سيولُ ربيع الشمال: 13

دلور ميقري
2023 / 5 / 31

مرّ أسبوعٌ آخر دونَ أن تظهرَ ماهو، ومرةً أخرى أيقنَ المحرومُ أنه لن يعود ويراها. لكنه كانَ يُدرك أنها مُراوغة مثل الثعلب، وما على الحَمَل إلا الإلتصاق بأمّه. المشكلة، أنها هيَ الأمُ المفترسة. في الأثناء، راودت الآمالُ مجدداً صاحبنا الحوت، فامرأته كانت من الوفاء لتقاليد بنات جنسها بحيث نقلت له خبرَ الحمّام. جاءَ صباحاً بمعيّة نورو، وأعطى لنفسه مظهرَ المانح السخيّ بحمله مجدداً كيس النفايات الغذائية. لما رفضَ دارين الهدية بإصرار، أعتقد المانحُ أنه سيلعب بأعصاب المُضيف: " الأغراض لنورو في آخر الأمر، لأنه قررَ أن يسكن معك ريثما يحصل على جواب بخصوص الإقامة "، قالها وهوَ يغمز المعنيّ. هذا الأخير، أحبطَ اللعبة حينَ قال له بشيءٍ من الضيق: " يا أخي، لا داعي للف والدوران. أخبره بصراحة، لمَن تحمل هذه الأغراض؟ "
" إنه على أيّ حال يعرفُ حجرتها، ولعلها تقبل الهدية هذه المرّة لو عرفت أنه مرسلٌ من قبلي "، تدخل دارين ناسجاً لعبته الخاصة. ثم تبادلَ نظرةً مواربة مع نورو، الذي يعرفُ مسبقاً جليّة الأمر. الحوتُ، بقيَ لدقيقةٍ يُدير الموضوع في رأسه البليد. أخيراً، لما نهضَ وبيده الكيس، لاحَ واضحاً أنه قررَ تكرارَ تجربة حظه مع مَن يَدعوها بالمعتوهة. مقهقهاً بصخب، قال له نورو من خلال دخان سيجارته: " أجلس ولا تفضحنا، رضيَ الله عنك! الفتاة تركت المسكنَ منذ ما يزيد عن الأسبوعين، وذلك عقبَ قطع دارين علاقته معها "
" آه، هكذا إذاً؟ "، علّقَ الحوتُ وقد بدا مُندهشاً. على الأثر، همدَ في مكانه على كرسي الحجرة الوحيد، الذي بالكاد استوعبَ جرمه الهائل. حلّ الصمتُ، وكانَ هذا الأخير قد بدأ يُلقي نظرةً من مكانه على المكتبة. ما أسرعَ أن توجّهَ إلى المُضيف، قائلاً بأريحية مُنتعشة: " أعلمُ أنك مهتمٌ بالتاريخ، ومتى شئتَ فإن مكتبتي رهنَ أمرك ". أدركَ دارين سلفاً، أن ذلكَ سيكونُ مقدمة لثرثرةٍ تطولُ أكثر من ثلاثة أشهر بلا خبز. فما أن شكره، إلا وبدأ هذا فعلاً في التنويه بجهوده من أجل الحصول على ماجستير التاريخ، هناك في بيروت، وكيفَ نصحه المشرف على الرسالة الجامعية بالاستفادة من كذا وكذا من المراجع الخ الخ. ولم يكن سهلاً أبداً، إيقافُ القاطرة لو اندفعت بجنون دونَ سائق. تركي، سبقَ وقدّم مثلاً طريفاً عن تعامل المرء مع الحوت: " لو أنكَ تقفُ معه على جرف وادٍ سحيق، وبدأ هوَ باللغو والثرثرة، فلا يُمكن إيقافه إلا بأن ترمي نفسك في تلك الهاوية! ".
وهوَ ذا نورو، يُحاول مقاطعته فيما كانَ ينفضُ رمادَ السيجارة عن قميصه الحريريّ: " ألا نذهب إلى المحل، نحنُ الثلاثة، لكي نلعبَ جولة طاولة؟ ". لكنّ المُخاطَبَ لم يوقف اللغو. ربما أعتبرَ ما سبقَ من كلام، كموسيقا تصويرية لحكاية الماجستير. هبّ نورو عندئذٍ من مكانه على طرف السرير: " أنا ذاهبٌ، السلامُ عليكم! "، قالها ومضى باتجاه الباب. صاحَ الثرثارُ في أثره: " يا أخي، كأن وراءك أشغالٌ مهمّة لا تحتمل التأجيل ". قال ذلك بالكردية، وكان في وسعه تشويهها أكثر مما يفعله باللغة السويدية. عند الباب، التفتَ نورو ليخاطبَ صديقه صاحبَ الحجرة: " لا تنسَ الحضورَ إليّ الليلة، وإياك أن تأتي بهذا الحذاء الحقير ". وكانَ يعني حذاءَ الرياضة، الذي بسببه مُنع دارين من دخول الديسكو آخر مرة.
ليلاً بحدود الساعة الثامنة، كانَ دارين في الموعد المحدد في شقة نورو. كعادته، كانَ هذا الأخير قد لعبت الخمرة سلفاً برأسه الأصلع. ملأ كأساً من الويسكي للضيف، فيما كانَ هوَ يُتابع لفّ سجائرة بوساطة جهاز صغير من البلاستيك. سألَ الضيفُ عن شريك الشقة الآخر، فقال نورو بنبرةٍ هازئة: " إنه معتصمٌ بحجرته، وقد دهمته حالةُ السويداء من جديد "
" ما الأمر، هل حصل بينكما سوءُ فهم؟ "
" لا، صديقته هجرته "
" تلك البنت القاصر؟ "
" وهل ستظلُ قاصراً بعدما اغتسلت بأرطال من المني؟ "، تساءل بدَوره ساخراً. ثم أضافَ: " الغبي، كان يعتقدُ أنها ستبقى رهنَ مشيئته بعدما فتحها. إنه لم يفعل شيئاً غير تمهيد الفَرْج لعددٍ لا يمكن حصره من الأيور، الذينَ ستلتقيهم مستقبلاً؛ وكلهم أفضل منه بكل تأكيد "
" تلوحُ ساخطاً اليوم، وأنا سألتك هل جرى بينكما سوءُ فهم؟ "، آبَ دارين للاستفهام وقد شعرَ فعلاً أن وراءَ الأكمة ما وراءها. أخذ نورو نفساً عميقاً من سيجارته، ومن ثم رماها باشمئزاز كما لو كانت مَعْقِدَ المشكلة. حثّه الضيفُ على الكلام بنظرات عينيه. قال نورو: " اليوم بعدما ذهبنا من عندك إلى المحل، كانَ نيازي هناك يُدوّي صوته ويصل إلى الشارع. كانَ يتكلم عن ابنة حيدر الكبيرة ". سكتَ وهوَ يومئ برأسه إلى ناحية حجرة رمّو، غامزاً بعينيه. أشتد انتباه دارين، كونَ الحديث يتعلق بوالد ميديا وشقيقتها الكبيرة. تابع المُضيف الكلامَ، مُصعّداً قليلاً من نبرته: " قال أنه شاهدها عند ابن أخيه، وهيَ من ترمي نفسها على الشاب ". سكتَ قليلاً، قبل أن يعاود الكلام: " وبما أنّ صاحبنا الماردلّي سمعَ الحديثَ، فإنه لن يعرف طعمَ النوم قبل أن تُذاع حكاية الفتاة في أوبسالا كلها "
" أنتَ تعني، الفتاة الكبيرة غير المخطوبة؟ "
" نعم، أعني نسرين "
" والشاب، أهوَ الابنُ الأكبر لتركي؟ "
" بلى "، ردّ نورو. عندئذٍ، استعادَ الآخرُ في ذهنه ما يعرفه عن ذلك الشاب الغريب الأطوار. كانَ يمتلكُ ورشةَ تصليح سيارات في كراج منزله، ليسَ لمصلحة الضرائب علماً بها. بالرغم مما يجري في يده من مال بلا حساب، آثر الوحدة ولا صديق له سوى حيّة كبيرة الحجم نوعاً، يقدّم لها الأطعمة الفاخرة ويحتضنها ليلاً حينما ينام. كانَ بالغَ الوسامة، ويشبّهونه بعمّه في أوان شبابه.
أختتم نورو حديثه، بالقول: " القضية ستتطور، لا أرتابُ في ذلك. لأنني أعرفُ طبعَ حيدر، الناريّ. وذلك بغض الطرف عن أنه، حقاً، رجلٌ مهذب ومحترم. لكنّ العراكَ مع نيازي ليسَ سهلاً، وليسترنا الله من الغد! ".
بقيَ دارين مشغولاً بالقضية، ولم تبرح ذهنه في تلك الليلة حتى وهوَ في المَلهى.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي