ثالوث النفاق: أدونيس، القباني، الماغوط!

آصف ملحم
2023 / 5 / 1

كتب لي بعض الأصدقاء المحترمين رسائل متفرقة، انتقدوني فيها لكتاباتي المستمرة ضد الأديبين السوريين أودنيس و القباني؛ في هذه المقالة أضفت الماغوط إلى القائمة لكي تكتمل الحكاية، ويصبح للحديث معنىً ثقاقياً أوسع.
جوابي، وهو في الواقع مكرّر في تعليقاتي المختلفة على الأصدقاء، إلا أنني توسعت به قليلاً في هذه المقالة. لذلك، في الرد، أقول:
من ملاحظاتي الشخصية، عندما يُعبّر كاتب ما عن آرائه (الفكرية أو الفلسفية أو العلمية)، التي قد تكون صحيحة أو لا، شعراً، فإنه يخفي فيها شحنة من النفاق، لا بل هذا هو أرفع درجات النفاق و خبث ما بعده خبث! لأنه يعبر عن حالة هروب من المواجهة المباشرة للحقائق الصعبة، أو بصيغة أخرى هروب من (المستوى المنطقي و العلمي) للأفكار إلى (المستوى الجمالي و النفسي)! وبما أن المستوى الأخير محفوف بالأسرار و الغموض، فيصبح أيُّ حديث عنه عديم المعنى. و الهدف الحقيقي لمثل هذا السلوك هو التأثير على المتلقي ودفعه إلى القبول بما يقال له، فيقبل بذلك دون تفكير و كأنه كان تحت تأثير مخدر ما!
أي أنه، باختصار، علينا أن نبني علاقاتنا الاجتماعية و الاقتصادية و نظرياتنا العلمية انطلاقاً من (مشاعر شاعر حالم)، يسبح في بحر من الخيال، لا يشعر به ولا يتحسسه أحد غيره!
فهل شعور أحد بالسعادة أو المتعة يمنحه الحق بالقول: أنا مصيب فيما أقول أو أعتقد أو أفعل؟!
أنا على يقين مطلق بأن الجواب بالنفي واضح لكل ذي بصر و بصيرة.
بماذا يختلف هؤلاء، أي أدونيس و القباني و الماغوط و غيرهم ممن يسير في هذا الركب، عن (رجال الدين) الذين يريدون بناء مجتمعاتنا استناداً إلى إرهاصاتهم الصوفية؟!
ألا يتحد الفريقان بالمنهج و الأسلوب ولكنهما يختلفان في المصدر؟!
فـ (رجال الدين) يعتبرون أن (الله)، الذي (لا يناله غوص الفطن ولا يدركه بعد الهمم) هو مصدر (الجمال)،
أما الشعراء فلا مصدر واضح لإرهاصاتهم الفكرية و المعرفية؛ وفي كلتا الحالتين نحن أمام (مصدر مجهول الهوية). لذلك يبرز السؤال الهام التالي:
ما هو الأساس المتين الذي يجب أن ننطلق منه، أو بشكل أبسط، خلف من نسير أو من نصدق منهم؟
تأسيساً على ذلك، يبرز (النفاق المبطّن) عند ذلك الثالوث الذي عنونت به مقالتي بوضوح تام؛ فهم من جهة يُنكرِون على (رجال الدين) ما يقدمونه من أفكار، و في نفس الوقت يَرِدون نفس الحوض معهم ولكن من طريق ثانٍ!
في نظري، المجالات الحقيقية للفن هي مواطن الجمال، و أعني بذلك: الطبيعة، الأزهار، المرأة، الطفولة، الحب، المشاعر الإنسانية ... وماشابه. أما عند الحديث في الشأن العام، يعني الشؤون الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية وما يرتبط بها، أو في القضايا العلمية، فهناك قواعد و أسس و أصول محددة، يجب الالتزام بها و لا تنفع معها الشاعرية و الخطابة المشحونة بالعواطف.
أعتقد أن عدد القصائد التي كتبها العرب ضد إسرائيل تفوق أضعافاً مضاعفة عدد الأسلحة التي تملكها إسرائيل، فهل تحررت فلسطين؟!
في هذا السياق، قد يكون من الجدير إيراد مقولة الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (1925-1995):
(الأنطولوجيا – هي قضية محفوفة بالمخاطر: فهي كالكون الفوضوي chaosmos أو chaotic space الذي انبثق منه الكون cosmos أو space).
وفي نفس السياق، أستعير عبارة قرأتها في إحدى المقالات*:
(الحديث عن الوجود في الفلسفة – هو أصعب الأعمال، فهو لا يتطلب فقط، و في نفس الوقت، الصدق و الصرامة القصويين مع الذات، بل إنه قد يترك المفكّر في عزلة تامة. نستطيع أن نتكلم فقط عن وجودنا، أما عن "الوجود عموماً" فلا يمكننا إلا تقديم الافتراضات القائمة على ما نعتقد).
في الواقع، أول الأمر، أنا لاحظت هذا السلوك، أي الجنوح إلى الشاعرية و القيم الجمالية، في سلسلة من المحاضرات لمدرسة فكرية، أسسها فاليري بارانوفسكي في مدينة أوديسا الأوكرانية. لهذه المدرسة أسماء متعددة:
-الجامعة الأكاديمية الشعبية لتطور العقل.
-بريسبيكتيفا.
-الحركة العالمية للأمواج المتحدة.
حضرتُ الكثير من محاضراتهم في موسكو، بدعوة من بعض الأصدقاء والصديقات. عندما تسألهم سؤالاً مرتبطاً بالأسس العلمية للنظرية التي يعرضونها على الناس يهربون نحو (الخطابة و الغنائية)، لأن الغاية هي كسب قلوب المتلقين و إقناعهم بصرف النظر عن حيثيات هذه النظرية. في أول محاضرة حضرتها لهم، و كانت في حزيران 2018؛ بدأ المحاضر محاضرته بعبارة:
(العلم وصل إلى طريق مسدود ...)
ثم تابع أهازيجه الغريبة؛
و بعد ذلك استنتج أنه:
(لمعالجة هذه المسألة طرحنا باراديغماً علمياً paradigm ... و مدرستنا تقوم عليه ... )
أنا بصراحة أوقفته قائلاً: ما الفرق بين كلمة (علم) الذي وصل إلى طريق مسدود في عبارتك الأولى، والـ (علم) الذي وصفت بها الباراديغم الذي تطرحونه في مدرستكم؟
دارت حوارات كثيرة، حضورياً في العالم الافتراضي، بيني وبين ممثلي و أتباع هذه المدرسة، و بعدها انسحبت من حلقاتهم النقاشية في آذار 2020، وطالبتهم بعدم إزعاجي بالدعوات إلى نشاطاتهم.
مختصر الحديث: عليكم السير خلفنا و لا تقلقوا من المستقبل!
فهل هناك عاقل في العالم كله يقبل هذا العرض؟!
طبعاً، عادةً تستمر المحاضرة حوالي الساعتين يتبعها جلسة حوارية تستمر 5-7 ساعات. ويقتصر نشاطهم على جلستين في الشهر لا أكثر. في المحاضرة الأولى، حصلت عدة وقائع أو مفارقات:
1-الأولى: في هذه المحاضرة كنت سعيداً جداً، و ما زلت أتحسس نكهة تلك السعادة حتى هذه اللحظة، حتى اعتقدتُ أنهم بخّوا مخدراً في القاعة! لكنني بعد ذلك فكّرت طويلاً في أسباب تلك السعادة الغريبة فعرفت أنه لا علاقة لها بالمحاضرة ولا بالقاعة؛ فأنا أتيت سعيداً إلى المحاضرة ولكن أسلوبهم طرح القضايا و في الإلقاء زاد درجة الشحن النفسي والعاطفي لا أكثر!
2-الثانية: انهارت إحدى الفتيات و بدأت تبكي في المحاضرة، واضطرت للخروج من القاعة، لكنها عادت إليها لاحقاً.
3-الثالثة: أثناء احتدام النقاش بيني وبينهم على الطاولة الحوارية المستديرة اندلق فنجان من القهوة عليّ، فاعتبر البعض أن ذلك برهان من (الله) على أنني، بمماحكاتي و جدالي، أسير في الطريق (الخاطئ). وهذ دليل جديد على دوغمائية متنكرة بزي علمي عصري.
قمت شخصياً بالتحقيق والتدقيق في خلفياتهم فتبين أن لهم ارتباط مع إحدى شركات الأدوية الأمريكية المسماة AmWay وهي اختصاراً لعبارة American Way. لهذه الشركة فروع في كل دول العالم، تستخدم أسلوب (التأثير النفسي والروحي) على الناس بهدف دفعهم لشراء بعض الفيتامينات التي تنتجها الشركة؛ يعني العملية تجارية ولكنها تتستر بستار فلسفي و فكري.
بعد ذلك في منتصف عام 2020، تحدثت عن الموضوع مع إحدى زميلاتي في مركز الأوضاع الاستراتيجية، حيث كنت أعمل خبيراً و باحثاً زائراً، فقالت لي: أنا سآتيك بالخبر اليقين عنهم.
بالنتيجة، تبين أن الحكومة الروسية تمنعهم من أي نشاط رسمي داخل روسيا والسبب هو نشرهم (أفكار غير علمية). والواقع أنه لا وجود لمنظمتهم في السجلات الروسية الرسمية للمنظمات الممنوعة والمحظورة؛ فمنعهم من ممارسة النشاط التعليمي تم بقرار من وزارة التعليم العالي الروسية، كما أنه لا يوجد قرار من المحاكم المختصة حولهم، لأن نشاطهم لا يمكن اعتباره (متطرفاً أو إرهابياً). والواقع أن الدعوة إلى المحاضرات التي يقيمونها في موسكو تتم بشكل شخصي، أي عن طريق الأصدقاء. ونشاطهم لا يثير الشبهات ما دام مقتصراً على ما يمكن تسميته أشباه العلوم PseudoSciences، يعني ككقراءة الكف و الطالع و التنجيم.
ثمة ملاحظة هامة قبل الختام، ليست الغاية من هذه المناقشة سلب القضايا الفكرية والعلمية بعض المسحات الجمالية، بل على العكس تماماً لا بد من إضفاء بعض الجمال على العلم، حتى لا يصبح جافاً عصيّ التذوق و المقاربة، ولكن لا يجوز بأي شكل من الأشكال أن تنقلب الصورة فيصبح (الجمال) مصدراً للعلم.
هناك الكثير من الكلام حول الموضوع، ولكن أختم بالإشارة إلى أن إحدى المناقشات التي دارت بين الرئيس بوتين و الرئيس الصيني، أثناء زيارة الأخير إلى روسيا، هي كيفية الاستفادة من الخبرات الصينية في الرقابة على الإنترنت لحماية المجتمع الروسي من موجات الثقافة الغربية، التي تكاد تقضي على البشر و الحجر. وستتشكل لجان فنية مشتركة بين الطرفين لمعالجة هذا المسألة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أنظر المرجع الأول في مقالتي (الوجود والماهية في إطار التفييء المتعالي إبستمولوجياً)، رابط المقالة:
https://www.jsmcenter.org/Files/Existence-and-essence-in-frame-of-epistemological-transcendence.pdf

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي