لا أحد يحب الفقراء الا أمهاتهم

منى نوال حلمى
2023 / 4 / 10

--------------------------------------------------------------------------------
أخشى ألا تأتى سطورى على أكمل وجه أرضاه . فأنا أكتبها فى يوم من أيام " أبريل " شهر مولدى . وهذا يكفى ، لكى يتعكر مزاجى ، وأتحول الى كتلة من الأعصاب المتوترة ، المتوجسة . و " أبريل " فى موسم الربيع ، وأنا أكره الربيع ، وكل ما يصاحبه من تفجرالطبيعة ، وصخب البشر . أنا امرأة خريفية الهوى ، شتائية المشاعر .
وتجتاحنى الأسئلة العدمية والعبثية ، لمنْ أكتب ؟.
ما جدوى الكتابة المتكررة منذ سنوات ، وتأليف الكتب ؟.
ماذا يحدث للعالم ، لو مرضت بداء خبيث ، أو مت غرقا ، أو حرقا ، أو قهرا ... بطلقة رصاص ، أو نصل سكين ، أو بنوبة قلبية من حصار السفه والتفاهة والسخف ؟؟. هل تغير الشمس مسارها وتشرق من الغرب ، لو انحرفت أو كفرت أو انتحرت ؟.
العدم يلف جميع الأشياء ، لا معنى ولا أهمية لمقالات وقصائد وروايات ، تنتزع أناقة الحروف ، وتناغم الأبجدية . هل هناك ما يبرر كل هذا التعب والاستنزاف ؟ . هل هناك ما يستحق أن أوجد ، وأن أستمر فى الوجود ، وكل منْ يهمهم أمرى دون مصالح ، دون أقنعة ،
دون شروط ، قد غادروا الى المحطة الأخيرة ، وافترشوا التراب مسكنا أبديا ؟؟.
وجاء بخاطرى أن جبران خليل جبران 6 يناير 1883 - 10 أبريل 1931 ، أى أن اليوم ذكرى الرحيل الثانية والتسعين ، قد قال أمرا مشابها ، حين تسائل : " هل هذه هى الحياة
التى كنت أركل بطن أمى من أجلها ؟ ".
كلما قبضت على روحى تلك التساؤلات الفلسفية العدمية العبثية ، أفلت منها قائلة :
ما هذه الرفاهية الفكرية ؟؟... ألا يكفى أننى لست من الجائعين والمشردين ، أو من الملايين
الذين يعيشون ويموتون تحت خط الفقر ... ألا يكفى أننى من الطبقة المخدومة ، لا الطبقة الخادمة ؟؟ ... الطبقة المالكة ، لا الطبقة المملوكة ؟؟ ..... الطبقة الآمرة ، لا الطبقة المأمورة ".
منْ يعيش تحت خط الفقر ، ليست لديه الطاقة ، لأسئلة فلسفية . انشغاله الوحيد المتكرر يوميا هو : " كيف أجد طعاما يبقينى حيا ؟ ". المعدة الخاوية لا تتفلسف ، ولا تطرح الأسئلة .
لكن الواقع فى كل زمان ومكان ، يشهد على نساء ورجال ، فوق خط الفقر بسنوات ضوئية . بطونهم ممتلئة بالأكل ، جيوبهم ممتلئة بالفلوس ، خزائنهم ممتلئة بالملابس الفخمة والمجوهرات . لكن عقولهم خاوية . لا يشغلهم الا اشباع غرائز الطعام ، واطفاء شهوات الجنس والامتلاك . وهؤلاء على الأغلب ، هم سبب وجود الفقر والفقراء .
هناك جمعيات ومراكز ومنظمات وبنوك ، متخصصة فى الاستثمار فى فقر الناس ، وترسيخه عملا بالقول : " اعطينى سمكة ، ولا تعلمنى فن الصيد ". وناس يستعرضون عطاء الفتات ، فى المناسبات الدينية والاجتماعية ، ليقال عنهم " بتوع ربنا ".
خُصص يوم 17 أكتوبر ليكون اليوم العالمى لابادة الفقر. ولكن دون أى حلول جذرية ، لابادته فعلا .الصين التى تفتخر فى كل مناسبة أن لا دين لها ، هى البلد الوحيد الذى استطاع انتشال ما يقرب من 800 مليون شخص من الفقر المدقع - تحت خط الفقر - عام 2021 ، فى الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعى الصينى .
الميزة الوحيدة للفقيرة ، أن لو أحبها رجل ما ، سيكون حبا صادقا لشخصها ، منزوع الأطماع . وكذلك اذا أحبت امرأة رجلا فقيرا ، سيكون حبها لذاته ، وليس لفلوسه . ان أكبر قلق فى حياة انسانة أو انسان من الأثرياء ، ليس أن يفقد أمواله . ولكن سؤاله الذى لا يتوقف :
" هل الحب والاهتمام والتبجيل الذى يحيط بى ، بسبب ثرائى ، أم لذاتى ؟.
اذا أردنا الحقيقة والانصاف ، فان الفقراء لا يحبهم أحد الا أمهاتهم . يخوضون يوميا
حرب وجود ، لا ترحمهم ، الا بالفتات الفائض من الأغنياء . كل شئ يعمل ضدهم .
ان ضحايا الفقر فى العالم ، أكثر من ضحايا الحروب الكبرى التى خاضتها البشرية .
أى حرب مهما تمادت بشاعتها ، لها نهاية ، الا حرب الفقراء .
الفقر عار لا يستحى منه العالم . فأغلب الأنظمة تعتبره شيئا طبيعيا فى الكون مثل الأشجار والجبال والبحار ، أو شيئا موروثا بسبب الجينات الوراثية مثل لون العينين ، وطول القامة والاستعداد الوراثى لبعض الأمراض .
والأديان لا تفعل شيئا الا أن توصى الفقراء بالصبر ، والدعاء ، فالله رفع الناس بعضهم فوق بعض درجات ، وهو ابتلاء الهى لاختبار شدة وثبات الايمان .
ويتأزم حال الفقراء يوما بعد يوم ، لأن الحضارة العالمية السائدة ، المهيمنة على مجريات الأمور وصنع القرارت ووضع الأولويات ، هى الرأسمالية بقيادة أمريكا ، و التى يزيد تنمرها وقبضتها الحديدية على العالم . فالعالم لم يعد الشرق والغرب والشمال والجنوب . نحن كلنا تروس ، تديرها الآلة الرأسمالية الضخمة ، التى لا تشبع ، ولا تتوقف شهيتها لحصد الربح ، على حساب أى شئ .
حينما نادى الفيلسوف الأمريكى، وليم جيمس ١٨٤٢ ١٩١٠، إلى تبنى الفلسفة العملية، أو " البراجماتية " ، لم يتصور ما قد يلحق بأمريكا. لقد فهم المجتمع الأمريكى ، البراجماتية، على أنها اللهاث وراء الربح الشره، النجاح المادى، واحتياجات السوق، وجنون الحرب، وفرض الحصار على الشعوب المستضعفة. بينما قصد هو، أن تتقاسم كل الشعوب، التعايش، القائم على التعاون، على المحبة، والعقلانية ، والروح الجريئة المغامرة. أو بلغته التى تختصر فلسفته : " عِش ودع الآخرين يعيشون ".
وما يثير اندهاشى وغضبى ، أن الأغنياء فى كل مكان ، متشابهون . فهم لا يستحون من استعراض غناهم ، والزهو به .
ويزداد اندهاشى وغضبى ، عندما أسمع خطباء الجوامع والمساجد ، والمشايح ، ينصحون الشباب المسلم المحروم من الحد الأدنى للحياة الكريمة ، بالاستغفار عن ذنوبهم ، والتوبة عن خطاياهم ، والزهد فى متاع الدنيا الفانية الغرورة .
أى " ذنوب" يقترفها شاب عاطل يعيش وسط القمامة والحشرات والأمراض ؟؟.
عما " تستغفر" فتاة لا تجد وظيفة، وتعيش فى حجرة واحدة مع عشرة أفراد ؟.
ملايين تحت خط الفقر ، لا يسمعون الا فتاوى الاستعداد للموت ، وهم محرومون
أصلا من فرصة للحياة ؟؟؟.
يرجع الفضل لأسرتى التى ربتنى على بساطة العيش ، والاكتفاء بأقل القليل ، والاستغناء عن أشياء تروج الاعلانات الرأسمالية أنها ضرورية ، مع أننا لا نحتاجها . وقد جعلنى هذا أننى أصبحت عاجزة حقا عن " الفرح " ، وفى ذاكرتى ملايين الفقراء ، والمتسولين . والفضل الثانى يرجع الى " غاندى " 2 أكتوبر 1869 - 30 يناير 1948 ، الذى اعتبر الفقر أسوأ أشكال العنف . لم يخطب فى ملايين الهنود الفقراء عن العدل ، بل فعله . عاش حياة أبسط من البساطة . سأله صحفى بريطانى عن الملابس البائسة شبه العارية التى يلبسها ، حتى عندما يقابل الملك ، وعلية القوم . فرد " غاندى " : " لآننى أمثل أمة من الفقراء والعراة ".
فى بلادنا ، اذا رغب شخص مسلم فى الحصول على لقب " فاعل خير " ، فى قريته الفقيرة ، التى لا يوجد بها مدرسة أو مستشفى أو مصنع أو وسائل ترفيه ، أو عربات لجمع
القمامة ، أو أى مرفق يحسن حال الفقراء ، بينما يوجد بها عشرات المساجد المتلاصقة بمكبرات الصوت ، فانه يبنى مسجدا فاخرا للصلاة . وكأن مشكلة فقراء المسلمين فى
القرية ، هى نقص الصلاة . أو كأن بناء مصنع أو مستشفى ، ليس من أفعال الخير .
وكم قرأت عن أبناء ، حينما مات الأب أو الأم ، فانهم يبنون مسجد كصدقة جارية ، أو يذهب أحدهم للعمرة والحج ، بدلا من الأب الراحل ، أو الأم الفقيدة . لم أسمع عن شخص يريد لأبيه الراحل الذكرى الحسنة ، فبنى مصنعا أو مركز طبى باسمها . وانما يبنى مسجدا.
وفى هذا السياق ، أتذكر مقولة دينية شهيرة ، كانت ترددها المعلمة فى مدرستى ، فى حصة اللغة العربية ، ولا أنساها " لقمة فى بطن جائع خير من ألف جامع ".
بما ان مبدأ الرأسمالية هو أن " رأس المال أهم من الانسان " ، فان " المال يستر رذيلة الأغنياء ، ويغطى فضيلة الفقراء ". ولا أدرى ما النبل الأخلاقى اذا كسبنا المال ، وخسرنا الانسان ؟؟.
المال هو كل شئ . وبدونه لا تكون شيئا . المال يقلب المقاييس ، ويغير من الأحكام ، وينتصر على العادات والعُرف والتقاليد ، والأخلاق .. وكما قال أوسكار وايلد 16 اكتوبر 1854 - 30 نوفمبر1900 : " ان المجتمعات قد تسامح المجرم ، لكنها لا تسامح الفقير ".
وهو القائل أيضا : " كنت فى طفولتى أظن أن المال هو كل شئ .. وعندما كبرت تأكدت من ذلك ".
كتب أحمد شوقى 16 أكتوبر 1868 - 14 أكتوبر 1932 معبرا أبلغ تعبير عن سطوة المال : المال حلل كل غير محلل
حتى زواج الشيب بالأبكار
ما ُزوجت تلك الفتاة انما
بِيع الصبا والُحسن بالدينار
المهتمون بالأخلاق حقا ، يجب أن يكون شغلهم الشاغل ، هو القضاء على الفقر . فالفقر ،
يدفع الناس لانحرافات لا يرغبونها ، وضد طبيعتهم ومبادئهم ، وبعد ذلك نعاقبهم على انحرافهم . هم بشر مثل الأغنياء ، ومن حقهم التمتع بالحياة ، ولو فى حدودها الدنيا
الكريمة . " لو كان الفقر رجلا لذبحته وقطعته اربا ودفنته ".
من الكذب والنفاق المستمر ، القول بأن " الفقر ليس عيبا ". لكن الأسر ميسورة الحال ، لا تقبل بأن يتزوج أولادهم وبناتهم من الفقراء . ماذا نسمى هذا ؟؟.
ويعبر ارنستو تشى جيفارا 14 يونيو 1928 - 9 أكتوبر 1967( اغتيال ) ، المناضل العالمى ضد المظلومين والمقهورين والفقراء ، بطريقته الساخرة قائلا : " الذى قال أن الفقر ليس عيبا ، كان يريد أن يكملها ويقول بل جريمة . ولكن الأغنياء قاطعوه بالتصفيق الحار ".
سأل شخص أحد الحكماء ، ما هى الموسيقى الحرام ؟. فقال الحكيم : " الموسيقى الحرام هى موسيقى ملاعق الأغنياء وهى ترن فى أطباق الطعام ، وتسمعها آذان الفقراء الجوعى ".

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي