حتى لا ننهش جُثَة الوطن

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
2023 / 5 / 25

الوطن هو أنت. قف أمام مرآة وتأمل ملامح وجهك وقوامك، جرب أن تحرك لسانك ببضع أصوات مهما كانت خرقاء. مهما يكون شكلك بين البياض والسواد، الطول والقصر، السمنة والنحافة، أنت ترى نفسك في عين نفسك أجمل مخلوق في الدنيا. وهذا يكفيك. ومهما كان ما ينطق به لسانك بين الفظاظة واللطف، الكذب والصدق، التفاهة والقيمة، الجهل والعلم، سيظل وقعه على مسامعك أجمل من أي موسيقي سمعتها أو ستسمعها في حياتك. من صورة نفسك في المرآة تستطيع بسهولة تتبع سلالتك وثقافتك وحضارتك منذ آلاف السنين خلت. هذه السلالة والثقافة والحضارة على وجه التحديد، كما تعكسها بوضوح صورتك الشخصية في المرآة أمامك، موروثة وحية ومستمرة فيك أنت شخصياً. وهي قائمة ومستمرة فيك أينما كنت في أنحاء العالم الواسع، تائه وسط ثقافات وحضارات وأوطان العالم المختلفة، حتى لو كنت على سطح القمر أو في المريخ. الوطن أنت، معك وفيك أينما كنت.

لكن تمهل ولا يأخذك الغرور. أنت نفسك ما كنت لتكون هذا الأنت المعتز بنفسه كما تعكس المرآة سلاستك وثقافتك وحضارتك ووطنك من دون أن يوجد معك أيضاً أنا وهو وهي. وجودك أنت ذاتك ما كان ممكناً أو متصوراً على الإطلاق من دون هؤلاء. كذلك وجود الوطن. قد يستطيع الوطن أن يعيش كسلالة وثقافة وحضارة آلاف السنين من دون أرض ومقومات مادية ضرورية لنشأة وبقاء الأوطان. لكنه، في المقابل، لا يستطيع البقاء أو الاستمرار على قيد الحياة لحظة واحدة من دونك أنت وأنا وهو وهي. نحن- معاً- المبتدأ والغاية، الجوهر، وكل شيء آخر يمكن اعتباره حشو وكِمالة قابل للتعويض بطريقة أو بأخرى.

نحن- أنت وأنا وهو وهي- الوطن، وجودنا من وجوده ووجوده من وجودنا، كأننا والوطن كيان واحد والكيان نفسه؛ أو كأننا مثل الجسد والروح، لا بقاء لواحد من دون الآخر. لكن هذه الوحدة العضوية بيننا وبين وطننا قد تُخفي في جوفها أمراضاً مزمنة، صراعات وانقسامات واضطرابات متجددة، قادرة على أن تُزيل من الوجود أوطاناً عملاقة قد عمرت الأرض آلاف السنين المتصلة وحملت سلالتها وحضارتها الملايين المؤلفة من البشر. كما أنها قادرة أيضاً، في الوقت نفسه، على أن تخلق من عناصر النمو والقوة والتقدم ما يرفع من شأن أمم كانت لا تُذكر قبل بضع مئات السنين إلى ذرى عالمية غير مسبوقة على كل الأصعدة. الصحف وكتب التاريخ مليئة بالأمثلة عن هذه وتلك وما بينهما الكثير.

مثل جسم الإنسان المؤلف من أعضاء عديدة في تكامل واتصال دائم وتغذية متبادلة لا تتوقف وإلا تعرض للمرض أو الإعاقة أو الفناء إذا ما أصاب الخلل أو العطب أي منها، كذلك لُحمة الوطن ووحدته العضوية مرهونة على التكامل والاتصال والتغذية المتبادلة المستمرة بين أعضاءه المكونة- أنت وأنا وهو وهي، أو نحن جميعاً ككيان واحد متكامل عضوياً. لكن في الواقع الفعلي، "نحن" العضوية هذه أكثر تشعباً وتعقيداً، توزع وتجمع وتفرق وتميز بين أعضاء الكيان الوطني الواحد لغوياً وعرقياً ودينياً وطبقياً ومهنياً وثقافياً ونوعياً الخ، لتولد بدورها ضمائر وعلاقات جديدة أكثر تعقيداً.

وقد يصل الانتماء والولاء إلى اللغة أو العرق أو الدين أو الطبقة أو المهنة أو النوع حداً من التطرف يتجاوز حتى الانتماء إلى الوطن ذاته؛ لينشأ في أوساطنا نحن أبناء الوطن الواحد هؤلاء المستقوون بتسليحهم، والمغترون بأكثريتهم اللغوية أو الدينية أو المذهبية، والواصلون على أكتاف ثرواتهم الطائلة أو صلاتهم النافذة وما إلى ذلك. في مثل هذه الأوضاع تضطرب لا محالة العلاقة العضوية بين مكونات الوطن الواحد، بسبب اضطراب شرايين الاتصال والتكامل والتغذية المتبادلة ذات الضرورة الحيوية لاستمرار بقائه، أو ما نسميه بلغة العصر الحديث اختلال "موازين القوى" أو "العقد الاجتماعي".

توازن القوى أو العقد الاجتماعي المبني على التراضي السلمي المتبادل هو ما يحفظ شرايين الاتصال والتغذية المتبادلة مفتوحة ومنسابة بين أعضاء الوطن الواحد، يصون لحمته وينميها. لكن حين يغتر أي منا نحن أعضاء الوطن الواحد- أنت وأنا وهو وهي- بقوة سلاحه أو غلبة طبقته أو أكثرية دينه أو مذهبه أو طائفته أو نوعه، أو كثرة أمواله أو صلاته أو خبراته أو أي ما كان آخر- ويحاول الانفراد بالوطن وتجييره لمصلحته الفئوية، ستضعف وربما حتى تنسد شرايين الاتصال والتغذية، ويحل القهر والقمع محل الرضا والقبول. وأحياناً، لا يسلم المقموعون والمقهورون لمثل هذا الوضع ولا ينصاعون له بالسهولة أو بالمظاهر الخادعة التي قد يتوهمها القاهرون والقامعون ويحسبونها خنوعاً وتسليماً منهم بالأمر الواقع، مهما كانت التهم والعقوبات مخيفة، من شاكلة الخونة والكفرة والأقلية والشرذمة والجهلة والمغرر بهم والعمالة المأجورة الخ.

حين تنسد فيما بيننا قنوات التواصل والتغذية المتبادلة المستمرة، ويتوقف التفاوض والاتفاق والتراضي على عقد اجتماعي متجدد باستمرار ينظم هذه العلاقة العضوية فيما بيننا، لن يتبقى لنا خيار سوى القهر والقمع القائم على الغلبة بأشكالها المختلفة الوسيلة الوحيدة للحفاظ على لحمة الوطن من التفسخ والتحلل. لكننا حين نقهر ونقمع ونغلب ونقتل بعضنا بعضاً نكون كآكلات الجيفة ينهش كل منا ما يقدر عليه من جثة الوطن ونحن لا ندري. الوطن هو نحن.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي