|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
منى نوال حلمى
2023 / 6 / 19
أمى وأنا نتنافس على حب رجل واحد يبعد عنا آلاف الأميال
---------------------------------------------------------------
أنا وأمى " نوال " ، كانت لنا أذواقنا المختلفة . هى تحب الشمس والربيع والشاى والجبن القريش وفطيرة الذرة . وأنا أحب الضباب الممطر والشِتاء والقهوة والجبن الحادق والشوكولاتة .
أمى تسمع عبد الوهاب وفرانك سيناترا وأم كلثوم و داليدا . وأنا أهيم بابداعات فريد ومات مونرو وأسمهان وشيرلى باسى . تعشق ألحان السنباطى ، وموسيقى تشايكوفسكى ، وأنا وجدانى ممتلء بالقصبجى وشوبان . تعجبها تحية كاريوكا وأفا جاردنر ، وأنا تبهرنى سامية جمال وانجريد برجمان . تقضى وقتها فى قراءة الروايات والتاريخ والكتب العلمية . وأنا أفضل قراءة الشِعر وكتب الفلسفة. هى تحب الجوافة ، والبلح الأحمر ( الزغلول ) والبرتقال ، والعنب البناتى ، وأنا أتلهف الى موسم التين البرشومى والمشمش والمانجو والفراولة.
ويأتى رجل يعيش على بعد آلاف الأميال ، ليوحد بين أذواقنا ، دون أن يقصد ، ويجعلنا نحن الاثنتين نسهرالليل ، مع رجولته الفاتنة النادرة ، وأدائه الفنى السهل الممتنع .
مع البيرة مثلجة ، أو النبيذ الأحمر ، نعيد المشاهد كلها ، نناقش فكرة الفيلم ، نستعيد أداءه مشهدا ، مشهدا ، من البداية والنهاية . نندهش من تفوقه على نفسه ، وتحديه لقدراته وموهبته ، مع كل فيلم جديد .
تقول أمى : " من أين يأتى بهذه الكاريزما الهادئة الرقيقة ، التى تخفى تحتها التمرد والتوحش ، وتكتسح كل ما بطريقها ؟ ".
أقول لأمى : " هكذا هو الحال مع الأشياء الجميلة ، توقعنا فى شباكها بنعومة وسلاسة ، ثم تفعل بنا كما تشاء ".
تسألنى أمى : " فيما تشردين ؟ ". أقول : " ضميرى يؤنبنى .. يصفنى بالجحود واللامبالاة والكذب .. كيف لم أكتب عنه حتى الآن ، وهو الرجل الذى بمجرد مشاهدته على الشاشة ، لا أحتاج الى رجل آخر .. كيف لم أكتب عنه حتى الآن ،
وهو منْ أسعدنى على مدى العمر ، بوسامته ، وموهبته ، ورقى عواطفه ، وهدوئه ، ورشاقة قوامه ، وأناقته البسيطة ، وعمق صوته ، وتنوع أفلامه ، وتجدد طموحاته ، ومبادئه النبيلة ؟..... تعرفين يا أمى ، أننى عندما أحب ، أفضح مشاعرى على الورق . " قلبى " ، و " قلمى " ، يشربان من حبر ، وبئر
واحد . وأبرأ من نسب عواطفى ، اذا لم تدخل رحم الأبجدية ... حتى عندما رحل ، لم أكتب عنه ".
قالت أمى : " عندما ماتت أمى " زينب " .. رغم حبى الكبير لها وتعلقى الشديد بها ، لم أكتب عنها الا بعد أربعين عاما على رحيلها ...
الكتابة مثل ثمار الأشجار ، تختلف فى توقيت نضجها . لن تنضج ثمرة الجوافة قبل موعدها ، لمجرد أننا نشتهيها ونحب طعمها ... ".
هكذا تكلمت أمى . وهكذا جاء أوان قطف الثمرة ، لكنها رحلت ، ولن تتذوقها معى .
اليوم نضجت الثمرة ، بعد عشرين عاما على رحيله فى 12 يونيو 2003 .
أكتب عنه ، أرغم ايمانى أننا أصبحنا نعيش فى أزمنة تصنع من الأقزام
" نجوما " ، يسدون علينا الشمس ، والهواء ، وجمال ومتعة الابداع ، أفسدوا
الذوق ، وخربوا الخيال ، وأشاعوا الضحالة والزيف والفهلوة وثقل الدم وقبح الفكر ، والأداء ، وحولوا الفنون الراقية ، الى " سلع " مضروبة ، تُعبأ على المقاهى وتحت بئر السلم والكبارى .
أكتب عنه ، رغم اقتناعى أن أجمل الكلمات لا تجمله . فهو لا يحتاج أيا نوع من الجمال ، فهو كما هو ، بدون اضافات " مكتمل " الجمال .
فى الخامس من أبريل 1916 ، تشرفت أمريكا ، بولادته على أرضها ، فى ولاية كاليفورنيا ، واستعد الفن السابع ليستقبل نجم النجوم ، وأستاذ الأساتذة ، وفارس الفرسان .
بالأمس سهرت أحتفى به ، وأنا أشاهد مرة أخرى واحدا من كنوزه الابداعية ، فيلم " ارابيسك " 1966 ، مع صوفيا لورين 20 سبتمبر 1934 - واخراج ستانلى دونين 13 أبريل 1924 - 21 فبراير 2019 .
من أول مشهد ، حتى آخر مشهد ، يخطف العقل والقلب والعين والأذن .
له " طلة " مُحيرة ، و " حضور " ممتلئ بالثقة والكبرياء ، و" جاذبية "
فريدة الجينات ، مكوناتها لا تتأثر بتغير البشر والزمن .
منذ أول أفلامه ، حتى آخرها ، لم يكرر نفسه ، واكتفى بأن يترك 60 فيلما فقط . لكن كل واحد علامة بارزة ، تصعد به درجة على سُلم الخلود
أفلامه تعكس وعيا ، واستنارة ، وثقافة ، وسخرية راقية ، وفلسفة نبيلة لاثراء الحياة ، ومعنى وجود الانسان ، ومسئولية الفن ، ورسالة الفنان تجاه مجتمعه ، والبشرية كلها .
دائما يتحدث عن جدته ، أقام لديها بعد انفصال أبيه وأمه ، وكيف أنها السبب الحقيقى وراء انبهاره بالسينما . فقد كانت تصطحبه ، وهو صغير الى عروض الأفلام ، بشكل منتظم . تقول له دون كلام : " ستصبح يوما نجما مثل هؤلاء الذين تنبهر بهم ... لِم لا ؟... أنت لا تنقص عنهم شيئا ".
وعندما تحققت نبؤة جدته ، لم تكن هناك . وكان الألم يعتصره ، يكاد ينسيه
شعبيته ، ونجاحه ، ونجوميته .
ألم آخر ضربه فى الصميم ، عندما انتحر واحد من أبنائه ، فى 26 يونيو 1975 ، من زوجته الأولى " جريتا كوكونين " ، وكان عمره واحد وثلاثين
عاما ، وهو الآخر دخل عالم التمثيل السينمائى . ويصرح الأب المكلوم ، أنه كان يتوقع هذه المأساة ، لأن ابنه راح ضحية قصة حب فاشلة ، واكتئاب مزمن ، ومعاناته مع مرض تصلب الشرايين .
واستطاع الفنان بداخله ، أن ينتصر على حزن الأبوة ، وقدم بعد عام واحد ،
واحدا من أميز أعماله 1976 ، وهو فيلم " النذير " مع لى ريميك ، واخراج
ستانلى دونن .
منذ بداياته ، وحتى لفظ أنفاسه الأخيرة ، كان يحير النقاد ، ماذا
يكتبون ، فكل مدارس النقد التى قرأوا عنها ، وجميع نظريات التمثيل ،
التى درسوها ، لا تنطبق عليه ، من قريب أو من بعيد . ولذلك ، اكتفى البعض منهم بالدهشة الحائرة ، بعض التزم الصمت ، بعض من النقاد لا يملك شيئا ، الا أن يصافحه بانبهار ، ويذهب لينام فى بيته ، على أمل أن يصحو وقد أدرك السر ،
والبعض لم يشأ أن يرى نفسه عاجزا ، فترك مهنة النقد .
هو مدرسة خاصة متفردة لا تحمل الا اسمه ، المنحوت بدأب وجهد وشغف
على الشاشة ، المنقوش فى قلوب منْ أسعدهم الحظ ، ليشاهدوا كيف تتحول
الدراما ، الى معجزة ساحرة من معجزات الدنيا ، مثل الأهرامات فى مصر ،
وتاج محل فى الهند ، يحدقون فيها ، بالساعات ، ولا يفهمون أسرارها ،
وكلما أمعنوا فى التحديق ، كلما أنهكتهم وعورة الطريق . ومع ذلك ، يسافرون
لها مرات ، ومرات ، كأن شيئا من السِحر قد أصابهم ، لا يطلبون طوق النجاة
وهم مثل الغريق ، ولا يناشدون العون وهم وسط الحريق .
كان يدعم الحزب الديمقراطى الأمريكى ، وكانت له مواقف نبيلة انسانية لا تُنسى ، مثل رفض التفرقة العنصرية ، و الاعتراض على حرب فيتنام ، وتأييد حظر الأسلحة النووية فأمريكا والعالم ، وناهض سياسات الادارات الأميركية المتعاقبة ، على السيطرة على العالم ، والبقاء القوة العظمى الوحيدة . وفى أى حملة انسانية لمساعدة الشعوب والبشر والأطفال الأقل حظا ، الأكثر احتياجا ، يبادر بالتبرع بأجور أفلامه لهذه الحملات .
تم ترشيحه عدة مرات لمناصب سياسية مرموقة ، رفضها قائلا : " لست
وراء سلطة سياسية ، رسالتى فى الفن ... هو الطريقة الوحيدة التى تمكننى من أن أحكى القصص للناس ، وأتواصل معهم رغم أننى لا أراهم ".
كل ممثلة شاركته مشاهد الحب ، كانت تتمنى لو أصبحت قبلاته ولمساته،
هى حقيقة ، وليست مناظر فى السيناريو .
أعتقد أن كل مخرج عمل معه ، يقول: " أشرد مع أدائه وأنسى المشهد التالى ، وأتحول من مخرج الى مشاهد مفتون ، هو لا يحتاج الى توجيه ، هو مايسترو العمل ، الناس يذهبون لمشاهدة فيلم له ، وليس فيلما
من اخراج عظماء مثل هنرى كينج ، أو ألفريد هيتشكوك ، أو روبرت موليجان ، أو ديفيد سيلزنيك ، أو ستانلى دونين ، أو جون هيوستون ، أو وليام ويار ، أو
فريد زيمان ، أو ستانلى كرامر ، أو جى لى طومسون أو مارتن سكورسيزى ، أو فينسنت مينيللى . وكل جوائز التكريم التى حصدها عن ابداعاته ، هى التى تفوز بحملها اسمه ، وليس هو ، " الغنى عن كل تكريم " .
دائما ما يُسأل الممثل عن المخرج الذى استطاع أن يظهر كل امكانياته ، ويقدر على العزف على جميع أوتار موهبته وتميزه . ومعه كان يجب أن ينقلب السؤال ، ليصبح موجها الى كل المخرجين الذين تعاملوا معه : " كيف استطاع أن يكتشف خفاياك كمخرج ، ويحرر طاقاتك الفنية السجينة ؟ ".
ولآنه عاشق للأدب ، ودرسه فى الجامعة ، كان يفضل الأفلام المأخوذة عن الروايات ، أكثر من الأفلام المكتوبة خصيصا للسينما .
نذكر على سبيل المثال ، فيلم " أن تقتل طائر محاكى " أو " أن تقتل طائر مغرد " ، تأليف الكاتبة الأميركية " هاربر لى ، ويتعرض لقضية التفرقة العنصرية فى ثلاثينات القرن الماضى . قرأها الفنان المثقف المحب للعدالة والحقيقة ، وأعجب بها ، وسعى الى تحويلها الى فيلم سينمائى . وتحقق الأمر 1962، وأدى دور المحامى أتيكوس فينش ، أخرجه روبرت موليجان ، ليحصد به الأوسكار .
رواية أخرى من تأليف ارا ليفين ، بعنوان " الأولاد من البرازيل " ، وظهرت على الشاشة 1978 ، ويشاركه اثنان من نبلاء الفن السابع ، لورانس أو ليفييه ،
وجيمس ماسون ، اخراج فرانكلين شافنر . وقام بدور الطبيب يوسف مينجيل ، الذى يقوم باستنساخ أدولف هتلر ، 95 مرة ، ويسعى الى تربيتهم فى البرازيل ، بالطريقة نفسها التى تربى بها هتلر ، حيث أراد تأسيس الرايخ الرابع ، ليكمل المسيرة النازية .
أما قصة ارنست هيمنجواى " ثلوج كليمينجارو " ، قام بالبطولة 1952 ، مع أفاجاردنر وسوزان هيوارد ، وأخرجه هنرى كينج مع روى بيكر .
أما فيلم " الآثم العظيم " 1949 ، مع أفا جاردنر ، و من اخراج روبرت سيودماك ، فكان أيضا عن رواية لفيودور دوستيوفسكى ، كتبها 1866 ، واسمها " المقامر " .
من كنوزه التى أضاءت الشاشة ، " مفاتيح المملكة " ، " مدافع نافارون " ،
" موبى ديك " ، " قضية بارادين " ، " أيام المجد " ، " المقاتل " ،
" ميراج " ، " معبودى الخائن " ، " " اتفاق السادة " ، " مرفأ الخوف " ،
" بورتريه " ، " عطلة رومانية " ، " على الشاطئ " ، " الرضيع " ، " الدولة
الكبيرة " ، " كيف غلب الغرب " ، " دافيد وباشيبا " ، " الشجاع فقط " ،
" المرأة المصممة " ، " كابتن نيومان " ، " ماكارثر " ، " أرابيسك " ، وفيلم " ذهب ماكينا " الذى قاسمه البطولة عمر الشريف عام 1969 .
أما فيلم " المسحورة " ، 1945 ، مع انجريد برجمان ، من اخراج ألفريد
هيتشكوك ، فهو يحولنى الى " مسحورة " كما حدث مع البطلة .
فى واقع الأمر . أنا حقا مسحورة ، ومفتونة به ، الى درجة أن كل رجل أحببت ، كان لابد أن يشبهه ، على الأقل فى شئ واحد .
فيلمه " معبودى الخائن " ، 1959 ، مع الفنانة المتميزة ، ديبورا كير
30 سبتمبر 1921 - 16 أكتوبر 2007 ، واخراج هنرى كينج ، 24 يناير 1886 - 29 يونيو 1982 ، مأخوذ عن الأيام الأخيرة لحياة الكاتب الأمريكى ، سكوت فيتزجيزالد 24 سبتمبر 1896 - 21 ديسمبر 1940 .
تقمص كعادته ، بكل براعة ومهارة وبساطة مركبة الانفعالات ، شخصية الكاتب المتوتر ، القلق ، المحبط من عدم التقدير اللائق به ، وتراجع الناشرين ،
وتعثر علاقاته العاطفية ، ويكاد يفقد صوابه لأنه أكبر بكثير مما حقق ، ومما هو عليه بالفعل ، ومما يشعر بأنه ينتظره من مصير بائس .
اشترك فى بعض الاستعراضات ذات الطابع الفكاهى ، بالرقص والغناء . وهذا شئ لا يعرفه الكثيرون عنه .
وقدم فيديوهات لأغنيات شهيرة لفرانك سيناترا ، مع مقاطع من أفلامه ، مثل أغنية " العالم الذى نعرفه " .
وهو أيضا متحدث لبق ، وذو روح دعابة ، واضحة فى حواراته الاعلامية .
نال الكثير والعديد من الجوائز ، منها على سبيل المثال " وسام الحرية الرئاسى " قدمه له الرئيس ليندون جونسون 1969 ، ونال الجولدن جلوب أكثر من مرة ، ودخل قائمة معهد الفيلم الأمريكى أعظم النجوم الرجال 1999 ، وواحد من ال 50 أسطورة على شاشة السينما ، ونال جوائز لمجهوداته الانسانية فى علاج السرطان والايدز . كما تزينت به قائمة الرجال شديدى الأناقة عالميا 1983.
أعتقد أنه أكثر ممثل يصلح للسينما الناطقة . هو لا يحتاج الى حوارات ، وحبكات درامية ، وغيرها . يكفى أن تلتقطه الكاميرا ، وسوف تتكفل نظراته وملامحه ولغة جسده ، بما يلزم ليكون العرض كامل العدد .
هو واحد من الناس عندما تراه لأول مرة ، تشعر لحظتها أنك أمام انسان
" حقيقى " له قضية يؤمن بها ، منحها كل شغفه واخلاصه .
كل فيلم تركه لنا ، أودع قطعة من قلبه ، منذ البطولة الأولى عام 1946 فى فيلم " مفاتيح المملكة " ، وحتى آخر أفلامه " مال الناس الآخرين " عام 1991.
السينما هى الفن السابع ، بعد العمارة والموسيقى والرسم والنحت والشِعر والرقص . وهذا الرجل يستحق أن يأخذ لقب " الفن الثامن ".
لو كان فى حياتى ، رجل مثله ، سأنسى الوجه القاسى القبيح للحياة ، وستتضاعف كتاباتى ، وأصبح أكثر رشاقة وجمالا ، ولن أعبأ بالموت .
لو كنت حبيبته ، لا محالة ، سأترك فئة البشر ، وأصبح من الآلهة .
انه " جريجورى بك " ، ولا يمكن أن يكون الا هو .
-----------------------------------------------------------------------------