجهها لونٌ أحمر، سلفاً.
على العموم، فكّرَ دارين بعد أعوام، أنّ الزيجة القصيرة لنادين من " ذلك المخلوق " يُمكن أن تصبح نواة قصة، تقوم حبكتها على العلاقة المُلتبسة بين الرجل والمرأة في مجتمعٍ ذكوريّ قائم بشكل أساس على فدسيّة التملّك. ولكن، في الوسع كذلك تلخيصُ القصة ببضعة سطور دونَ أن يتأذى جوهرها.
عوضاً عن محاولة التعرّف على خطيبته من خلال منح المزيد من الوقت للتفاهم، أختصرَ " عادل " الطريقَ بلقاء والدها وهوَ يحملُ المهرَ والمصاغ الذهبيّ. وكان تصرفه مقبولاً ومألوفاً في مجتمع الجالية المنغلق ذي التقاليد القروية، الذي يعيشُ منذ عقودٍ على هامش مدينة كبرى كبيروت. هذا المجتمع، كانَ العديدُ من أفراده قد عادوا بدَورهم من الغربة بعد حربٍ أهلية استمرت خمسة عشرة عاماً؛ عادوا ليبهروا مواطنيهم المتكبّرين بما جرى من مال وفير بأيديهم، هم مَن كانوا فيما مضى مضغة الأفواه، الساخرة من بؤسهم وبدائيتهم. وإذاً، ظهرَ ابنُ خادمة منازل اللبنانيين الأغنياء في لحظة التحول التاريخيّ تلك، وكانت المدينة في الأثناء تتعافى بسرعة من جراحها بفضل رجلٍ عصاميّ، مخلص، جلبَ مليارات دولاراته من بلد خليجيّ، أينَ نمت شركاته وأضحى لها فروعٌ في عواصم الإستثمار حول العالم.
وجرى عرسٌ باذخ في أحد الفنادق الفاخرة، دُعيَ إليه بعضُ أولئك الوجهاء المحليين الساخرين، المُحتاجين، في المقابل، لأصوات الجالية في الإنتخابات المحلية والبرلمانية. ثم انتقل العريسان إلى حجرتهما في الفندق، لكي يقضيا ليلتهما الأولى تحت سقفها، المزخرف برسوم مقلّدة بشكلٍ سيء لمشاهد من لوحات عصر النهضة الأوروبي. بالرغم من ثقافتها، كانت نادين تعاني ليلتئذٍ من الرهاب، المُوهم بأنّ عملية فض البكارة ستترافق بالألم والنزف وربما الإسعاف إلى المستشفى. عادل، وكانَ لا يخلو من خصالٍ جيّدة، تفهّمَ شعورَ عروسه وأجّلَ العملية لبعض الوقت. كونها حاصلة على الفيزا، فإنها ما لبثت أن سافرت معه إلى السويد وكانت بعدُ عذراء. في أوبسالا، أصرت الشقيقة الكبرى لنادين ( ربما إظهاراً لغنى أسرتها )، أن يتم إحياء حفل للعروسين في قاعة خاصّة مع وجود فرقة موسيقية ومطربين........ كل ما سبقَ، كانت نهايته تعسة، لما أختلى العروسان، مجدداً، لمحاولة العبور بسلام من " ليلة الدخلة " إلى صباح اليوم الأول الحقيقيّ للحياة الزوجية.
حينَ استعصت عملية فضّ البكارة مرةً أخرى، كانت نادين مُنطرحة إذاك على بطنها. شعرت بيده تُمسّد على ردفيها، فما كانَ منها إلا مخاطبته بنبرة إغراء: " حبيبي، ليسَ من حقي أن أجعلك تعاني أكثر من الحرمان. فلو شئتَ، بإمكانك نيل متعتك من وراء ". دونَ نأمة، انتترَ واقفاً على الأثر. بقيَ للحظات يُمعن النظرَ في عروسه، التي ظلت حائرة لا تفهم معنى هذه النظرات الغريبة. ثم غادرَ الحجرة حالاً ومنامته بيده، لكي ينام على أريكة الصالون. في الصباح، على مائدة الفطور، خاطبها بنبرةٍ كامدة دونَ أن ينظر إليها: " ستبقين زوجتي على الورق، لحين حصولك على الإقامة. لو شئتِ أيضاً، سأتخلى لكِ عن الشقّة ". عبثاً حاولت التفاهم معه، وكانت مصدومة مذ ليلة الأمس. فيما بعد، عندما فشلَ السيّد حيدر بدَوره في حمل العريس على تغيير رأيه أو حتى تبيان سبب الخلاف، فإنه دعا نادين للإقامة في منزله. في مقابل شهامته بإبقاء نادين في السويد، أعيدَ لطليقها المصاغُ الذهبيّ. أما المهر، فبالطبع كانَ والدُ العروس قد سبقَ والتهمه حتى آخر دولار. هكذا بقيت زوجة صورية، كما لو أنها فراشة معلّقة بشباك عنكبوت.

5
إن الأيامَ القليلة، فكّرَ دارين أيضاً بعد أعوام، التي إكتسبت فيها نادين صفةَ الزوجة، كانت ما زالت حاجزاً نفسياً بينه وبينها. هذا، بالرغم من سعادته يومئذٍ حينَ عرفَ أنها بعدُ عذراء. الغريب، أنه تعاطفَ في داخله مع طليقها، وذلك بغض الطرف عن شعور الغيرة. هذا الشعور، كما قرأ دارين في مكانٍ ما، هوَ وليدُ نزعة التملّك عند الرجل الشرقيّ. حقاً إن الغربَ، المحكومَ من قبل أنظمة رأسمالية، يُقدّس الملكيةَ الخاصة، إلا أنه لا يُسلّع المرأة.
وكانَ دارين بنفسه، أثناء علاقته مع ابنة شقيقة نادين، قد صُدمَ من إعترافها بعلاقاتها الجنسية مع شابين آخرين في أعوام سابقة. وربما كان ذلك سبباً مباشراً في تخليه عنها، بمجرد دخول جوليا إلى حياته بطريقةٍ عاصفة. لقد دارت آنذاك في ذهنه، على الأرجح، هكذا فكرة: " ما الفرق بينها وبين تلك الإيطالية المُتهتّكة، سوى أنها أحتفظت ببكارتها لزوج المستقبل، المخدوع؟ ". وبالفعل، وجدت ميديا ذلك الزوج بعدما سلبَ هوَ، دارين، بكارتها. إنّ ذلك " القرين "، المُقيم في باطنه، أوحى له عندئذٍ أنه وضعَ القرنين على رأس الرجل؛ القرنين ذاتهما، الذين كانا من نصيبه هوَ لو تزوجها.
بعدَ أعوام، إذاً، وكانَ قد تسنّى لدارين قراءة رواية " قصة موت معلن " لماركيز، أذعنَ لفكرةٍ أخرى، مخالفة على طول الخط لفكرته الأولى، آنفة الذكر: " كم من الغباء والحماقة، حُشيَ بهما رأسُ كلّ منا، أنا وعادل، لدرجة ألا نقدّر أيّ ماسة نادرة كنا نمتلكها ثم قمنا برميها لغيرنا كما لو أنها جمرةٌ تحرقُ يدنا؟ ". في ذلك الوقت، كانا قد تعارفا بشكلٍ أقرب عن طريق أصدقاء مشتركين. وبالفعل، وَجَدَ عند عادل خصالاً أخرى غير الشهامة؛ كالنزاهة والكرم والرغبة بمساعدة الآخرين. مع كون ثقافته وفكره التقدميّ، تناقضا بشكل صارخ مع موقفه المعلوم من إمرأته الأولى. بلى، إنه أقترنَ بإمرأة أخرى لم يكن لها شأنٌ بأية معايير للجمال، وأنجبَ منها ثلاثة أولاد. لعله نفرَ من جمال المرأة بعامّة، لأنه ببساطة كان يذكّره بجمال نادين. من ناحيته، كانَ عادل شاباً على قدْرٍ معقول من الوسامة؛ حنطي البشرة، بعينين كبيرتين سوداوتين، وبفم رقيق الشفتين يكسوه شاربٌ أنيق. فضلاً عن ذلك، تمتعَ بجسدٍ رشيق ومشيق. لم يفتح معه دارين، بأية مناسبة، موضوعَ فشل زواجه الأول. المُفارقة، المُثيرة للمَرح والشؤم معاً، أنّ سامو، زوج شقيقة نادين، سبقَ أن التقى مع دارين في النادي الكرديّ. لقد قال له يومئذٍ، بنبرةٍ سليطة مع رائحة فم كريهة: " أليسَ في وسعك التكلّم مع عادل، لكي يُعيد إمرأته؟ أذكر له أنهما كلاهما مثقفان وجامعيان، كذلك حاول أن تعرف منه سببَ الطلاق! ".
إذاك، كانَ دارين على علمٍ أكيد بسبب طلاق الزوجين. كذلك كانَ على يقين، بانه لولا سوداوية تفكير أحدهما، لكانا قد عاشا كزوجين سعيدين. لكن دارين، في هذه الحالة، ما كانَ سيتمتع بجسد نادين، الأشهى من كل ما عرفه حتى ذلك الوقت من أجساد النساء؛ هذا لو وضعنا إحداهن على جانب، بوصفها أسطورة رومانية، بُعِثَت في عصر التكنولوجيا والحداثة.. وتجارة المخدرات!
مع أنه لم يعرف، تقريباً، سوى وجهاً واحداً من عملة جسد نادين: لقد أصرّت على البقاء عذراء، لحين أن يتم زواجها بدارين. وكانَ هذا الإصرار، لو فكّرنا بطريقةٍ خبيثة، من حُسن حظه إلى حدّ كبير. ولكن، ماذا قدّم لها في ذلك اليوم ( يوم إعترافاتها )، لكي تسلّمه جسدها عن طواعية؟
في حقيقة الحال، أنّ دارين قدّمَ لها الوعدَ بالزواج؛ وكان كاذباً، بالطبع. كما أنه لم ينلها برضاها، بل حصلَ ذلك في آخر الأمر ـ كأمر واقع، لا مفر منه. إنها بكل الأحوال، لم تكن من السذاجة أن تصدّق وعدَهُ لمُجرّد أنها سمعته بأذنها. لا، لقد غلبها الحبُ، وكانَ عنيفاً على الرغم من أنه قد تفتّح بين ليلةٍ وضحاها ـ كما معجزة كل وردةٍ من ورود الطبيعة.
في المقابل، كانَ دارين من شدّة الإنشغال بالفراغ من تأليف كتابه الشعريّ الثاني، أنه لم يكن مستعداً نفسياً لعلاقة حب جدّية. كانَ يُعاني من حرمانٍ جسديّ، حَسْب، وذلك على أثر إنقطاع نجوى عن معاشرته. هيَ أيضاً، تنتظرُ جوابه على عرض الزواج. وكما علمنا كذلك، كان يتوقّع طوال الوقت من نادين أن تخبره بأنها على معرفة بعلاقته مع تلك المرأة، التي كانت ما تنفّك " سلفتها " بحُكم استمرار زواجها الصوريّ من عادل.
وإذاً، لم يُقدّر لذلك اليوم ألا يُختتم سوى بالإعترافات. ما دامت نادين جالسة على الأريكة بالقرب منه، كانَ ينثرُ بسعادة الطُرَفَ أو يتكلّم عن مشاريعه الأدبية. في أثناء ذلك، قاطعته للتعبير عن دهشتها بإمتلاكه لموهبة أخرى غير الرسم. وكانَ يردّ أحياناً على ملاحظاتها، بإحتضانها وتقبيلها في شفتيها. وهيَ ذي أخيراً، تتحرّكُ من مكانها: " لقد تأخرتُ "، قالتها مُتنحنحة. أستوت على قدميها بتثاقل، وظهرها إليه، فبرز ردفاها عن قرب لعينيه بكل عظمتهما وعرامتهما وروعتهما. بلمحةٍ، جذبها بيديه من خصرها الرشيق، لتجد نفسها في حضنه. عندما تمادى في العبث بالأماكن الحسّاسة في جسدها، همست ببعض الضيق: " إنني غير مستعدة، ولقد أبلغتك بذلك مُسبقاً ". ولكنه كانَ قد لحقَ تجريدها من البنطال والسروال الداخليّ معاً، ليقبعا بأسفل ركبتيها. أفاقت عندئذٍ على نفسها، وأضحت ردّة فعلها تتسمُ بالمقاومة. إزاءَ عنادها، هتفَ بصوتٍ مرتجف من الإنفعال: " أتمنعين جسدك عن حبيبك، بينما كنتِ مستعدةً أن تهبيه لذلك المَخلوق المُوَسوس؟ "
" لا تكن أحمق، إنه كانَ زوجي "، صرخت هذه المرة بصوتٍ مُصمّ. بالرغم من الموقف المُشتعل، أدرك دارين حالاً أنها لم تعترض على كلامه بقدر غيظها من ذكره لشخصٍ باتَ كريهاً بالنسبة لها. لقد كانَ يُريدها مضاجعةً سطحية، ولتحتفظ بعذريتها ما شاءت. إلا أنّ مقاومتها، جعلته يتوغّل دونَ وعي بين الفخذين. وكانت ردة فعلها، أنها استدارت بكل جسمها وهيَ تُردد: " لا، لا! "، لتستقر على بطنها. عندما أنحنى عليها، على الأثر، كانَ يتوهّمُ سماعَ ذلك الصوت القديم، يُخاطبه هذه المرة: " لو شئتَ، بإمكانك نيل متعتك من وراء ".

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي