|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
الطايع الهراغي
2023 / 3 / 28
"يقولون موتك كان غريبا .. ووجه الغرابة أنّك عشت
وأنّي أعيش وأنّا نعيش.وتعلم .تعلم أنّا
حُكمنا بموت سريع يمرّ ببطء".
(سميـح القاســـم)
"سلام أيّها المتراس
إن ضاقت بك المدن
فما ضاقت بك السّفن"
(معين بسيسو)
01/ "غيوم تمطر الخصب"
في شهر آذار ترتدي الأرض أجمل حللها وتعلن في الكنائس والمعابد والمساجد الانحياز والوفاء لأمّهات الشّهداء. في آذار تقفز الصّورة لأنّها اكتملت: هنا باقون ما بقي الزّعتر والزّيتون. هنا باقون، وليشرب غيرنا البحر.لنا موعد مع مغامرات الطّفولة وطيش الشّباب وحكمة الكهول وهلعهم ودلع الصّبايا. لنا حنين موجع لا يقاوم لصورة نُقشت في الذاكرة وأنّى لها أن تمّحي .وليس يصعب على عشّاقها فكّ طلاسمها ما ظلّوا بها ولعين . يوم الأرض،كان لا بدّ أن يكون حدثا عالميّا يحضى باحتفال سنويّ منذ 1970. ولكنّ حكاية الأرض مع الفلسطينيّ مسالة أخرى،موّال شجن،قصيدة لحكاية عشق عجيبة.تكتسي طعمها الخاصّ منذ كُتب على فلسطين أن تلاحق فلسطين بحثا عن فلسطين منذ صارت في سرديّة بعض المتيّمين بها "أرض البرتقال الحزين"،ومنذ حكمَ جبروت الزّمن وصلفه على الفلسطينيّ أن يقهر ذاكرته ويحتلّها،أن ينسفها ليحول دون أن ينسفها غيره كي لا يغفر ولا يسامح ويظلّ يردّد في كلّ آن وحين: لن ننسى. ابدا لن ننسى.تقهره الذّاكرة فيتلذذ قمعها ويرهقها ويقسو عليها لتتّسع إلى ولعه بالأسماء والتّواريخ والرّموز فتستجيب. أسلحة بواسطتها ينحت لنفسه من لا شيء أفقا.
يحلو للشّهيد لحظةً قبل أن تغامر الرّوح بالإبحار في رحلة تفرض مفارقة المهجة للجسد أن يستأذن الرّبّ - وقد بات للفلسطينيّ حليفا- في أن يرتّل بصوت شجيّ قرآن العصر:فلسطين دفق شريان، نبضنا الجميل وحلمنا الأجمل، توق الرّوح إلى الرّوح ساعة يخضّها الحنين ويهزّها الشّوق إلى أن تذّوب في عشق تفنى فيه ليفنى فيها ويمضيان في رحلة توحّد أبديّ. فلسطين لمّا يسكنها الوجد يستحيل أن ينال منها أحد مقتلا إلاّ في بحر المعركة. تظلّ في سوح النّزال على مدار جولاته تسأل أيّكم الخائن؟؟ وأيّكم المحكمة؟ شوكة في حلق جحافل أعدائها، كثيرون منهم من بني جلدتها ممّن جثموا على جهازها التّنفّسيّ دهرا وعلى نفسها راودوها سبعا وعشرا، وهي أبدا عنهم مدبرة، انتصبوا شاهدا على اغتيال حلمها.فأفلحوا. وما أفلحوا يوم أينع زرع الحلم. التحفوا ثوب الذّلّ وبه تدثّروا. لبسهم الصّغار. تصالحوا مع الحقارة وبات العار لهم راية وشعارا.فما كان إلاّ أن يكونوا للحقارة إلفا.
مأساة عصرنا ومفارقته في آن .عجزه، إعجازه ومعجزته، أن يخضع شعب إلى حرب يتفنّن فيها أعداؤه بتجريب كلّ طرق الإبادة، مسكونين برغبة محمومة فيها كلّ فنون طمس الذاكرة فيزداد بالحياة هياما ويقبل عليها بنهم عجيب غريب.إلياذة العرب نيابةً عنهم وفي تغيّب مقصود منهم .صراع الذاكرة مع ما يتربّص بالتّاريخ من آفة التّقادم والنّسيان لمّا يستأسد السّادة ليحتالوا عليه عساهم بنسفه يحتفلون وعلى أنغام مكره يتراقصون . ينتصب السّؤال يروم استقامة في ما بدا لهم عين المحال. فلسطين هذه التيّ ترجّاها مظفّر النّوّاب أن تكون عاقرا- طالما "هذه الأمّة لا بدّ لها أن تأخذ درسا في التّخريب"- ما حفلت بغضبه وأبت إلاّ أن تكون ولودا. كيف تكون في غيابها شديدة الحضور؟؟ وفي حضورها تكون أسطورة الأساطير؟؟.كم مرّة أفلتت من بلادة بلاغة ما قتلت ذبابة وراوغت ركاكة العرب العاربة وسذاجة العقول المسطّحة وأنقذتهم - كدأبها دوما- من حالة اليتم والقبوع على التّخوم؟؟.أدخلتهم محراب التّاريخ من بوّابة هزائم هي إلى الانتصارات أقرب وانتصارات هي على المتباهين بها وعيد وبلاء، وليكن تاريخ المآسي والنّكبات والرّكض صوب الواهم من الوعود دليلنا الوحيد- مادام لا بدّ من دليل- على وجود قضيّة أرض بشعب لشعب بأرض. قضيّة يتناهشها النّسيان وتأبى هي أن تستكين إلى النّسيان.
الحكّام العرب ساعةَ تدقّ طبول الحرب يجتمع كلّ الملوك وكلّ الأمراء بكلّ أنواع الرّؤساء، مباشرة بعد القيلولة وبعد أن يتأكّدوا من أنّ العرش في مأمن، يتدارسون تأثير الانعكاسات السّلبيّة للانحباس الحراريّ على مشروع الشّرق الأوسط، ويستبقون
الإحاطة بمخاطر التّوتّر في منطقة النّزاع على مستقبل السّلام، ويتطوّع البعض منهم بالمجان لينجز مهمّة المهامّ: أن يبذل جهدا عند أمريكا حتّى لا تدرج كلّ فصائل المقاومة في قائمة الدّول الرّاعية للإرهاب.
02/ ويكبرالطّفل قبل الأوان
الطّفل الفلسطينيّ - ضدّا لكلّ أنداده في كلّ أصقاع الدّنيا - مطالب بأن يختزل الزّمن، أن يقهر رغباته،أن يطوي طويل المسافات ويختبر ما تخبّئه له من مفاجآت ليلتهم طفولته التهاما ليصير ندّا، إلاّ ما كان من أمر الطّفل حنظلة - رفيق ناجي العليّ في رسومه- فقد أقسم أن لا يكبر إلاّ يوم إلى فلسطين تدقّ أجراس العودة ويعود.
الأمّ الفلسطينيّة على خلاف باقي الأمّهات -أينما كانت في الدّاخل أم في الشّتات- حالما يأتيها المخاض تدرك أنّه محكوم عليها أن تسرّ لمولودها بالخبر اليقين: أن تلحّ عليه في أن يكون مشروع شهيد.
الإثنين 30مارس1976 يوم عرس الدّم الفلسطينيّ لقافلة أخرى من الشّهداء(خديجة قاسم شواهنة/ رجاء حسين أبو ريّا/ خير أحمد ياسين/ رأفت علي الزّهيري/ خضرعيد محمود خلايلة/ محسن حسن سيّد طه) يعلن يوم الغضب السّنويّ على وضاعة وضيعة أفلتت يوما من ثنايا التّاريخ وتكابد لتتحوّل إلى حقيقة .عجيبة من عجائب الدّهر،بداية عذابات رحلةِ تروم أن ترسم خطوط التّباعد بين وهم الحدود وحقّ الوجود.
أريدَ لشهر آذار أن ينغلق على فاجعة على شاكلة كفر قاسم ودير ياسين ومجزرة أيلول الأسود، فكان أن صار انعطافة منذ بات الشّهر للاحتجاج صنوا.ومن يومها وأرض كنعان تقيم فرحا داميّا - وليكن مكلوما- هو عرس الأرض وأنين جرح خديجة وطيفها ليظلّ الجرح والأرض يرتّلان قرانهما بحثا عن سلام لا يمكن إلاّ أن يكون محمولا على فوهة الغضب، كُتب عليه أن لا يكون إلاّ على أكفّ الموت كما أرادته سناء المحيدلي ودلال المغربي ومحمّد الدّرّة. يسّاءل الفلسطينيّ،ما دام دوما مسكونا بحرقة الأسئلة،بعد أن يكون الحظّ أسعفه فأخطأه سهمُ المنيّة،أيّة صدفة عجيبة هذه التي اقتضت أن يكون إلى الآن بينكم حيّا؟؟ اقتحم عليه الموت عتبات المخيّم مرارا .ولما تأكّد أنّه وإيّاه توأم أرجأ رحيله حتّى يتمكّن من أن يحتلّ شبرا من أرض، ويشهد ما تراكم من مآس منذ النّحس الأوّل أنّها أرضه، فيسكنه الاطمئنان إلى أنّ له ما عليه يقيم قبل الرّحيل أجمل قبر.ويوم يزوره من الأحبّة نفر ينادمهم القبر ويسامرهم في حديث الرّوح للرّوح عمّا ساور نديمه ونزيله من حلم.
من أعاجيب ما تبوح به الوقائع الغريبة في تاريخ مأساة الفلسطينيّ مع بني عمومته ما هو أقرب إلى النّوادرغيرالقابلة للتّصديق حتّى كنادرة أنّ الموت غالبا ما كان أقلّ عليه قسوة من كثيرين ممّن تبجّحوا-أحيانا بدون موجب- بأنّ لهم به وبقضيّته وصلا.وكان الموت به في بعض الحالات جدّ رحيم. فلحظات قبل الغيب الأخير يترجّاه أن يكتب للأحبّة والرّفاق وصيّة عمره بها يشدّ أزرهم.وليس له إلاّ أن يكتب: فقط، إلى من يجب أن يكون بالأمر معنيّا،كن سندي أكن سندك.
لسبب ما، غرابته تحول دون إمكانيّة فهمه والإمساك بنشاز تفاصيله وفوضى انتظامه وتوزّع تشعّباته يكون أن يحمل كلّ قتيل على الظّهر قبره حتّى لا يعتدي أعداء التّاريخ على ألقاب الشّهداء فيطمسون الألقاب ويحرّفون الأسماء ،تماما كما يحمل الفدائيّ تفاصيل وطنه وقد سكنت بين ضلوعه كلّما تحتّم عليه أن يرحل منه إليه حتّى لا يستولي زوّار اللّيل على ما نُحت في الذاكرة من أحزان الشّوارع وعربداتها، تضاريس الأزقّة وأسرارها، أسماء الحارات، منارات المساجد وأجراس الكنائس. خاصّيّة فلسطينيّة بامتياز. فلسطين وصيّة الوصايا وسحر متاهات المنافي، وطن لمن كان دوما على سفر فلم يمتلك في حياته وطنا، موّال الشّهيد ساعة يفاجئه الموت، وطن يفتّش عن وطن.
قصيدة كم تمنّى الشّعراء لو أنّهم كتبوها قبل أن تسبقهم إليها شهيدة من قوافل الشّهداء لما تسلّلت من التّخوم والشّتات ووطئت بقدميها سواحل الدّاخل، سواحل فلسطين .فكانت لفلسطين عروسا.
لمّا تعبس المخيّمات ينزاح الغمّ عن بوّابات العواصم وتلوح علامات النّصر باهتة،ولكنّها ثابتة وواثقة. عروس المدائن، حسناء يروم الكلّ مغازلتها،البعض تمهيدا لإمكانيّة رصد مدخل لخيانتها في مشاريع سُمّيت سلاما. فلا تنتصر إلاّ لمن كان منها على من كان دوما عليها. كثر هم الذين بها ادّعوا وصلا. ووسط الزّحام وعسر الفرز واستحالة التّمييز بين من بكى ومن تباكى ما انخدعت ولا أضاعت السّبيل.
03/ تغريدة النّشاز الفلسطينيّ
يوما ما سيخطّ الفلسطينيّون يوميّات ملحمة الوقائع الغريبة في مسيرة التّحرّر الفلسطينيّ وسط ألغام ليل العرب الأليل.سيكون لهم تاريخ مع المفاجآت ومن المفاجآت.سيذهلون من هول مكر التّاريخ. سيكتشفون كم كان جميلا وأنيقا تمزّقهم بين ما كان يبدو وهما وما كان فعلا حلما. سيعلمون أيّ رونق يكون للأحلام المجنّحة لمّا تكون سلاحا يحول دون انتصاب الارتداد والخيانة وجهة نظر. سيدركون أيّ دور للسّخريّة في شعر درويش " لا زلت حيّا،ألف شكر للمصادفة السّعيدة". ستثبت لهم الوقائع أنّ بعضا من الانتصارات هي فعلا أرذل عارا من الهزائم، وأنّ بعضا من الهزائم كان لا بدّ منها لتبيّن تشعّب الثّنايا وتعدّد المسالك.سيكتشفون - ربّما بمحض الصّدفة- كم من بني جلدتهم كانوا أكثر تفانيا من ألدّ أعدائهم في سحلهم والمتاجرة بقضيّتهم في بورصة القيم المنقولة على عربات الخيانة. سيدركون وهم يسترجعون تاريخا ثقيلا من الأحداث كم هو فظيع أن يكون السّوس الذي ينخر من الدّاخل لا يقلّ خطورة عن سوس عدوّهم الخارجيّ من تتار وماغول في آخر طبعة حديثة. سيكتشفون جماليّة الكذب المنمّق وضرورته لمّا تكون الحقيقة مذلّة وصادمة، فلما سُئل ياسر عرفات وهو يُرحّل قسرا في مطلع الثّمانينات عن ومن بيروت آخر العواصم الفلسطينيّة: والآن إلى أين؟؟أجاب بلا تردّد: إلى القدس. كذبة جميلة وواعية، ومكابرة عنيدة تداري قهر اللّحظة وتتبصّر ما يجب أن يُسوّق ممّا يحلم به الفلسطينيّ .
كم يحتاج هؤلاء الفلسطينيّون من جهد لتلافي ما قد يكون على النّشاز المنتظم دخيلا؟؟
كم يلزمهم من الصّبر ليزيلوا ما علق بملاحمهم من أدران؟؟
كم جهدا سيبذلون ليتبيّنوا من كان عليهم حملا ثقيلا ومن كان دوما كابتسامة النّسيم العليل؟؟ هل بإمكانهم ضبط الفواصل بين التّاريخ والتّـأريخ ؟؟
بين حدود ما سيكون رواية وما لا يمكن إلاّ أن يكون سيرة دراميّة؟؟ هل سيكون ثمّة موجب للحياد في كتابة إحدى أكبر ملاحم العصر؟؟
ملحمة أغلب من صنعوها كانوا يدركون بشكل ما قبليّ أنّهم لن يكونوا شهودا إلاّ بغيابهم الفاجعيّ المكثّف الذي تحوّل إلى حضور مرعب مخيف ؟؟
وماذا عن شهدائهم، ولكلّ شهيد في مسيرته نقطة بعينها يستحيل أن تُهمل؟؟
أين سيقيمون لهم قبورا، ولكلّ شبر من أيّة بقعة في أرض الميعاد من القداسة ما يعسر تمثّله ؟؟
وماذا عن أولائك الذين التجؤوا إلى الثورة احتموا بها واحتمت بهم ساعة تخلّى عنها رهط من بنيها؟؟ ما مصيرهم ؟؟
ألا يُفترض قبل الخوض في البحث عن أليق مكان توارى فيه أجسادهم -وقد باتت فلسطينيّة تماما- أن يُُمنحوا ما يجعل منهم فلسطينيّين بالولادة؟؟