سيولُ ربيع الشمال: 32

دلور ميقري
2023 / 6 / 23

كونه أول ربيع يقضيه في حي غوتسوندا، فإن دارين كان يُمضي الوقتَ في إستجلاء الطبيعة؛ هوَ مَن تربى على عشق الورود والأزهار والأشجار، التي ترعرعَ معها في حديقة الدار بدمشق. جولاتُ النهار خِلَل الدروب، التي تشقّ لها طريقاً بين الأجمات والخمائل والصخور، كانت تنتهي غالباً على مقربة من مركز الحي ( السنتر )، المُشكّل مجمعاً تجارياً. صفٌ من الأبنية الشاحبة، الكئيبة، كانت تُحدق بذلك المركز، وكانت شقة السيّد باولو، تقع في إحداها. دارين، كانَ يؤجل في كل مرة زيارة الرجل. كانَ يؤلمه، ولا شك، أن يجده قابعاً بجسده الثقيل في علبةٍ من الإسمنت المسلح، المُستبدَلة بالفيلا الفارهة ذات الحديقة الرائعة والترّاس المُبهج. وكان دارين عائداً من إحدى جولاته الجديدة، لما وجدَ نفسه في مدخل ذلك المجمع التجاريّ. ولجَ إلى الداخل، وقد قرّ فكره أن يستعيرَ مؤلّفاً من المكتبة العامة. كانَ المكانُ مزدحماً كمألوف العادة، يلهجُ بكل لغات الأرض. وإذا به يلمحُ عن بُعد، ميديا!
ظنّ أنها كانت خارجة من المكتبة العامة، فتمنى لو أنه بكّرَ في القدوم. رآها جميلة أكثر مما عرفها في الماضي، وقد نضجت مفاتنها، وكانت سبقَ ورويت من ماء معينه. ويلوحُ أنها اكتسبت في الآونة الأخيرة المشية الواثقة، مع تلويح اليدين، فأضحت مع لون بشرتها الذهبيّ وعينيها الخضراوتين أشبه بالسويديات. مُنتشياً بالمفاجأة غير المنتظرة، حياها دارين مبتسماً بودّ: " مرحبا ميديا ". لكنها تجاهلته تماماً، وبقيت سائرة ونظرها إلى الأمام. اتسعت ابتسامته، ولو أنها غدت حزينة: موقفها كانَ متوقّعاً، ولا غرو، وكانَ قد جرّبَ بنفسه شعورَ الغدر والهجر والحرمان. ولكن، هل بقيت ميديا محرومة من المعاشرة حقاً، وذلك غبّ افتراقهما قبل عدة أشهر؟ كانت قد وصلته نميمة نيازي ( المولّع بجمع المعلومات عن العائلات الأجنبية )، التي يزعم فيها أن صُغرى بنات السيّد حيدر، تعاشرُ أحدهم أسوةً بشيمة شقيقتيها.
كانت الظلالُ قد بدأت تهيمنُ على الأشياء، لما نزلَ من الحافلة المتوقفة بإزاء أحد أبنية المجمع الطبيّ. سارَ في صُحبة الأشجار باتجاه " فلوستريت "، يُغذي الأملَ بلقاء جيني. طبيعة دارين، كانت تُصعّب عليه إقامة صداقات نسائية جديدة، وبالتالي، كانَ مُجبراً على تقليب صفحات الدفتر القديم. إلا في حالة ميديا، فإنه كانَ يسعى مُخلصاً لنيل غفرانها ومن ثمّ محاولة إقناع أسرتها بكونه الزوج المناسب. كانَ حلماً رومانسياً، جديراً بشاب في مستهل العشرينيات وليسَ برجل قد تجاوز الثلاثين منذ نحو أربعة أعوام. فوقَ ذلك، كانَ مُفلساً. إنهم ثمة، في أسرة السيّد حيدر، كانوا مستعدين للتغاضي عن إفلاسه لو كانَ الأمرُ يتعلق بجلب الخالة الصُغرى من بيروت المدمّرة إلى الفردوس السويديّ.
كان يستعدُ لجولةٍ عامة في الملهى، بحثاً عن جيني، لما رأى وجهها الجميل تحت اضواء الصالة الصغيرة، التي أعتادت مع صديقتها الراحلة على التهتّك فيها. كانَ برفقتها فتاةٌ قرمزية الشَعر، مُتّسقة القسمات، لا يُعيبها إلا طولها المُبالغ به. سرعانَ ما عرّفته جيني عليها، عقبَ تبادل قبلة التحية: " إنها تبحثُ عن فراشٍ دافئ، وهيَ بالمناسبة ليست سحاقية! "، قالتها بنبرة جدّية عندما أنفردت معه على سدّة البار. الموسيقى الصاخبة، لم تكن عندئذٍ قد صدحت. كانت الفرقة تعزفُ لحناً هادئاً، فدعا دارين جيني للرقص. قالت له محتجّة: " بل قم بدعوة صديقتي، ماذا دهاك؟ ". شاءَ عند ذلك التملّصَ، بأن يروي هذه الواقعة الطريفة على مسمعها: " ذاتَ مساء من عامٍ مضى، كنتُ في صالة أوتيل ‘ جيليت ‘، وكانَ مكتظاً بالمرتادين. لحظتُ على الأثر وجودَ امرأة حسناء، جالسة لوحدها مع قدح الشراب. سألتُ أصدقائي، وكانوا متواجدين قبلي، لِمَ لا يدعو أحدٌ تلك الحسناء للرقص. وكانَ جوابهم، أن جرّب بنفسك دعوتها. أعتقدتُ أنها تصدّ الرجال، أو أنهم يتهيبون من حُسنها الخلّاب. فاتجهت إليها وطلبتها للرقص. لما أومأت بالموافقة، سرتُ أمامها إلى دائرة الرقص. لأفاجأ ثمة بأنّ الحسناء ترتفعُ قامتها عن الأرض بأكثر من مترين. كنتُ أحتضنها في أثناء الرقص ورأسي بالكاد يصل إلى بطنها، فيما أصدقائي يقهقهون بصخب، ساخرين من حَرَجي وإرتباكي ".
علقت جيني، عابسة: " سمعتُ طرفتك، المُسلية. ولكن صديقتي ليست بذلك الطول، كما ترى بنفسك ". وأضافت، تنظرُ في عينيه كأنما تسبر غوره: " أرى أنها طريقة شيطانية، لجري إلى الرقص ومن ثم إلى الفراش. إنها نفس طريقتك من قبل، لما أردتني أن أقف أمامك عارية كموديل. وقد سبقَ وأفهمتك آنذاك، أنني لستُ الفتاة المناسبة "
" لا أعدّها شيطنة ولا خطيئة، محاولتي أن نكون صديقين "
" بالطبع، ولكن بعيداً عن أي شيء لعين آخر "
" أنتِ دائماً معي، تلك الراهبة البلهاء "
" الطريقُ الخطأ، قادكَ إلى فتاةٍ غير مناسبة. هذا كل ما في الأمر "
" ولكنني أحبكِ، جيني "
" يُحسن أن تتعرفَ إلى حُبٍ حقيقيّ، إلى فتاةٍ تمنحك جسدها لأنها ترغبُ بذلك "
" لا أرغبُ إلا بجسدك أنتِ، وستكونُ تجربةً جميلة لنا كلينا "
" اللعنة، أنتَ لا تريد أن تفهم شيئاً "، قالت ذلك بغضب وضربت القدحَ على سدة الكونتوار فانكسرَ واندلقت بقية الشراب. ثم انزلقت عن الكرسي العالي واتجهت مباشرةً نحوَ الصالة الصغيرة. لملمَ البارمان بقايا القدح ومسحَ بالخرقة شرابه المندلق على البلور، فيما كانَ يرمقُ دارين بنظرة تعاطف: " الجميعُ يعلم هنا، أنها فتاة سحاقية "، خاطبه في الأثناء. كانَ شاباً أفريقياً لطيفاً، مُعتاداً كأبناء مهنته على تبادل الأحاديث مع الزبائن.
صوتٌ آخر، أنبعثَ على الأثر من الخلف: " دارين، لِمَ أغضبتَ تلك الحسناء؟ ". كانَ رمّو، الذي وضعَ يده على كتف صديقه ليتساءل بفضول: " مَن هيَ؟ كأنني رأيتها من قبل؟ ". شاء دارين تذكيره، بأنها تلك الفتاة التي سبقَ وقدّمت عرضاً مبتذلاً مع جوليا على مرأى من روّاد الملهى. لكنه لم يفعل ذلك. أجابَ في اقتضاب وبغير إكتراث: " إنها من معارف صديقة سابقة "
" أكانت على معرفة بجوليا؟ "، قالها رمّو وقد ظهرَ بريقُ المكر بعينيه. فما لبثَ أن أردفَ، كما لو طُلِبَ منه تقديم معلومات: " أنتَ تعلم كيفَ دفعت جوليا ثمنَ عبثها بعشاقها، أليسَ كذلك؟ لقد تخلت عن حسين من أجلك، وجعلته في دائرة الشبهة حتى عقبَ نقله من الكُريدور. ثم تركتك من أجل عباس، وتسببت بعدئذٍ بسجنه وبقرار طرده من السويد "
" إنها تركتني من أجل الهيرويين، الذي كانَ صديقك يُتاجر به "، قالها دارين مُشدداً على الكلمات. أشاحَ الآخرُ وجهه باتجاه حلقة الروليت، كأنه لم يسمع الجملة الأخيرة: " لنمضِ إلى ذلك المكان، فإنه مسلّ أكثر ". لكن دارين استبقاه قليلاً، لكي يسأله عن ميديا. فابتدأ يقولُ، مُداوراً: " سمعتُ أن نسرين خُطبت، فهل هيَ جادّة هذه المرة؟ "
" نعم، هيَ مخطوبة منذ العام الماضي. إلا أنها لا تنفكّ على علاقتها بابن تركي "
" صادفتُ بالأمس شقيقتها الصغيرة، وقد لاحت لي كأنها غدت فتاة ناضجة ".
أطلقَ رمّو ضحكة مُتفكّهة: " بل قل، إنها غدت إمرأة ناضجة "
تساءلَ دارين: " ماذا تعني بذلك، فهل تزوجت؟ "
" لا، ولكنها تعاشرُ أحدهم بالرغم من أنها مخطوبة لشاب لبناني "
" تعني من كرد لبنان؟ "
" لبناني من طرابلس، وأمه فلسطينية. إنه صاحبُ متجر التحف، الكائن بلصق المكتبة العامة في سنتر غوتسوندا "
" وأنا كنتُ أتساءلُ البارحة، لِمَ كانت آتية من تلك الجهة "، تمتمَ دارين كأنما يُخاطب نفسه. إلا أنه غيّرَ الحديثَ، ليسأله عن عمله: " هل ما زلتَ تُدير متجرَ عمك؟ "
" أحياناً "
" ألا يطالبونكَ بتدبير عملٍ أبيض، هناكَ في السوسيال؟ "
" أنا لا حاجةَ لي بالسوسيال "
" وهل يكفيكَ ما تحصلُ عليه من عملك بالمتجر؟ "
" لا يكفيني، بالطبع. ربما أنتَ لا تعرف، بأنني مَن يُدير الآنَ حلقة الروليت في هذا الملهى؟ "
" حقاً؟ كما تعلم، إنني أنقطعتُ تقريباً عن إرتياد فلوستريت منذ العام المنصرم "
" وأنتَ، هل ستتابع دراستك في معهد الفنون؟ "
" أجل، إعتباراً من الخريف المقبل "
" هلمّ نذهب إلى الروليت، لأن مُساعدي بدأ يُشير إليّ "
" سأنهي شربَ قدحي ثم أغادر الملهى، وربما نلتقي في وقتٍ آخر "، قالها دارين.
غبّ انتقال الآخر إلى مكان عمله، بقيَ هوَ يرتشفُ شرابه. وكانت صورةُ ميديا ما تنفكّ تلوحُ لذهنه. أسفَ لما سمعه عن خطبتها لذلك الشاب، واستغربَ أيضاً أن ترتبط بشخصٍ مثله. لقد رآه أكثر من مرة في الطريق؛ بلونه الأصفر الممتقع بالكبت، ولحيته الشقراء المُعطّرة بمسك المسجد. وكانَ يرتدي على الدوام مسوحَ رجال الدين السنّة، البيضاء ـ أي الجبّة وقبعة الدانتيل الصغيرة. وكانت بيده مسبحة طويلة، ويتمتمُ على الدوام بالأدعية، كالمعتوه: " لكنه لم يكن معتوهاً، بالتأكيد. فإنّ هيئته بالإجمال، هيَ قناعٌ لخداع البسطاء. والسيّد حيدر، لا يُخدع بسهولة. لكنه يتشرّف، على الأرجح، بهكذا صهر. فإنه في وسعه أن يدرأ الأقاويلَ ليسَ عن ميديا، حَسْب، بل وأيضاً عن شقيقتيها! "، فكّرَ دارين بشيءٍ من التهكّم مع شعور تأنيب الضمير.
بانتهاء الربيع وحلول الصيف، عادةً ما يُفضّل الشرقيون عقدَ أعراسهم مع مزيدٍ من البهرجة والجلبة. على سبيل الإتفاق، جرى حفلُ زفاف ميديا على ذلك الشاب مع وصول خالتها الصغرى من بيروت. الخالة، تمّ جلبها بوساطة عقد قران مع أحد أقارب والدتها. ثمة عند مدخل المكتبة العامة في سنتر غوتسوندا، رأى دارين ذاتَ يوم ميديا وهيَ خارجة من متجر زوجها. كانت مُرتدية الحجاب، ومُسربلة بجلباب قاتم اللون حتى قدميها. وكانت جميلة بالطبع حتى بدون مكياج. كان برفقتها والدتها وتلك الخالة. هذه الأخيرة، كانت بدَورها جميلة ذاتَ شعرٍ أشقر وعينين لوزيتين؛ ومُكتسية بملابس على آخر موضة.
لقد أستولت الحيرة على دارين عندئذٍ، ليسَ بشأن هيئة ميديا. إنه فكّرَ، كيفَ أمكنها أن تُداري مسألة خطيرة؛ كفقدان البكارة. تذكّرَ على الأثر، ما كانَ قد عَلِمَهُ في إحدى المرات من ربيب البيض عن عمليات التجميل وزراعة الشعر في لبنان، بالرغم مما عاناه البلد من حربٍ أهلية طويلة. فلعلّ عملية ترقيع البكارة، كانت أيضاً مألوفة هناك. ولكن، فكّرَ دارين أيضاً، ألم يكن من الأسلم لو غفرت ميديا نزوته وأصرّت على الزواج منه: " لا، لم يكن في وسعها إلا الإقتران بشخصٍ محشوٍ بأوراق البنكنوت، التي مصدرها الصندوقُ الأسود. أما الحجاب والجلباب، فإنهما مسألة ثانوية؛ بل إنهما مصدرُ تميّزٍ وفخر للعديد من نساء المهاجرين المسلمين ".
كذلك استعادَ دارين قولَ صديقه، ملّاك الأراضي، بأنّ الكثيرَ من فتياتنا أضحينَ يُبارينَ السويديات في موضوع الجنس الحر.. وبعضهن يتفوقنَ، فوقَ ذلك، بالمكر والإخبات والخداع. إنهن شأنَ الأخريات، جديراتٌ ولا ريب بسُمعة أوبسالا ـ كمدينة إباحية، مدينة ذات تقاليدٍ عريقة في العلاقات العاطفية السريعة والعابرة.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي