ماركس ومفارقات الراهنية

عبد المجيد السخيري
2023 / 4 / 1

ثمة مفارقة أساسية من جملة مفارقات تُلفت انتباه كل الذين ينظرون في راهنية ماركس، وهي أن حضور الأخير بقدر ما يبدو أقل لفتا للنظر ومرئية بقدر ما صار مُتعدّدا. ويعود هذا الأمر إلى أسباب مفهومة، منها على الأقل اثنين أكثر من مُدركة من قبل جمهور واسع من القراء والمهتمين: فمن جهة، تحرّرت صورة ماركس وإرثه "الشخصي" من القبضة الإيديولوجية الرسمية للأحزاب الشيوعية التقليدية من خلال الصيغة العقائدية المكرّسة في عهد الاتحاد السوفياتي، وهي "الماركسية اللينينية" التي أصبح يُنظر إليها منذ سقوط هذا الأخير وتراجع الكيانات الحزبية المرتبطة به على أنها عقيدة سوفياتية صرفة وجب أن تُودع في الأرشيف مع تاريخ وأعمال "الإمبراطورية" المنهارة. ومن جهة ثانية، أضحت كتابات وأعمال ماركس منذئذ موضوع توظيفات واستخدامات شتى، من قبل طيف واسع من الحركات الاجتماعية والجماعات النقدية والأفراد لنقد المؤسسات السياسية والاقتصادية والثقافية في أرجاء المعمورة، إلى حد غدا من الصعب معه تعرّف الصورة الراسخة المنطبعة لماركس في أذهان الأجيال السابقة على انهيار التجربة الاشتراكية المتحققة، أي صورة مُلهم الشيوعية والمعلم الأول، المقترنة بالمرشد الإيديولوجي وعرّاب الثورات الاشتراكية وصاحب التعاليم التي يحفظها الثوريون عن ظهر قلب ويسعون إلى تطبيقها بإخلاص.
إذا دققنا النظر جيدا وجدنا أن حركات اجتماعية ومجموعات نقدية متعددة تستلهم ماركس بصورة غير رسمية، من النسويات الثائرات ومجموعات الدفاع الذاتي في أمريكا الجنوبية، إلى حركات السكان الأصليين في المكسيك أو بوليفيا، مرورا بالحركات الإيكولوجية، وليس انتهاء بالمتمردين في الميتروبولات الغربية ومحتلي الأماكن الشهيرة مثل وول ستريت وغيرها، وجمعيها تشترك في اعتبار ماركس مرجعية فكرية مهمة، لكن ليس متفردة ووحيدة. فغالبا ما تمزج هذه الحركات والجماعات، المتنوعة من حيث الأهداف ووسائل الفعل، بين ماركس ومرجعيات أخرى، إما جديدة ومطورة لأفكاره، أو مُسترجعة من التراث أو الماضي الثقافي الخاص بكل بلد أو مجموعة بشرية.
لكن ما الذي تستوحيه هذه الحركات والجماعات، المشار إليها على سبيل المثال لا الحصر، من ماركس بالتحديد؟
ينبغي أن نذكر بأن "تحرير" ماركس من القبضة التأويلية للعقيدة الإيديولوجية التي سادت إبان عهد الاتحاد السوفياتي، وترسّخت لدى الأحزاب الشيوعية وجل التيارات الأخرى المنتسبة للماركسية، أفسح المجال أمام تعددية هائلة في قراءات الإرث الماركساني. وبالنتيجة ستجد الحركات الاجتماعية الجديدة، ومختلف المجموعات النقدية في أوساط المثقفين والنساء والفئات الهامشية، كما في أوساط الأقليات الجنسية والعرقية والإثنية، الطريق سانحا أمامها للتسلح الحر والمتحرر بالنقد الماركساني للرأسمالية، وهو النقد الذي يُوفّر عليها الجهد الأساسي لتبرير شرعيتها ومشروعية مطالبها، ذلك لأن الرأسمالية واقع لا يُرتفع بالنسبة إليها، تتحدى بتناقضاتها وآفاقها المظلمة وأثارها المدمرة للطبيعة والبيئة، والأزمات المالية التي تتولد عن نشاطاتها المتطرفة، والبؤس الاقتصادي والانساني الذي يتحتم عن وجودها، سواء في نهجها الليبرالي التقليدي أو النيوليبرالي المسعور. والحال أن استلهام النقد الماركساني المشار إليه لم يعد يُلزم هذه الحركات والجماعات بتبني الأفق الشيوعي لماركس الثوري ومعلم البروليتاريا كما كان عليه الأمر في السابق، أو بالأحرى كما تجسّد من شكل تاريخي أملته ظروف خاصة أو فرضته تصورات معينة للتنظيم الاجتماعي والسياسة والدولة، خاصة وأن استعادة الذكريات الأليمة للماضي السوفياتي، بصرف النظر عن التشويهات الزائدة والمفبركة من قبل المؤرخين البرجوازيين، يدفع في الغالب إلى استدعاء وجوه فكرية أخرى واستلهام مفاهيم جديدة لتصور إمكانيات بديلة تجاوز الرأسمالية، دون الذهاب حتما نحو الشيوعية المتخيلة أو أي من الأشكال السابقة للاشتراكية الفعلية، كما اُستقطعت من ميراث ماركس السياسي وأُدرجت ضمن قوالب جاهزة. إنما ذلك أيضا لا يمنع من افتراض الأفق الشيوعي غير الجاهز بوصفات محددة كما حدث قي القرن الماضي، أي بما يجعل الفرضية الشيوعية، بتعبير آلان باديو، قابلة للاختبار على نحو تعددي وممكن دون أن تعني بالضرورة، بحسب أغلب الماركسانيين، تصور الشيوعية كأفق حتمي لحركة التاريخ مثلما تصوره ماركس.
وبهذا المعنى سيكون ماركس، كما ألمح إلى ذلك جاك دريدا في "أشباح ماركس"، نوعا من المرافق الضروري للعبور إلى مستقبل ليس من المسؤولية السياسية والأخلاقية أن نتصوره من دونه، حيث تأخذ المرافقة تلك تصورات متعددة ليس بوسعنا أن نستعرضها هنا ولو بإيجاز، لكن حسبنا أن نشير إلى بعض الأسماء التي مثّلت لها في العقود الأخيرة من القرن الماضي، كفوكو ودولوز وكاستورياديس وآخرين، أو ما تزال بعضها تجتهد في تخيل الصور الممكنة لتصور مستقبل ما بعد رأسمالي، أمثال باليبار ورانسيير ونيغري وداردو وغيرهم كثير. وينبغي بالطبع أن نحذر من أن محاولة معارضة ماركس بماركس نفسه، حين يتعلق الأمر بالبحث عن تسويات سياسية وإيديولوجية أحيانا مستحيلة، قد لا تكون ذات فائدة عملية حتى ولو بدت مقبولة على المستويين النظري والفلسفي، بل وحتى معقولة في بعض الحالات، إذا لم تقترن ببيان أوجه التقاطع بين الواقع واليوتوبيات، والأهم من ذلك، فتح الطريق الفعلي إلى التغيير بالرهان على حوامل اجتماعية حقيقة وليس مجرد "ذاتيات" متخيلة وعائمة.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي