|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
دلور ميقري
2023 / 6 / 1
في ظهيرة اليوم التالي، تصادفَ أنّ دارين كانَ يتسكّعُ في المدينة. الطقسُ ما فتأ ربيعاً رائعاً، دفعَ الناسَ إلى الحدائق مع أسراب النحل والفراشات. فكّرَ بعدئذٍ العودة إلى المسكن، ليعدّ الغداء. لكنه قررَ المضيّ أولاً إلى إحدى ساحات المدينة، أين تنتصبُ خيمةٌ مفتوحة لبيع الخضار والفاكهة. أصحابُ الخيمة، كانوا أيضاً من الماردلّية، الذين وجدوا أنفسهم بلا حول ولا شأن في الحرب الأهلية اللبنانية. اقتربَ دارين من إحدى البسطات، لكي ينتقي بعضَ الخضار. كبيرُهم، وهوَ رجلٌ خمسينيّ يَحظى بالطاعة العمياء من قبل أشقائه، كانَ إذاك يتشمسُ وهوَ في جلسته على الدكّة الخشبية. كانَ يراقبُ سيرَ البيع. لكنه بينَ فينةٍ وأخرى، كانَ يتسلى بالقبض على ذبابة، فيُدوّخها بحركة يده ثم يتركها تسقط على الأرض. وهذا يجعله بغاية السعادة، مثلما تعبّرُ عنه ضحكته البلهاء. في المقابل، فإنّ مكرَه القرويّ كانَ يتجلى بأوضح صورة عندما يستلم زمامَ الصندوق: لقد وضعَ ثمة علبة زيت زيتون كبيرة، باهظة الثمن، وكانَ يُضيفها لفاتورة الزبون. فإذا انتبهَ الأخيرُ واعترضَ بأنها ليست له، كانَ رجلُ الصندوق يصرخُ على أشقائه: " لمن هذه العلبة؟ ". وبأيّ حال، لم يكن في وسع أيّ زبون تقريباً أن يتملّصَ من التلاعب بالفاتورة.
كان أولئك الباعة يعرفونَ دارين، كونهم سكنوا مع عائلاتهم لفترة قصيرة في الدور الثاني من الكُريدور. كانوا بغايَة البدائيّة، وحياتهم جماعيّة كالغجر. وهم أيضاً على شيءٍ كبير من التقتير، بحيث أنهم يُهرعون بلا إبطاء إلى السوبرماركت لو علموا أن ثمة تخفيضاً على سعر كيس الطحين مقداره كروناً واحداً. بعدئذٍ يجتمعون كلهم رجالاً ونساءً في مطبخ الكُريدور، لتحضير الخبز والطعام. كانَ دارين قد اعتاد الالتقاء بهم هناك في المطبخ، لما دأبَ على مساعدة ماهو. ولاحظَ أنّ طبقَ غدائهم اليوميّ، يكادُ لا يتغيّر؛ حساء العدس مع قطع لحم مفرومة أو خلطة خضار مع الرز. كانوا يشعرونَ حيالَ دارين بالإحترام، فلا ينادونه إلا بصفة " الأستاذ ". كانوا يتكلمون معه باللهجة اللبنانية، وعلى طريقتهم؛ فتغدو بمزجهم إياها مع مفردات كردية وتركية وسريانية، شبيهةً بخلطة خضارهم.
" البعضُ لو عرفوا رأيَ الآخرين فيهم، لما تطاولوا بالحديث عن شرف الناس "، قال أحدهم بصوتٍ عالٍ. رمى دارين بصره إلى تلك الناحية، وإذا هوَ والدُ ميديا. ثم نقلَ بصرَهُ بين المتواجدين في الخيمة المفتوحة، علّه يرى المُستهدفَ بهذه الحملة الغاضبة. سرعانَ ما برز رأسُ نيازي، الذي عصفت به الثورة بدَوره. اشتبك الرجلانُ بدءاً بالكلام، ثم استهلّا بالتدافع؛ فيما بعضُ الحضور حاولوا تهدئتهما. دونَ تفكير، رمى دارين بنفسه في المعمعة. واجه نيازي بالقول، محدقاً في عينيه: " أنتَ تلوثُ سُمعةَ الكرد بتصرفاتك، وهذا لا يليقُ برجلٍ وطنيّ مُخلص مثلك ". هدأ كلّ شيءٍ على حين فجأة، وشخصَ الجميعُ بأنظارهم إلى نيازي كي يروا ردّة فعله. كان وجهه قد شحبَ وعيناه برقتا بشدّة. أطرقَ قليلاً برأسه، ولم يُجب بشيء. ثم ما لبثَ أن أشاحَ وجهه عن الشاب الجريء، ليُخاطبَ حيدر بهدوء وبفمٍ مرتعش: " أنا المُخطئ، في آخر الأمر. كان عليّ أن أتكلمَ معك، يومَ أمس، لا أن أجعلَ شخصاً عديم الأصل ينقلُ كلامي بطريقته الخبيثة ". بالطبع فهمَ دارين، أن المقصودَ هوَ الحوتُ؛ وقد صَدَقَ نورو ليلة أمس في ما قاله عنه. انتهت المشادة بسلام، لما ردّ حيدر مُصافحاً خصمَهُ: " يا أخي، أعتبر الأمرَ مطوياً بل وكأنه لم يحدث ".
كانَ دارين قد عادَ ببطء إلى بسطة الخضار، لما سمعَ أحدهم يصرخُ باسمه من الخلف. ظنّ لأول وهلة أنه نيازي، ولكن لما التفتَ رأى حيدر يمضي إليه مُتهللَ الوجه: " لا ينتظرك أحدٌ في حجرتك، أليسَ صحيحاً؟ هلمّ إذاً كي تتغدى لدينا ". حاول دارين الإعتذارَ. إلا أنّ الآخرَ تنّكبَ ساعده وقاده من ثمّ إلى موقف السيارات، الكائن على طرف الساحة، أينَ ركنَ عربته.
قبلَ نحو العام، ركبَ دارين الحافلةَ الكبيرة إلى ضاحية " غوتسوندا "، التي تبعد عن مركز المدينة بسبع كيلومترات. وهذه هيَ أيضاً من المرات القليلة، يجدُ فيها نفسه ثمة، في ضاحيةٍ يقطنها الأجانبُ بشكل كبير وكانت تنمو باضطراد لتغدو كما لو أنها مدينةٌ مستقلة. بسبب طبيعتها الساحرة، أشترى هناك سراةُ المدينة فيلاتٍ وشاليهاتٍ؛ خصوصاً على طول الطريق العام، المُظلل بالأشجار والمُنتهي بالبحيرات. لقد كانت في أوقات الطقس الجميل، أشبه بالفردوس حقاً، بأكمات أشجارها وغاباتها وصخورها وسواقيها. مثلما أشرنا في مكانٍ آخر، أنّ مسكنَ السيّد حيدر كانَ بمثابة الفردوس لرمّو، وذلكَ حينَ كانَ خطيباً مُفترضاً لخالة ميديا الشابّة، المُقيمة بعدُ في بيروت. أيضاً سبقَ التنويه، بأنّ هذا المسكن، الذي يستقبلُ دارين للمرة الثانية، كانَ من دورين ويمتلك حديقتين أمامية وخلفية. إنه من طرازٍ معماريّ، يُدعى بالسويدية " راد هاوس "، أقلّ تكلفة من الفيلا بما أنه أصغر حجماً. آنذاك في زيارة دارين الأولى، لم يكن هذا المسكنُ ( ولا الضاحية عموماً ) يعني له شيئاً. ولم يعلق في ذهنه من تلك الزيارة سوى السروال الداخليّ للإبنة الكبرى، " روجين "، وتحديداً عندما صارَ يُعاني من الحرمان الجنسيّ عقبَ قطع علاقته مع الإيرانية.
استُقبلَ الضيفُ بفوضى صاخبة من الترحاب، كانَ مصدرَها الأساسَ الابنُ الأصغر، " روني "، المُناهز عمره الخامسة عشرة. أيضاً تجمّعَ بقيةُ أفراد الأسرة ثمة أمامَ المدخل، وكانوا ينتظرون كبيرَهم على الغداء. فَغَمَ مشامَ الضيفِ روائحُ الطعام الزكية، المنبعثة ولا شك من المطبخ، وكانَ في الأثناء يتقبّلُ تحياتِ البعض بشيءٍ من الحياء والحَرَج. فإنه كانَ قد شدّدَ على ميديا، مراراً وفي حرص، بعدم البوح بأمر زيارتها لحجرته. لكن تبيّنَ من النظراتِ الباسمة لشقيقتيها، المُتماهية بشيءٍ من المكر، أنّ الأمرَ جرى على خلاف ذلك. رمقته بدَورها بنظرةٍ باسمة، بل ومدّت يدها بالمصافحة مثلما فعلَ ذَكرَيّ العائلة. " رودي "، الأكبرُ فيهما، كانَ ما زالَ على علاقةٍ وثيقة مع رمّو ويتبادلان الزيارات كلّ حين.
كانَ دارين يأملُ بعد تناول الغداء أن يُغادرَ سريعاً صُحبة العائلة، كونه وجدَ نفسه الغريبَ الوحيد بينهم. لكنهم بما جُبلوا عليه من البساطة والإلفة، جعلوه ينسى نفسه فيما كانت الساعاتُ تمرّ بسرعة. لقد أمضى الجانبَ الأكبر من الوقت في حجرة المُراهقين الوسيمين، الذين رفعا صوتَ جهاز الإستريو المُترنّم بأغاني البوب، فيما كانا يطرحان عليه مزيداً من الأسئلة المُتلهّفة بخصوص ما جرى في الساحة ظهيرة اليوم: الأب، لم يُخفِ الأمرَ في خلال تناول الغداء، ولو أنه لم يُركّز سوى على شهامة الضيف الشاب؛ وكيفَ واجه نيازي بجرأة، فجعله يشعرُ بخطئه، ومن ثم يُقدّم الإعتذارَ عما بدرَ منه من كلامٍ مُسيءٍ لشرف الإبنة نسرين. هذه الإبنة، تقمّصت عندئذٍ مظهرَ الفتاة البريئة، مُغمغمةً بكلامٍ غير مفهوم. لكنها أعربت عن امتنانها للضيف، وذلك بطرف عينيها الكبيرتين السوداوتين.
خرجَ دارين على الأثر إلى الحديقة الخلفية، المُشَكّلة غالبية مساحتها الخضراء من حوضين كبيرين مستطيلين، نهضت فيهما السيقانُ الطويلة لأزهار الربيع، كالنرجس والتولبان وفم السمكة، وتلك الأكثر قصراً كالأقحوان والبنفسج. ما لبثت ميديا أن أتت، وراحت تتحدثُ على سجيتها مع الضيف. ثم فاجأت هذا الأخيرَ، حينَ قطفت وردةً جورية من أحد الأصص الفخارية وقدمتها له أمام أنظار شقيقيها. كانت وردةً حمراء، ولها عند الأوروبيين معنىً وحيداً مُقتضباً: الحُب!
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |