سياسة البؤس وبؤس السّياسة/من نوادرالفعل السّياسيّ في تونس

الطايع الهراغي
2023 / 4 / 28

حضرت عجوز ذات يوم إلى قصر فرعون(تُجمع الرّوايات على أنّه ادّعى الرّبوبيّة) تريده أن يحيي لها عنزتها.فما كان من وزيره "هامان" إلاّ أن وهبها عنزة متعلّلا بأنّ سيّده منشغل في تلك اللّحظة بالذّات بخلق الإبل.في المساء سأله فرعون عن حصاد اليوم فأخبره بقصّة العجوز.فجزع أيّما جزع. ولمّا أعلمه بما فعل تنهّد بعمق وقال قولته الشّهيرة "آهِ، لو تدري يا هامان كم هو صعب خلق الإبل؟؟".
"من يهن يسهل الهوان عليه** ما لجرح بميت إيلام".
(أبو الطّيّب المتنبّي)
لم يجانب المؤرّخ هشام جعيّط الصّواب عندما أعلن في تذمّر وامتعاض مرير مشبع بالدّلالات" أشعرأنّي مهان في انتمائي إلى دولة بلا أفق ولا طموح، دولة متسلّطة (إن لم نقل استبداديّة)،هذه الدّولة تقمعني.وأنا أختنق.".
كان ذلك على أيّام حكم بن علي والطّرابلسيّة.
بعد 12 سنة على اندلاع ثورة الكرامة، من حقّ كلّ تونسيّ اليوم -إن لم يكن من واجبه- أن يصرخ هو أيضا:إنّنا نغرق ونختنق. مهزلة من أردإ ما عرفه تاريخ تونس من مهازل .

01/ عندما تُنسف البديهيّات
المعارضة في أبسط تعريف لها والأكثر براغماتيّة هي وجوبا وبالتّعريف نقيض الموجود.وظيفتها أن تقول خلاف ما ينتظره منها السّلطان،ما يعكّر مزاج الحاكم وما لا يرغب في سماعه.أن تتطاول على ما يصوّره الحكّام على أنّه مقدّس .أن تفعل بالضّبط ما تصرّ الأنظمة على أنّه نشاز.خلاف ذلك يجعل منها مسخا، يفقدها جوهر وجودها، يخلع عنها كلّ مشروعيّة ويحوّلها موضوعيّا إلى جزء من النّظام القائم.لا معنى لمعارضة لا تضع نصب عينيها هدفا مركزيّا هو الوصول إلى السّلطة.علّة وجودها وجدوى فعلها يتطلّب تعريّة سياسات النّظم القائمة وتبيّن تفاهتها وتهافتها، تعقّب زلاّتها وتضخيمها، تماما كما فعلت وتفعل مختلف الأنظمة الحاكمة عندما تماثل بين فعل المعارضة والخطر على"السّلم الاجتماعيّ"و"الوحدة القوميّة"و"تماسك الأمّة"فتهوّل من أخطائها الموجودة والمفترضة والملفّقة وتهجّن فعلها وأداءها وتقلّل من شأنها بل وتحمّلها مسؤوليّة الفشل-كلّيّا أو جزئيّا- بتعميم مقصود وهادف يحجب مسؤوليّة الطّاقم الحاكم في إطار بحثه عن نحت مشروعيّة ما.
المكسب الوحيد الذي حصل حوله إجماع وتخيّلنا أنّ التّراجع فيه يكاد يكون أمرا مستحيلا هو حريّة الرّأي والتّعبير التي فرضتها أجواء اعتمالات الأشهر الأولى للثّورة .هذا الإقرار تسفّهه حملات التّشنيع بالحقل الإعلاميّ ترويضا وإرباكا وشراء للذّمم. أمّا الفعل السّياسيّ عموما، والمعارض خصوصا، فيتعرّض إلى عمليّة سحل وتصحير مقصود وممنهج منذ بات المطلوب تبليد الأذهان وتكييفها لتتماثل مع رغبة الحاكم في التّشنيع بمن لا يساير هواه.
من شناعات الفعل السّياسيّ في تونس-وما أكثرها- أن يتحوّل التّعاطي مع الشّأن العامّ، السّياسي منه بالأساس،إلى تهمة، حتّى بالاحتكام إلى القوانين إيّاها التي وضعها الحاكم بنفسه ولنفسه وكيّفها على المقاس كيفما أراد واشتهى، وحوّلها إلى أمر واقع، فيصبح نقد رجال الدّولة تآمرا على هيبة الدّولة التي تُعلى إلى مرتبة المقدّس فيتفنّن شيعة الحاكم وجيشه الإنكشاريّ من الوافدين – أساسا الجدد منهم- في تقديمها على أنّها دولة الجميع وليس جهازا وتعبيرة سياسيّة لمكوّنات التّحالف الحاكم .
لعلّ شعار الرّئيس الأقرب إلى الومضة الإشهارية "قولوا نعم حتّى لا يصيب الدولةَ هرم" نموذج مثاليّ لتأليه السّلطة والتّماهي معها وخير تجسيم لمقولة "أنا الدّولة والدّولة أنا" المنسوبة للويس الرّابع عشر ملك فرنسا الملقّب بالملك الشّمس( 1638/ 1715 ).
إنّه فعلا لا مجازا انتقام قبليّ ثأريّ من كلّ ما بشّرت به الثّورة ووعدت به وأشّرت على إمكانيّات وسبل تحقيقه. نزعة انتقام حكمت معطيات موضوعيّة متداخلة بأن تكون محتشمة في عهد التّرويكات المتوالدة، وتجسّدت في كبح جماح الحالمين بثورة تنجز كلّ تطلّعاتهم كما ترجمتها المطالب المكثّفة في شعار الشّغل والحرّيّة والكرامة الوطنية ،واستفحلت في عهد بديلها الجنيس قيس سعيّد حالما أمّم كلّ السّلط لصالح واحد أحد حتّى باتت رديفا للارتداد في كلّ المجالات .يكفي فقط التّذكير بأنّ أحد مطالب الثّورة الحرّيّة في بعديها الفرديّ والعامّ (حرّيّة التّنظّم/ حرّيّة الفعل السّياسيّ / الحقّ في المعارضة).
في سرديّة قيس سعيّد العجيبة، 14جانفي ردّة والتفاف على الثّورة وطعن للسّيرورة التي انطلقت في 17ديسمبر.سرديّة مخادعة ظاهرها إدانة لإجهاض المسار الثّوريّ وحقيقتها موقف عدائيّ من الثّورة أصلا كما سيكشفه مسار الأحداث وتعاطي قيس سعيّد مع سائر المحطّات التي ميّزت تاريخ تونس. وأيّ عجب؟؟ فمبتدع اعتبار عيد الثّورة هو17 ديسمبر وليس 14جانفي غائب تماما عن مجريات الأحداث زمني بورقيبة وبن علي. كان دوما نكرة ، ولم يكن يوما معنيّا بالشّأن العام في أبسط تجلّياته. ولم يكن له تواجد في أيّ حقل من الحقول حتّى خلال الأيّام التي هزّت عرش بن علي. وفي ذلك تحديدا يكمن سرّ العقدة المترجمة في الشّراسة التي يتعامل بها مع سائر المحطّات والمجالات.

02/ آه من لطخة التّاريخ
ما يحدث اليوم في تونس المطعونة في ثورتها وتاريخها وإرثها والمريضة بأكثر من جائحة طبيعيّة - وبشريّة أساسا- من بلاوي-بعد اثنتي عشرة سنة على هروب بن علي- إعتداء على الشّعب التّونسيّ، على النّخب، وعلى التّاريخ ،تجاوز حدّ الإهانة ليرتقي إلى مستوى الانتقام(بقطع النّظر عن المسؤول وعن حجم المسؤوليّة). ردّة قاتلة غير مسبوقة حوّلت الفعل السّياسيّ -وليس فقط الفاعلين السّياسيّين- إلى حقل تندّر، شناعة انحدرت إلى مستوى العهر السّياسيّ المذلّ، تجاوزت الاستهتار إلى إشاعة التّبجّح بالاستهتار مجسّدا في اعتناق فكر وسلوك قطيعيّ اختزاليّ، الذّوات البشريّة فيه حقل تجريب(وليس تجارب)، وجب ترويضها على التّنكّر للذّات،إذلالها واستبخاسها والاحتماء بمنقذ أعلى وافد من كوكب آخر، لا يُسأل عمّا يفعل ويحقّ له أن يعاقَب القطيع إن هو تلكّأ في الانضباط.
التّرجمة الحرفيّة لما تكابده تونس بأكثر فظاعة منذ اعتلاء سعيّد دفّة العرش شلل ناجم عن خلطة غريبة من خليط من العاهات تتفاقم وتتناسل يوما بعد يوم: التّبجّح بقلّة الحياء، الانتقام من أيّ فعل معقلن،فيض من التّلذّذ برجم الفكر بالسّعي المحموم إلى تعميم الإضراب عن التّفكير،الامتناع عن الفهم كنتاج طبيعيّ لتعطّل الأفهام.حالة من الاهتبال المنفلت من كلّ عقال، الخارق لكلّ منطق حتّى في بعده الصّوريّ البحت.حالةٌ من رام فهمها عليه أن يجهد نفسه ليقبل مسايرتها وتمثّلها باعتماد منطق مقلوب على رأسه: تقمّص الغباء والاستغباء للذات أوّلا وللآخر ثانيا على أنّه الوضع الطّبيعيّ.
النّشاز الذي عُُـدّ دوما استثناء يخرق القاعدة ومدعاة للنّفور تواتر وأعلن عن نفسه بوقاحة جارحة فاستتبّ أمرا واقعا همّش ما سواه ورذّله. التّعامل مع تأزيم الأزمة على أنّه وضع طبيعيّ حوّل السّياسة إلى نادرة أكثر غرابة وإضحاكا من نوادر الجاحظ .ضحك ولكنّه ضحك كالبكاء. (رحم الله المعرّي "ضحكنا وكان الضّحك منّا سفاهة..).نمذجة للاستهتار وإصرار على عقلنة اللاّمعقول.
حقول ترجمة ذبح الفعل السّياسيّ وتحويله إلى نوادر كثيرة. يكفي فقط تنشيط الذاكرة وتحفيزها:
++ النّـادرة الأولـى: اهتبال قيس سعيّد واستمتاعه بالألقاب التي يطلقها عليه خصومه ومنافسوه تفوق انتشاء بخيل الجاحظ ببخله، عيّروه بالبخل فزاد به زهوا. فلما قيل له "قد رضيتَ بأن يقال عبد الله بخيل، قال: "لا أعدمني الله هذا الاسم".الرّئيس قيس سعيّد منتش هو الآخر بما ترميه به معارضته من استبداد واغتصاب للسّلطات وتحويلها إلى وظائف .ترجمة زهوه تتجسّد في إصراره على إعادة إنتاج وتعميق ما تتّهمه به المعارضة والتّغنّي به على أنّه مناقب، كما يكشفه خطابه المكرور(خطاب لا يعبأ باختلاف المناسبات وتباينها وخصوصيّاتها) في تعييره المتواتر لمعارضيه ورميهم بالعيّ والكذب ونعتهم بنعوت تجرّدهم من كلّ آدمية وتكاد تتحوّل إلى سلوك عنصريّ.
++ النّادرة الثّانية: شرود خطابات سعيّد عن حيّز اللّحظة وخروجها عن حدود المناسبة وتطاولها على مقتضيات البروتوكول – كأبجديّة أوليّة من أبجديّات أيّ فعل سياسيّ لمسؤول في الدّولة- أكثر من أن تُحصى، حتّى باتت خاصّيّة وقاعدة. يتبجّح الرّئيس(بما لا تتّسع إليه المناسبة)بأنّه غير مشمول بالمنافسة في سباق الرّحلة إلى سقيفة قرطاج (أواخر2024) ولكنّه معنيّ بالمنصب بما يحيل إلى شحنة من التّعالي والاحتقار عن/ وللمترشّحين المحتملين وتقزيمهم استباقيّا (بصفتهم مواطنين أوّلا قبل أن يكونوا منافسين.).سعيّد غير معنيّ بالمنافسة لأنّه أعلى منها وأكرم مادام كرسيّ الرّئاسة يناديه وإليه يحنّ.في وعيه الباطن الرّئاسة منازلة ولكنّها اصطفاء أيضا. قبول التّبارز للفوز بها حطّ من القيمة الاعتباريّة للرّئيس وللمؤسّسة. فلا غرابة أن يجزم ساكن قرطاج: "لست مستعدّا لأن أسلّم وطني لمن لا وطنيّة له.".هل ثمّة موقف أوضح من هذا يُستدلّ به على ما يجعل من تصريح غريب وعجيب يرتقي إلى مستوى النّادرة؟؟.
++ النّادرة الثّالثة:بعض الأخبار لا تحوز على مقوّمات النّادرة ولكنّ غرابتها قد تجعل منها نادرة النّوادر.إليكم هذه العيّنة: تفصلنا سنة ونصف على انتهاء المدة النّيابيّة الرّئاسيّة(سبتمبر2024)
ومع ذلك يجد البعض من الشّخصيّات السّياسيّة متعة في الحديث عن ضرورة ترشّح الرّئيس الحالي وترشيحه لمدّتين نيابيّتين عملا بالدّستور الجديد للجمهوريّة الجديدة والعمل على توفير موجبات فوزه.
++النّادرة الرّابعة: تتمثل في ما يأتيه الكرونيكور( فلان وعلان/ قحطان ورهدان/ وميّان وديّان/ نجبان ورضوان/عمران وشدلان) من استيلاء على مهمّة تاريخيّة جرت العادة أن تُوكل للمخبرين بترذيلها وإفقادها طابع الحِرفيّة والدّراية وتحويلها من مهنة (مرذولة بالتّأكيد) إلى مسخرة تجعل القائم بها وعليها محلّ شفقة مهينة مشفوعة بازدراء أكثر إهانة.البعض من هؤلاء كانوا خدما في حزب المقرونة مكلّفين بأبشع الشّنائع، والبعض الآخر لعق طويلا من موائد النّهضة التي يستلّ عليها اليوم سكاكينه بكثير من العهر المرضيّ ويستعرض عضلاته في السّباب تشنيعا بها وتشيّعا لوليّ النّعمة الجديد. حالة من الخساسة والتّهاوي الأخلاقي المدوّي الذي يسحق الذات ويذلّها فتنحدر إلى مستوى تمثّل الاستعباد واستبطانه بما يجعلها تستمتع التّفنّن في القيام بالمهامّ التي يعافها المعنيّون المباشرون بها ويتعالون عليها فيتنازلون عنها للمتيّمين الجدد بفن التّزحلق والتّزلّف والوشاية الرّخيصة.
النّادرة الخامسة:تسكنك رغبة جامحة في إدراك سرّ الجنون والسّقوط الأخلاقيّ والقيميّ الذي استبدّ بالبعض ممّن تباهى بانتمائه إلى حضيرة الأحرار حتّى كان ما كان من السّقوط الحرّ.تسابق وتلاحق في احتلال أفضل مكان في أحضان السّلطان. انتشوا بالكشف الجديد ما إن تماهوا مع وحي فجر25جويلية. أسكرتهم اللّحظة،هزّهم الانتشاء ودمغهم الوحي فأزبدوا وعربدوا وكفروا وطلّقوا ما كانوا فيه من غيّ وبهتان وارتموا في أحضان المنقذ من الضّلال يرتّلون ما كُتب عليهم أن يلهجوا بسحره صباح مساء. تستحضر ما قرأت من نصوص وكتب وسجالات، تعتصر الذّاكرة، تنقّب في سائر التّجارب عساك تمسك بخيط يبدّد حيرتك، فتخلص إلى يقين واحد أحد:التّهافت -كما التّفاهة- يسير فهمه عسير تبريره. اللّهمّ إلاّ أن يكون-على خلاف ما خمّنت- رغبة جامحة في اكتشاف هرطقة من هرطقات زواج المتعة.
رحم الله المتنبّي شيخ الهجّائين" ويكذب ما أذللته بهجائه// لقد كان مِن قبل الهجاء ذليلا".
++ النّادرة السّادسة:عنوانها جبهة الخلاص.هذه مأساة أكثر منها نادرة.فمن بؤس السّياسة ومن نكد الدّهر أن تنتصب الجبهة بقيادة حركة النّهضة (الممثّل الأساسيّ للإسلام السّياسيّ في تونس)ناطقا رسميّا باسم معارضة حكم قيس سعيّد. ومن نوائب الزّمن أن تحلم النّهضة وحزامها العجائبيّ بالعودة إلى ذات المربّع بإحياء الأشباح ليحكموا الأحياء على شاكلة عودة أهل الكهف. فالمكوّن الأساسيّ لها هو أحد أضلع التّرويكات التي تتالت على الحكم منذ 2011.وإليه تعود المسؤوليّة الأولى في تعفين المناخ السّياسيّ وفرض حالة من العبث والانسداد واللاّتعايش. وضعيّة حتّمت (في غياب إمكانيّة حسم من خارج منظومة الحكم)حلاّ قسريّا بانقلاب أحد مكوّنات المنظومة على ضرائره بتوظيف الصّلاحيّات المخوّلة دستوريّا للرّئاسة وبالاتّكاء على بيروقراطيّة الدّولة للإنهاء مع توزّع مراكز النّفوذ.فقيس سعيّد موضوعيّا ليس إلاّ هديّة ملغومة وبديلا جنيسا من صلب منظومة الحكم وليس من خارجها،على خلاف ما تتوّهمه الجحافل المؤمنة بالمنقذ الأعلى والتي صدّقت في لحظة تخمّر أنّ من راهنت عليه النّهضة كعصفور نادر هو البديل الثّوريّ ومن خارج السّيستام.
لهفي على تونس وعلى نخب تونس.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي