رؤية بعد الستين .. عن أسباب سقوط قاسم

عبدالله عطية شناوة
2023 / 2 / 8

يستعيد العراقيون المهتمون بالشأن السياسي والتأريخ السياسي هذه الأيام ذكرى مرور 60 عاما على الأنقلاب الدموي الذي أوصل البعثيين الى السلطة وقتل فيه رئيس الوزراء العراقي حينها عبدالكريم قاسم، وحولت فيه السجون والمعتقلات وأحد القصور الملكية وحتى النوادي الرياضية الى مسالخ بشرية، عذب وأغتصب وقتل فيها أعداد لا تحصى ممن أعتبرهم البعثيون أعداء يجب إجتثاثهم.

استسلام قاسم للإنقلابيين وقتله ورفاقه على أيديهم بطريقة جبانة، حوله لدى قطاع كبير من العراقيين، الى أيقونة يسبغون عليها صفات وخصالاً شخصية كان للأسف يفتقر الى الكثير منها. وخلق هذا الإنحياز العاطفي لدى تلك الأوساط ميلاً لترتيش صورته، بما يعتم على حقيقتة كعسكري، أهتم أولا وأخيرا بتثبيت حكمه، واستخدم في ذلك اللين والشدة، المناورات والعنف، وإرتكاب الجرائم أو تسهيل ارتكابها. كل ذلك من أجل خلق توازن يبقيه في الحكم.

حين حطم قاسم ورفاقه من الضباط دعائم الحكم الملكي الموالي للغرب، وتسلم الحكم في الـ 14 من تموز ـ يوليو، انطلقت التيارات العراقية التي كانت متوافقة في ما بينها في معارضة الملكية، كل لتحقيق أهدافه. أبرز تلك التيارات كان التيار القومي، الذي كان يستمد أهميته ليس فقط من الفصائل القومية العربية، مثل حزب البعث، وحزب الأستقلال الذي كان في طور التحلل والاندثار، وحركة القوميين العرب الناشئة، بل أساسا وقبل ذلك وبعده، من الوزن الذي كان يمتلكه ذلك التيار في الجيش من خلال الأعداد الكبيرة من الضباط بمختلف المستويات ممن كانوا على صلة تتباين في درجات وثوقها مع فصائلة. وقد تلاحمت تلك الفصائل على هدف واحد هو الإلتحام بالعروبة ورمزها آنذاك الرئيس المصري جمال عبد الناصر، عبر دمج العراق بالجمهورية العربية المتحدة، التي كانت تضم حينها مصر وسوريا.

التيار الأكبر من حيث الجماهيرية كان هو التيار اليساري ودعامته الأساسية الحزب الشيوعي الذي كان يضع في صدارة أهدافه إعادة توزيع الثروة الاجتماعية لصالح الكادحين، من خلال ضرب الأقطاع كطبقة كانت تشكل أحدى دعائم النظام الملكي البائد، عبر أصلاح زراعي يقلص ملكيات الأقطاعيين الكبيرة من الأرض، ويمنحها للفلاحين، تحسين طروف العمال والعمل، ورفع مكانة المرأة في المجتمع. وحققت له تلك الأهداف شعبية كبيرة، تجلت في المسيرة العملاقة التي نظمها في الأول من أيار ـ مايو عيد العمال العالمي عام 1959، والتي هتفت فيها الجموع بشعار:
((عاش الزعيم عبدالكريم .... الحزب الشيوعي في الحكم مطلب عظيم)).

التيار الثالث، والذي نطلق عليه مجازا تسمية تيار، لأنه لم يكن مؤطرا سياسيا بأحزاب أو تنظيمات سياسية، بل هو تكتل كبير معارض يلتف حول المؤسسة الدينية الشيعية، حوزة النجف التي كان يقف على رأسها آية الله محسن الطباطبائي الحكيم، ووكلائه في الريف العربي الشيعي، الموالون لشيوخ العشائر الأقطاعييين، الذين انتابهم القلق من إنهيار النظام الملكي الذي كان الأقطاعيون أحد أعمدته الهامة. ولهذا فان بقايا النخبة الملكية المقتلعة للتو من الحكم، كانت الأقرب الى هذا التيار.

إلى جانب هذه التيارات الرئيسية الثلاث كان هناك الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة الملا مصطفى البارزاني، الذي كان يتمركز في أهدافه على الحقوق القومية للشعب الكردي، ورغم طغيان شخصية الملا إلا أن قيادات الحزب الديمقراطي الكردستاني كان بينها من يحمل توجهات يسارية، تقربه من الحزب الشيوعي، وتوجهات دينية وإقطاعية، كان تسؤوها هي الأخرى مساعي الحد من هيمنة الأقطاع التي يمثلها اليسار.

وكان هناك أيضا الحزب الوطني الديمقراطي، بزعامة الشخصية الوطنية المحترمة كامل الجادرجي، ونائبه الصناعي الأقرب الى اليمين محمد حديد، الذي عينه قاسم وزيرا للمالية. غير أن الوزن الكبير الذي منحه قاسم للحزب المذكور، لم يكن يتناسب مع وزنه الجماهيري، فبالإضافة الى نخبوية قياداته التي لا تتلائم مع الغليان الثوري الذي أحدثه تحول الرابع عشر من تموز، الذي تلمع عادة فيه قيادات شعبوية، كان نهج الأعتدال الذي اعتمده الحزب، ومسحة الليبرالية غير المفهومة من الشرائح المكونة للشعب العراقي، عوامل غير ملائمة في كسب الجماهير.

الحزب الوطني الديمقراطي كان أقل التيارات والفصائل خطرا على قاسم، فهو لا يمتلك أمتدادات عسكرية كما التيار القومي، ولا نفوذا جماهيرا كما التيار اليساري، ولا تأثير له يذكر على الريف العراقي كما (( تيار حوزة النجف )). إلى ذلك لم يكن يمثل خطرا كالذي تمثله التطلعات القومية للحزب الديمقراطي الكردستاني. لهذا وجدت طموحات قاسم للأنفراد بالحكم ضالتها في الحزب الوطني الديمقراطي، فمنحه في وقت ما ستة مقاعد وزارية في حكومته.

وبقيت مشكلة قاسم في كون الحزب المفضل لديه للعوامل التي أشير إليها، غير قادر على توفير ما يكفي له من الدعم في وجه الرياح العاتية التي أثارها تصارع التيارين القومي واليساري. فكان لا بد له من أن يستثمر التناقضات باللعب على التوازنات. وهو لعب خطير، لم يتح له ممارسته لأكثر من أربعة أعوام ونصف العام.

ويلخص الباحث المدقق والأمين منهجيا حنا بطاطو في الحزء الثالث من بحثه القيم ((العراق)) معضلة قاسم على النحو التالي:

(( لم يكن قاسم يقف فوق صراعات الأطراف، وخصوصا من بينها القوتان الرئيسيتان ـ القوميون والشيوعيون ـ ولا هو حاول التوسط بينهما، بل على العكس من ذلك فأنه لم يفعل إلا أن يسد، بإبقائهم منقسمين، ويلعب أحدهم ضد الآخر، وإبقائهم على خلافاتهم المتبادلة، وبغض كل طرف للآخر، ولم يكن باستطاعته أن يفعل غير ذلك، فمن ناحية، لم يكن الحزب الوطني الديمقراطي، نقطة إستناده الطبيعية يملك قاعدة سياسية كافيه. ومن ناحية أخرى، وهذا هو السبب الحاسم، لم يكن قاسم يسيطر على خلفية صلبة بين ضباط الجيش)) ويضيف بطاطو:

(( ومن نقطة الضعف هذه نبعت حاجة قاسم الى المناورة بين القوميين والشيوعيين واضعا أحد الطرفين ضد الآخر، منهكا إياه أو متبنيا له، حسب ما تفرضه الظروف. وكان استمرار وجوده نفسه يعتمد على عدم سماحه لأي من القوتين بأن تصبح شديدة القوة، أو السماح للقوتين بالإتفاق في ما بينهما)).

الإقتباس من الصفحتين 156 ـ 158 من الحزء الثالث من كتاب حنا بطاطو ((العراق)) المعنون الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار.

كان قاسم يسعى الى الأنفراد بالحكم، ولهذا رفض الأنحياز لأي من التيارين الكبيرين آنداك، لأن ثمن الانحيار لأي منهما يحمل معه فقدان التفرد في الحكم، فالأنحيار للقوميين ثمنه تسليم الحكم لعبدالناصر من خلال دمج العراق بدولة الوحدة، والأنحياز لليسار ثمنه مشاركة الشيوعيين في الحكم، ومثلت مسيرة الأحتفال في الأول من أيار ـ مايو التي قادها الحزب الشيوعي، ورفعت شعار مشاركة الحزب بالحكم، جرس إنذار لقاسم. فقرر كما أشار بطاطو أن يمضي في لعبة ضرب التيارات ببعضها، ليضمن تفرده بالحكم.

ومن أجل تقييم حقيقي لقاسم وفترة حكمه، لابد من الإطلاع على ثلاث مصادر مهمة:

الكتاب الثالث من الدراسة الموسوعية الهامة للباحث الفلسطيني حنا بطاطو، والمعنون: (( البعيثون الشيوعيون والضباط الأحرار)).
كتاب المؤلف العراقي جرجيس فتح الله (( خواطر وآراء )).
وكذلك الجزء الثاني من كتاب ثمينة ناجي يوسف ونزار خالد ..(( سلام عادل ، سيرة مناضل )).

دون الأطلاع على هذه المصادر المدعمة بالوثائق، والتي تعتمد التحليل الوثائقي، تظل أحكامنا عن قاسم وفترة حكمة تستند الى مسلمات غير مدققة، أساسها العواطف.

.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي