|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
عزالدين معزة
2023 / 1 / 24
لا شك أن الناس في سني أي الذين ولدوا في بداية الثورة التحريرية المباركة يتذكرون حياتنا الاجتماعية في زمن ليل لاستعمار وعذاباته التي لا نهاية لها ، يتذكرون القمل وبيض القمل ( الصيبان) في رؤوسهم ، الأرجل الحافية تتعثر في الوحل واكثرهم حظا من يظفر بـ صندالة مصنوعة من عجلات السيارات المستهلكة واشرطة من الجلد ، يتذكر تلك الملابس التي تتكون من قطعة واحدة تدعى البلوزة ، يتذكر الجوع ومحدودية الطعام الذي لا يتعدى الكسكسي بالبقول البرية او اللفت ونادرا ما تضاف اليه الحمص والفول ليلا والكسرة باللبن او بدونه في النهار طول العام ، تلك المساكن " الأكواخ " المبنية بالطوب الطيني والمغطاة بالديس وعند شبه الميسورين بالقرميد ، لا تحمينا لا من برد الشتاء ولا من حر الصيف ، وتحيط بها احراش من الضرو والريحان وبعض شجيرات الكاليتوس، منازل بسيطة لا يزيد طولها عن الأرض سوى بمترين أو يزيد قليلا ، لا تكاد تراها بين الأحراش و " الهندي " التين الشوكي او التين البربري ، والكثير من تلك الأكواخ كان سكان الريف يتقاسمه مع قطيعه من بقر وماعز وغنم بينما الدواب كانت تترك تحت رحمة الطبيعة ، الينابيع البطيئة التدفق التي يجلب منها الماء من مسافات بعيدة ، الأمراض والجهل ، الفقر المعمم والحرمان في العزبات والارياف والمشاتي وحتى في تخوم الحواضر ، غياب المراحيض وقاعة الحمام والانارة وجميع اشكال الحضارة والرفاه ، حياة كانت أدنى من حيث الرفاه عند بعض الحيوانات الاليفة حتى في ذلك الزمن .
قلة قليلة فقط من الجزائريين كانوا يلبسون السراويل" بودليوة " او السروال عرب كما كان يسميه المستوطنون، او الزي التقليدي تحت القشابية أو البلوزة التي تشبه القميص في ايامنا هذه ودون ملابس داخلية التي كانت تقتصر على فئة قليلة جدا من الجزائريين الى وقت غير بعيد عن 1962.
مع توفر وسائل التدفئة والمنازل المريحة والالبسة الشتوية والاغطية والافرشة ووسائل النقل أصبح الطقس البارد المثلج ممتع ومبهج، ايام زمان كان الطقس أكثر برودة... وكنا نعاني في فصل الشتاء كلما هطل الثلج وانخفضت درجات الحرارة منازلنا الطينية خالية من وسائل التدفئة. ،كانت البستنا بالية ومثلها احذيتنا التي يتسرب اليها الماء لا تقينا من قرّ الشتاء وصقيعه، ولا نمتلك من الافرشة إلا قطع بالية نرتعد تحتها،، كنا نجتمع حول موقد تقليدي نتدفأ حول ناره ، وكانت اعيننا تسيل بالدمع من جراء الدخان المنبعث منه ،وحكايات الوالدة عن الغول والعفاريت حتى يأتي موعد نومنا ، اما وسائل تنقلنا للمسافات البعيدة كانت الدواب...في ايامنا هذه الحمد لله توفرت لنا وسائل التدفئة ووسائل النقل والالبسة الجيدة لكنني ما زلت أشعر ببرودة تلك الأيام وما اكثر أمثالي من بني جيلي الذين عاشوا تلك الظروف وتلك الأيام القاسية، التي علمتنا الصبر وان نحمد الله على نعمه. وان نشعر بالفقير والمحتاح واليتامى والارامل ... نعم تغيرت احوالنا إلى الأفضل لكن في عصرنا هذا هناك الكثيرون ممّن يعانون من الفقر والجوع والبرد لأسباب عدة، نزاعات،، حروب...وحروب أهلية،، لجوء.. مآسي الانسان لا تتوقف .. والاقسى من الطبيعة. قسوة الانسان على أخيه الانسان .! في ليلة باردة من الليالي السابقة شدت انتباهي سيدة أفريقيا لاجئة هي وابنتها الصغيرة كانتا ترتعدن من البرد عند باب المسجد... كان الله في عون كل الضعفاء.
تحول الكثير من هؤلاء بعد الاستقلال بسنوات الى معمرين جدد بأسماء عربية بعد نيل قدر يسير من التعليم، أعادوا انتاج ما كان يقوم به الكولون قبل 1962 بصورة أو بأخرى وهناك منهم من أعاب على الناس تصويتهم لصالح الاستقلال. بل ومنهم من لعن الاستقلال، اسمع أحيانا بعض شبابنا يقولون لي لو بقيت فرنسا لكان حالنا أحسن مما نحن فيه الآن، يا له من فكر بعيد كل البعد عما عشناه وعانينا منه. لم اعرف استعمارا أكثر توحشا من الاستعمار الفرنسي لنا...
و كما نرى اليوم الذين يريدون مسح ما تم انجازه منذ 1962 رغم النقائص الكبيرة من اجل إهانة ذاكرة من لا يوجدون بيننا اليوم من شهداء ومجاهدين حقيقيين كانوا يؤمنون بالجزائر والذين بفضل الاحياء منهم الى وقت مضى، تم تشييد المدارس والجامعات والمراكز الصحية والوحدات الانتاجية وشق الطرق في الجهات الاربعة للبلاد بنسب متفاوتة ومد السكان بالماء والكهرباء وتعويض آبار المراحيض البدائية بشبكات الصرف الصحي واحلال الحمام العصري محل التقليدي الخ ، فمن ينكر المجهودات التي قامت بها الدولة الجزائرية طيلة ستين سنة من الاستقلال إلا جاحد ..
لقد كانوا يحلمون بإنتاج الجزائر جميع ما تحتاجه بعد تكوين اساتذة ومهندسين وتقنيين في جميع المجالات
بيد أن حلمهم سرعان ما تبخر بإعادة النظر في كل تلك المنجزات الجبارة التي جعلت من الجزائر في تلك الأثناء والى غاية حدوث الردة منارة العالم الثالث، بلد يكرس 40 بالمائة من عائداته للتنمية.
فلم يكن المجاهدون الحقيقيون على قلتهم يتصورون أن تتحول الجزائر ذات يوم بعد أن كانت سلة الغذاء لأوروبا الى مفرغة لمنتجات الغرب الفلاحية وتعيش تبعية غذائية مقيتة يذكرنا سادتها القدامى والجدد بشكل متواتر باستيراد ملايين الاطنان من القمح من بلدان لا تشرق بها الشمس سوى بضعة اسابيع في السنة، بينما ملايين الهكتارات تعاني من الراحة منذ عقود بفضل سياسات عرجاء، مما جعل الفقر وامراض الفقر ينتشران على نطاق واسع بما يفوق عدد السكان عند الاستقلال .. انها العبقرية المستمدة من تفكير السيد القديم.
فالذي يتأمل الان ما تنتجه ولايات الجنوب من خيرات بقدر قليل من الامكانيات المادية يكفر بالخطاب والسادة الجدد الذين يستحي الكولون من تصرفاتهم.
فما نراه من خيرات وفيرة تتعرض للتلف بفعل غياب شبكات التبريد والتخزين والنقل السريع وعراقيل اخرى مثل تنظيم الاسعار، اذ لا يعقل ان يأخذ التاجر هامش ربح يفوق كلفة الا نتاج عدة مرات مما يعتبر بمثابة دعوة صريحة للفلاحين في الجنوب للتوقف عن الانتاج وتأبيد التبعية ويعري بقية الشعارات الكاذبة ..
فالذين كانوا يتحاملون على الثورة الزراعية هم الذين افشلوها وجعلوا المزارع النموذجية الموروثة عن الكولون تبقى بدون استغلال حقيقي الى.. وهم من فتحوا الجزائر امام الاستيراد بعد ان ادخلوها في غيبوبة اقتصادية وبيع الشركات المنتجة بالدينار الرمزي وحولوها الى ثالث مستورد للقمح بعد الهند والصين ذات مرة بينما يمكن للجزائر الاستغناء عن حبوب اوكرانيا وقمح روسيا وكندا وفرنسا ، فهل تتذكرون الاف الاطنان من القمح عرضة للتلف بسبب غياب عنابر وصوامع التخزين في الجهات المنتجة للحبوب ، كما هو الشأن حاليا مع نقص هذه التجهيزات الى جانب الصناعة التحويلية وشبكات التبريد والتخزين واساطيل النقل السريع الخ وشركات لإنتاج البيوت البلاستيكية العملاقة بما فيها الفلم البلاستيكي المستورد في بلد البترول ..
لسنا في الطريق الصحيح بخصوص الفلاحة والسكن والتعليم والصحة واستمرار اعادة انتاج نفس المساعي التي افضت الى الواقع المقلوب الذي نعيشه والذي يغطي عليه اعلام المعلف العمومي وصحافة كل شيء على ما يرام، لندرك بعد حين اننا كنا شهود زور على هتك عرض الجزائر بمحض ارادتنا .
هناك ملفات ثقيلة يجري التعامل معها بسطحية تامة مثل ملف البطالة الذي يعالج بمسكنات مؤقتة، فهناك ملايين الجزائريين ولدوا وسيموتون دون أن يتمكنوا من العمل والسكن وبناء اسرة اذا ما استمر التعامل معهم بهذه المقاربات بلا غذ وبخطاب بلا ملح حول تصنيع واستيراد السيارات هذا الحلم الذي لم يراودهم اطلاقا ..
فالذين نسوا تاريخهم الشخصي لا يصنعون التاريخ بل يرثونه عن اسيادهم، لأن حياة الفقر والذل والجهل التي عاشوها لا تزال تسكن عقلهم الباطني ولا يستطيعون مغادرتها.
أنَّ الجزائر لا ينقصها شيئا – جغرافيا وماديا وبشريا – ولكنها، مع ذلك، غارقة منذ أكثر من ستين سنة في الاستهلاك – في أشكاله الدنيا -ولم تنجح في تخطي عوائق وموانع الفشل والشلل أمام تحديات الحداثة والعالم المعاصر الذي تصنعه الرؤى الخلاقة، أزمة الأنظمة السياسية وحدود الثقافة التي لم تتخلص، إلى اليوم، من هوس الإقامة في بيت الماضي.
أزمتنا تقتصر أسبابها على "غياب مسألتين رئيسيتين: غياب الديمقراطية وما يسمى "أزمة الحكم الرشيد، بل هي تعبر عن مشكلات عميقة في علاقة السلطة مع جميع فئات المجتمع، والمسؤولية ليست محصورة في السلطة وحدها بل إن جميع قوى المجتمع تتحمل المسؤولية"، وهذا ما يحتاج إلى البحث والدراسة العميقين.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |