كتاب -الشرق الفنان-: خواطر بشأن التمايزات الثقافية بين الشرق والغرب

صلاح الدين ياسين
2023 / 1 / 29

كتاب من تأليف زكي نجيب محمود (1905-1993)، الفيلسوف المصري، والذي يُعد من صفوة رموز الفكر العربي في القرن العشرين، صدر العمل في طبعته الأصلية سنة 1960، لتعيد مؤسسة هنداوي نشر الكتاب في طبعة جديدة في العام 2018. يعالج هذا المؤلف مسألة هامة ذات صلة بما بين ثقافة الشرق وثقافة الغرب من فروق وتمايزات، إذ لطالما سادت أطروحة فكرية ذائعة الصيت، مؤداها أن الشرق هو موطن الروحانية، فيما الغرب معروف بمنزعه المادي الصرف. وعليه انبرى الكاتب المصري لبيان موقفه من المسألة بأسلوب ماتع وجذاب، خال من الجفاء اللغوي الذي يثير النفور لدى القارئ.
وهكذا انصرف المؤلف في نتاجه الفكري هذا إلى تظهير الفروق القائمة بين ثقافة الشرق الأقصى تحديدًا (الصين، الهند...) ونظيرتها في الغرب. فالأولى تنم عن نظرة جوانية مباشرة للوجود، لصيقة الصلة بما يمور في النفس من مشاعر واختلاجات، وتلك هي نظرة الشاعر والفنان والمتصوف، ذلك أن نظرة الشرقي تصدر، في المقام الأول، عن القلب والعاطفة والوجدان. أما النظرة الغربية إلى الموجودات والظواهر الطبيعية فهي تنزع إلى الفصل بين الذات الدارسة والظاهرة المدروسة من طريق تحييد المشاعر والانطباعات الذاتية، منتصرةً بذلك للعقل المنطقي بغية البحث بشكل موضوعي في العوامل المفسرة لتلك الظواهر، واستخلاص النتائج والقوانين الناظمة لها، ومن ثم فإن الثقافة الغربية تستنهض عقل المرء، لا وجدانه وعاطفته.
وتأسيسًا على ما سبق، يبسُط الكاتب جملة من الشواهد الدالة على الأطروحة التي يذود عنها، كمقارنته بين فن التصوير المصري القديم، الذي يجسم كيفية تلقي الإحساس والوجدان للطبيعة الخارجية، من جهة، وفن التصوير الغربي القائم في مجمله على تصوير الواقع بمحاكاته كما هو، دون اعتبار لتفاعله مع الأحاسيس والانطباعات الذاتية للفنان، من جهة ثانية. هذا وصولا إلى عرض التمايزات الموجودة بين لغات الغرب، الموسومة بالدقة العلمية والجفاء والمباشَرة، ولغات الشرق المفعمة بالذائقة الجمالية والشعرية، ناهيك بروعة الأسلوب وسلاسته.
على أن النظرة الشرقية تمتاز بكونها تنفُذ إلى بواطن الأشياء ودواخلها، ولا تعبأ بظواهر الأمور، متوسلةً بحدسها وبصيرتها النافذة. أما نظرة الغربي، بحكم منزعها العقلاني، فهي تجنح إلى تحليل الظواهر المرئية كما تتبدى للعين المجردة، ما دام أن الحقائق الباطنية تقع خارج نطاق العقل النظري المحض. ويترتب على ما سبق خلاصة جوهرية في تقدير الكاتب، فلئن كان العقل الغربي يميل إلى تحليل وتفكيك الظواهر المدروسة، في مسعى منه لاستنباط القوانين العلمية الشارطة لها، وفاءً للمنهجية العلمية، فإن نظرة الشرقي لا تحفل بتلك الظواهر على كثرتها وتعددها، لأنها تدرك بحدسها وبصيرتها أن ذلك التعدد لا يعني قطعًا التناقض والتضاد، بمقدار ما تنبع الموجودات كلها من جوهر واحد يجسد الحقيقة الخالدة والأزلية، وهذا هو جوهر عقيدة الوحدانية التي تتعالى عن الاختلافات الجزئية والسطحية.
ومن جهة أخرى، يشير الكاتب في طرحه إلى أن الشرق الأوسط قد جمع بين النقيضين (= ثقافة الشرق الأقصى وثقافة الغرب على السواء)، ففيه امتزج الدين والإيمان بالعلم والعقل والصناعة، إذ انصرف صاحبنا إلى عرض شواهد تاريخية لتعضيد رأيه مركزًا بالأساس على الحضارة المصرية، ولا سيما الحقبة الهلينستية التي جسمت امتزاج الفلسفة العقلية لليونان بالتراث الديني والروحي للشرق. كما ضرب المؤلف مثلًا على ذلك التجاور الخلاق بحضور النزعة العقلانية ممثلة في المعتزلة والفلاسفة المسلمين، الذين قدموا العقل على النقل في النظر إلى المسائل التي طرقوها، بالتوازي مع حضور التيار الروحي مثلما تَجَسد في المتصوفة، الذين ذهبوا إلى أن لا مندوحة من القلب والوجدان لملامسة الحقيقة الإلهية والتماهي معها.
وفي الختام، يشدد الكاتب على أن النزعتين كلتيهما لا تخلو منهما أي أمة أو حضارة، وبالأحرى كل فرد، وإنْ تباينات معدلات ومَدَيات ذلك الحضور. ولعل المسلك الأقوم والنهج الأصوب، مثلما يرى الكاتب بحق، هو إرساء قدر من التوازن بين النظرتين المومأ إليهما سالفًا، فلا مناص من العقل النظري والاستضاءة بنبراس العلم لتحقيق التقدم والرفاه للإنسانية وكسب رهان الحداثة، كما لا مهرب من تلبية حاجات الروح والشعور والوجدان لحفظ التوازن الكياني للإنسان، ومن ثم تلافي الانسياق وراء الوضعانية العلمية الجامحة، التي تنزع إلى تشييئ الإنسان وتجريد الطبيعة من أي قيمة أخلاقية.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي