|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
الطايع الهراغي
2023 / 2 / 17
"عندما ينعطف التّاريخ يسقط المثّقفون"
(كــارل ماركــس)
"التّاريخ هو المعلّم الحقيقيّ الوحيد"
(روزا لوكسمبورغ)
"لن يكفي جيش من الفلاسفة لتغيير طبيعة الخطإ وجعله حقيقة"
(ابـن رشـد)
استفحال الأزمة وانغلاق دائرتها،انسداد مخارجها بشكل مرعب، مأساويّ ومخيف.ذلك ما يطبع الوضع الكارثيّ المأزوم في تونس منذ ابتلينا بجوائح بشريّة سرطانيّة متماثلة مع اغترابها عن واقع التّونسيّين،مغتربة عن وطن لم تتعامل معه مطلقا على أنّه وطنها،غريبة عن محيطها الدّاخليّ والخارجيّ، يُحسب لها تميّزها في الفشل الملفت في التّأقلم معه بقراءة براغماتيّة للإكراهات ونزوع نفعيّ هو سمة كلّ السّياسات: أزمة حكّام أصرّوا طيلة سنوات تربّعهم على العرش على أن يكونوا خطرا داهما يلاحق البلاد ويتهدّدها وينكّل بها منذ صادرت التّرويكات (وما تناسل عنها من حكومات المسخ المتناسخة) الانتخابات واعتبرتها مبايعة وتعاملت مع المؤسّسات كضيعة سائبة ومع المواطنين كرعايا، فحوّلت الحكم من ضامن للخدمات الدّنيا إلى سوط عذاب، سيف مسلول به ترعب المعارضين وتسكتهم، وتتحكّم في رقاب الموالين، تلوي أعناقهم وتشتري ذممهم ،أزمة بدائل وتعطّل ملكة التّصوّر فرضتها حالة التّصحّر المدروس والمفروض كاختيار،أزمة ثقة هي نتاج طبيعيّ لتواتر حملات الإرباك والتّحامل والشّيطنة التي أريد لها أن تصنع"رأيا عامّا"مشهديّا قطيعيّا منمّطا يرى في الفعل السّياسيّ - وليس فقط الفاعلين السّياسيّين-مروقا وزندقة،حقلا للخيانة ورديفا للعمالة والفساد،وضع عملت جملة من الجهات -أحزابا ومنابر وواجهات إعلاميّة ولوبيّات ماليّة- في إطار عمليّة ثأر قبليّ لـ"كرامة" مهدورة على أيّام المدّ الاحتجاجي المتحرّر من كابوس الحضور المباشر لدولة الاستبداد ولبارونات الفساد، عملت على إنعاشه وإدامته بـ"خارطة طريق"مدروسة بإتقان وهادفة ومقصودة للتّنفير من كلّ ما بشّرت به ثورة 14جانفي وما يذكّر بشعاراتها الواعدة التي تمثّل بالنّسبة إلى المتبرّمين بكلّ تغيير ما يمثّله حبل المشنقة المتدلّي في غرفة المحكوم بالإعدام يذكّره دوما بساعة التّنفيذ،ولتبخيس ما اعتقدنا أنّه حلم جائز،أزمة معارضة (بقطع النّظر عن هويّتها وتموقعها وتورّط جزء منها في تأزيم الأزمة)مجسّدة في لوحة كاريكاتوريّة ومشهد سرياليّ كوميديّ دراميّ وعبثيّ، حيث العصفور النّادر الذي كانه قيس سعيّد لدى طيف واسع من تعبيرات اليمين والبعض ممّن تساقط من لفيف الحقوقجيّة والدّيمقراطيّين ويتامى بعض فصائل اليسار في الانتخابات الرّئاسيّة(2019) بات رمزا للانقلابيّ وناكث العهود بالنّسبة للجهات التي راهنت عليه وعلى بدعة اسمها"النّظافة" في حقل تُعدّ فيه الاعتبارات الأخلاقيّة آخر المعايير. فكان(من مهازل التّاريخ وسخريّته) أن توزّع اليمين الدّاعم لقيس سعيّد في رحلته صوب سقيفة قرطاج بين يمين تتزّعمه حركة النّهضة انتصب ناطقا رسميّا باسم معارضة الانقلاب واستعادة الملك الضّائع والعودة إلى عهد المؤسّسات(مؤسّساتها)، ويمين هو خليط من القومجيّين ويساريّي آخر زمان وديمقراطيّي الوقت الضّائع وجملة من الانكشاريّين من ملتقطي الأوهام من المؤلّفة قلوبهم وبطونهم .
السّياسة في أبسط تعاريفها الخاليّة من أيّة شحنة إيديولوجيّة هي فنّ إدارة الشّأن العامّ .
تونس في جلّ فترات حكم الإثنتي عشرة سنة بعيدة عن السّياسة بما هي فعل في الصّالح العامّ. تفصلها عن معايير وقواعد عالم السّياسة ومتطلّباتها مسافات ضوئيّة. "تونس المريضة حسّا ومعنى" الآن وليس فقط زمن البايات كما وصفها بحّق ابن أبي الضّياف في كتابه إتحاف أهل الزّمان يصحّ وسمها اليوم بالرّجل المريض (اللّقب الذي أطلِق على دولة الباب العالي العثمانيّة لمّا أصابها الوهن فباتت شبحا لتلك الامبراطوريّة التي أرعبت بقيّة الأمم فتجرّأت عليها الدّول الأوروبيّة وطمعت في أقاليمها الممتدّة على ثلاث قارّات) . تونس مريضة بحكّام ما دون الهوّاة يخلطون بين البلاغة الركيكة وما تمليه الإكراهات ،مريضة بإعلام مجاري جعل من الإثارة الرّخيصة صناعة تستهدف الشّأن السّياسيّ والمجال الفكريّ والثّقافيّ وتحوّله إلى مرتع للتّندّر ومنبر تطاول على هامات فكريّة همّشتها دولة بن علي والطرابلسيّة ولكنّها لم تتجرّأ عليها كما يفعل اليوم خدم السّادة الجدد،إعلام يعادي أبسط حِرفيّة حتّى في بعدها التّقني البحت،ابتليت بنخب الدّفاع عن جلدها والانتصار لهيبتها آخر اهتماماتها، والاتّكاء على إرثها وإرث نظيراتها –كصمّام أمان- غائب ومغيّب تماما. فما بالك بالدّفاع عن مجتمعها. الفعل السّياسيّ انحدر إلى مستوى العجز عن تحجيم المهالك وليس دفعها .أمّا مجرّد التّفكير في ما يسمّيه الأسلاف جلب المنافع فقد بات مطمحا يمكن- من باب التّمنّي- أن يُطلب وسيظلّ من المستحيل في ظل الحكّام الحاليّين أن يُدرك.
إذا أردنا أن نختزل تمثّل ترهّل الفعل السّياسيّ(والخطاب السّياسيّ) في تونس وعجائبيّته فليس ثمّة أبلغ من المفارقة التّاليّة: ينصّ دستور قيس سعيّد(وليس غيره) في فصله الأوّل وكذلك دستور 2014،مع تأكيد مهمّ"لا يجوز تعديل هذا الفصل"ودستور1959 تحت عنوان المادّة1 على أنّ"تونـس دولــة حــرّة ذات سيـادة" مع تنصيص دستور2014 على "أنّه لا يجوز تحوير هذا الفصل" ومع ذلك يسمح سعيّد نفسه بنسف ما ثبّته في دستوره الطّغرانيّ باعتداء صارخ على المفاهيم والثّوابت بما يدعو للرّيبة ويسمح بعديد التّأويلات الوجيهة والمشروعة ويثير كوما من المخاوف من لغة الاحتراب التي تحفل بها خطاباته الانفعاليّة تصريحا لا تلميحا وباستفزاز أرعن مقصود كردّ فعل على نتائج محطّة انتخابيّة،ردّ فعل لا يليق -حتّى من باب مقتضيات البروتوكول- بجهة رسمية"نحن نخوض اليوم معركة تحرير وطنيّ"(وليس تحرّر وطنيّ)[ خطاب قيس سعيّد في ثكنة العوينة بتاريخ 31 جانفي بعد مفاجأة الدّور الثّاني من الانتخابات التّشريعيّة]. فتونس اليوم حتّى في قاموس التّحاليل القصوويّة ليست مستعمرة حتّى تعمد مؤسّسة رسميّة(الرّئاسة)إلى إحياء سرديّة مضى عليها أكثر من نصف قرن ،والتّونسيّون أيّا كانت اختلافاتهم وتبايناتهم لا هم مستعمَرون ولا هم أجانب.
01/ شناعات حكم التّرويكات
لن يكون المتابعون والمؤرّخون لاحقا في حاجة لجرد شنيع الفظائع التي ارتكبتها المنظومات الحاكمة - التي تنسب نفسها ونُسبت خطأ إلى الثورة- في حقّ التّونسيّين وفي حقّ نفسها أيضا. .فالمأزق الذي تردّت فيه البلاد على جميع الأصعدة مجتمعة ومنفردة هو من الفظاعة بما يفقأ العيون وينهض دليلا دامغا على بؤس الاختيارات(إن وُجدت)والسّياسات المتّبعة منذ 2011 وافتقارها لأيّ تصوّر مهما كانت بدائيّته.يكفي الاستدلال على الجوائح التي داهمت تونس وشعبها وأصباتهما في المقتل بمثال واحد فقط يرشح بالدّلالات ويغني عن غيره من الأدلّة :التّوأم الجنيس الذي تقيّأته منظومة الحكم من صلبها مجسّدا في استفراد جزء من الطّاقم الحاكم بالسّلطة وأجهزة الدّولة واستئثاره بمصادرة كلّ المؤسّسات وتعطيلها. بديل فرّخته مرحلة ما بعد انتخابات 2019 من صلب المنظومة الحاكمة في ما بات يعرف بمنظومة ما قبل 25جويلية.
لم تكن مؤسسات الحكم التّشريعيّة والتّنفيذيّة وحتّى الإداريّة(بما فيها المنظومة التي تصدّرت المشهد الرّسميّ في عهد الرئاسة المزدوجة لرئيس الصّدفة قيس سعيّد ورئيس النّهضة في البرلمان آية الله الغنّوشي) رحيمة بنفسها وبمصلحتها حتّى تكون رحيمة بغيرها.فقد حوّلت الحكم إلى تحكّم ولعنة وعقاب.وخلقت وضعا بات فيه الاحتكام إلى المؤسّسات رحلة مكابدة حتّى في حده الأدنى كمجرّد تسيير لدواليب الدّولة على شاكلة حكومات تصريف الأعمال . ما الحلّ؟؟ أمران لا ثالث لها. إمّا حلّ من خارج المنظومة.وهو ما استحال ولم يُطرح أصلا كاحتمال - وليس كرهان- فقد حالت دونه عوامل موضوعيّة وذاتيّة، وإمّا انقلاب مكوّن من مكوّنات الحكم على شركائه من الضّرائر. وهو ما كان بمناسبة عيد
الجمهوريّة. 25جويليّة 2021 هو انتفاضة النّظام على نفسه بالاستنجاد ببيروقراطيّة الدّولة لحسم توزّع مراكز النّفوذ والقرار. في هذا الإطار تحديدا يكتسي شعار"قولوا نعم حتّى لا يصيب الدّولة هرم" كل ّ أبعاده ودلالاته وإحالاته.
02/ في محنة البحث عن بدائل
الأمر الواقع الذي فرض نفسه وجسّده قيس سعيّد تحوّل من إمكانيّة إنقاذ إلى عامل من عوامل تعميق الأزمة.أزمة تكشفها طبيعة تعامل الفاعلين السّياسيّين والاجتماعيّين مع إفرازات عهد "الجمهوريّة الجديدة".كثرة المبادرات وتنوّعها وتباينها تجسيد مباشر لحالة التّخبّط التي وضع فيها الرّئيس البلاد:
***جبهة النّصرة ،جماعة "لينتصر الشّعب" لا ترى مخرجا غير الانخراط الكلّي في المبايعة واعتبار25جويلية لحظة وعي – إن لم تكن لحظة ثوريّة واستعادة لبريق ثورة 17ديسمبر المجهضة بانقلاب 14جانفي-أتاحت الفرصة للقطع مع "منظومة الخراب"ل"العشريّة السّوداء"."لا عودة إلى الوراء" تحتّم الذّوبان في مشروع الإنقاذ، احتضانه ودفعه إلى أقصاه عساه ينجح في دفع الرّئيس إلى توظيف أجهزة الدّولة في المحاسبة والانتقام من فيلق "العهد البائد" (منظومة 24جويلية). أمّا سقف مسعاها فلا يتجاوز الحلم بإقناع الرّئيس (والأقرب اقتناع الرّئيس) بجدوى تشريك مساندي حراك 25جويلية لإكسابه بعض المشروعيّة. الارتماء اللاّمشروط والاعتقاد في الحلول الفوقيّة القائمة على الإكراه وضع الأنصار أحزابا ومفسّرين وشرّاحا وأبواق دعاية في مرتبة ما دون وعّاظ السّلاطين وأقلّ من دور المعارضة الدّيكور على أيّام بن علي .مهمّتهم تجميل تمشّ وسياسات لا يرى الرّئيس موجبا لتجميلها. أفظع عاهة لمكوّنات هذه "الجبهة" تجاهلها للبنية الذّهنيّة التي تؤطّر تفكير سعيّد: منقذ أعلى ذو رسالة محكوم عليه تبليغها وتنفيذها وشعب في خدمة المنقذ وليس فقط في حاجة إليه.أمّا الوسائط (نخب/ أحزاب / جمعيات/ أطراف اجتماعيّة...)فأجسام غريبة من موروث بائد لا يصلح إلاّ للتّهميش إن لم يكن للتّسريح،خطيئتها أنّه تشوّه علاقة الصّفاء بين الشّعب ككتلة هلاميّة وملهمه الذي يحتاج جنودا للتّنفيذ وليس ذوات للتّفاعل و عقولا التّفكير والتّدبير.
*** في الضّفّة المقابلة تنتصب جبهة الخلاص،جبهة الإسلام السّياسيّ ودعائمه، المحكومة بعقليّة ثأريّة، عقليّة لا تاريخيّة ارتداديّة تحاسب جحيم الحاضر- وهو نتاج سياساتها- بجنّة الماضي (على افتراض أنّها حاصل):استرجاع الملك الضّائع والمجد التّليد.سرديّتها تقوم على مجابهة الانقلاب بـ"مآثر" العشريّة: النّعيم الدّيمقراطيّ ومناخ الحرّيّات والاحتكام إلى المؤسّسات. عاهتها الإنكار والمكابرة وتجاهل أكبر جريمة سياسيّة اقترفتها التّرويكات بقيادة حركة النّهضة:التّدمير الاجتماعيّ المعمّم الذي شرّع لتفريخ مخرج أعرج، هو انقلاب قيس سعيّد على شركائه في الحكم.
***مبادرة اتّحاد الشّغل تعود أهمّيتها إلى جملة من العوامل :
-- كونها صادرة عن منظّمة نقابيّة لعبت دورا رياديّا في الحوار الوطنيّ أيّام رئاسة المرزوقيّ وفي ظرفيّة شديدة الحساسيّة
-- يصعب حشرها في خانة أطراف الأزمة التي عصفت بالبلاد لأكثر من اثنتي عشرة سنة
-- تربط الحوار الوطنيّ المراد إنجازه بملفّات اجتماعيّة واقتصاديّة وليس فقط سياسيّة.
– توكل مهمّة الإشراف على الحوار لرئيس الدّولة رغم مآخد الاتّحاد على سياسات الرّئيس في ما يمكن وسمه بسياسة الهروب إلى الأمام.
بقطع النّظر عن الموقف من المبادرة فلا مناص من التّنصيص على عوائق تحول دون نجاحها:
أوّلها أنّ الحوار الوطنّي السّابق حكمته ملابسات تختلف نوعيّا عمّا هو مطروح حاليّا.
وثانيها منسوب التّوتّر التي يطبع علاقة الاتّحاد بالرّئاسة والحكومة
وثالثها استحالة تطارح ما هو سياسيّ مادام الرّئيس قد تورّط موضوعيّا في مرحلة اللاّعودة بعد إنجاز الدّور الثّاني للانتخابات التّشريعيّة .
ورابعها التّباين الكلّي بين المقاربة النّقابيّة لإدارة الشّأن العامّ للبلاد وتصوّر الرّئيس لأحاديّة الحكم التي ترفض كلّ تشاركيّة .
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |