المصطبة المصرية ومتلازمة الغطرسة!

ياسين المصري
2023 / 1 / 15

المصطبة ، جمعها : مَصَاطِب ومَصْطَبَات، وهي عبارة عن مقعد ثابت كبير على شكل قالب مبني من طمي النيل وقتما كان للنيل طمي، وكان يبنيها الفلاحون المصريون أمام منازلهم في أماكن مميزة لاستقبال الضيوف والجلوس عليها أثناء تجمع أفراد الأسرة والعائلة فى ليالي السمر الدافئة. ولذلك ارتبطت إلى حد بعيد بالتراث الثقافي في مصر. وبعد اختراع قوالب الطوب اللبن المصنوع من خليط الطمي والقش، تم الاستعانة بها في بناء المصطبة، ثم استخدم بعد ذلك الطوب الأحمر المحروق والأسمنت كما استخدمت أنواع مختلفة من الحجارة في بنائها. وتطورت صناعتها بمرور الزمن وتحولت من مقعد ثابت إلى مقعد قابل للتحريك يسهل نقله حيث استبدلت مواد البناء التقليدية بالخشب وهو ما يعرف بـ ” الدكة “ أو ” الكنبة “ وهى بنفس الشكل ولكن لها ظهر خشبي، ويوضع عليها بعض المساند من أجل توفير راحة أكثر للجالس عليها.
وبمرور الزمن اكتسبت المصطبة المصرية العتيدة أهمية كبرى، إذ تم استعمالها من قِبَل العمد والمشايخ وأصحاب السلطة والنفوذ والحائزين على الجاه والمال وأدعياء المعرفة الإسلاموية حصريا في القرية، كمنبر ديني وسياسي، بهدف حل مشاكل الناس بدلا من المحاكم، وعقد مجالس الصلح بين المتخاصمين، والتدخل في شؤونهم بالأوامر والنواهي وتوزيع العطايا والأرزاق عليهم. حيث يجلس أحدهم عليها، ويتجمع أمامهم جموع من الريفيين السذج للفصل في قضاياهم وحل مشاكلهم وسط لفيف من الفضولين والعاطلين عن العمل، أطلق على هذا الجمع ”مجلس عربي“، وذلك تشبُّها بشيوخ القبائل وملوك النفط والأمراء العاطلين عن العمل، والذين يعقدونه في خيامهم أو قصورهم الحالية، حتى وإن لم يكن لديهم مصاطب بالمعنى الموضح بعاليه!
كان من الطبيعي أن يرتبط - في وقت ما - الجلوس على المصطبة في مصر بمتلازمة الغطرسة (أو مرض السلطة الذي سنتعرف عليه لاحقا)، حيث أصبح هدفًا في ذاته، يسعى إليه كل من هب ودب ويحاول تحقيقه بشتى الطرق والأساليب غير المشروعة نظرًا لسرعة تحقيق نتائجها، وبات له نمط معين ونهج واضح وأسلوب خاص. فحين يجلس المرء عليها، تنتابه أحاسيس مختلفة تمامًا عما هي عليه وهو غير جالس عليها، أهمها التعالي والغرور والنرجسية بل السادية. يعطيه الجلوس عليها دفعات قوية نحو الكلام في أي شيء وكل شيء. يشعر وكأنه سيد القوم، وقائدهم وزعيمهم! ولا أحد يصل إلى قامته أو يعلو عليه، ينتابه على الفور فيض من الوقاحة والبجاحة والرداءة والبلادة وقصر النظر. الأمر الذي أصبح سمة تعمّ البلاد، فاعتاد عليها العباد، واستساغوها، وراحوا يطلبونها.
اليوم نجد أن كبير العمد وشيخ المشايخ المستحوذ على السلطة المطلقة وصاحب النفوذ الأوحد في طول البلاد وعرضها، فقد أصبح يفضِّل الجلوس على مصطبته المميَّزة وخلفه طغمة مختارة بدقة لتكون الباك جراوند (الخلفية) للمشهد الرهيب، وتقدَّم له لهَّايته المفضلة (الميكروفون)، فيمسك بها، ويتصور أن أمامه جمع غفير من الشعب، بل الشعب كله، ويخرِج على لسانه ما يشعر به في قرارة نفسه من خضوع تام لجنون القادة ومتلازمة الغطرسة!
السلطة لها رونق دونه الموت، في جمع الدول المتخلفة سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا، والتي مازالت تعاني من كيفية انتقالها بين الأشخاص الساعين إليها، في الوقت الذي تخلصت الدول المتحضرة من تلك المعاناة وعرفت كيف يتم انتقال السلطة سلميًا من حاكم إلى آخر، وذلك لأن السلطة في البلاد المتخلفه، ليست لخدمة الدولة ومواطنيها، بل لاستنزاف مواردها واستعباد مواطنيها واستغلالهم وتجنيدهم لتحقيق هذا الاستنزاف، ومن ثم يبلغ الصراع عليها حد القتل والتدمير!.
رئيس الجمعية المصرية للطب النفسي عالم النفس الشهير الدكتور أحمد عكاشة، أوضح خلال مقابلة مع برنامج "الحياة اليوم" على فضائية "الحياة" المصرية في 25 يوليو 2011، أن السلطة لا تكون مرضاً نفسياً إذا كانت هناك مساءلة، إلا أن "طول مدة السلطة تغير من شخصية الحاكم في أي مكان بالعالم". أكد عكاشة على أن الحاكم الذي يبقى لمدة طويلة في سدة الحكم دون أي مساءلة يحدث له حالة توحّد مع المنصب ويعاني مرضاً نفسياً يسمى ” متلازمة الغطرسة “.
إنه ”جنون القادّة“ أو ما يُسمّى في علم النفس بمتلازمة "غطرسة المُمْسكين بمواقع القرار"، والذي استشرى في الحقبة الأخيرة أكثر بكثير ممّا كان عليه سابقًا، ومن ثم أدخل العالم بكاملة في حالة من الفوضى التي قد لا تُحْمَد عقباها. وقد تحدث عن هذا الجنون بشكل مسهب وزير الخارجية البريطاني السابق David Owen في كتابه الشهير الصادر عام 2007، بعنوان: (The Hubris Syndrome متلازمة هوبريس). وكلمة Hubris اليونانية تعني ” العجرفة أو الغطرسة اللامحدودة “. وقد ركز فيه على كل من بوش الصغير رئيس أمريكا وبلير رئيس وزراء انجلترا، حيث يرى أن شخصيتهما أصيبتا بتسمّم مهام السلطة Intoxication of power الذي يقود إلى تبديل طبائع السياسيين والمدراء العامّين إلى درجة السقوط في فخّ النرجسية والثقة العمياء بالنفس.   
إذن متلازمة هوبريس (أو الغطرسة) عبارة عن مرض نفسي قد يصيب أي فرد يتولى أي نوع من السلطة ويستفحل المرض كلما علت درجة السلطة وغابت الرقابة وطالت الفترة الزمنية في كرسي السلطة، أو المصطبة، فتبدو عليه أعراض كثيرة أهمها أنه :
1- يشعر بتضخم الذات والتغطرس واحتقار الآخرين. إذ ينتابه الإحساس بالثقة المفرطة بالنفس وعدم الثقة بالآخرين بما فيهم أقربهم إليه، وعدم السماح لهم إلا بتقديم فروض الولاء والطاعة له.
2- يستأثر برأيه ويمتنع تماما عن سماع النصح ويتصرف دونما روية أو اكتراث ويتخذ قراراته بشكل أحادي متسلط متسرع دون التفكير في عواقبها.
3- ينعدم لديه الإحساس بالواقع المحيط به ويتسم بالنرجسية في رؤية العالم من حوله، ومطابقة مصالحه ورغباته الشخصية مع مصالح ورغبات الأمة والميل إلى تعميم الرؤى الشخصية بصرف النظر عن حساب نتائجها غير المرغوب فيها.
4- يعتقد بشكل مفرط في عبقريته، فيرى أنه على صواب دائما وغيره على خطأ باستمرار.
5- يخلط بين شخصيته وشخصية الوطن، بل يوحدهما في ذات واحدة، فكل من ينتقده هو خائن للوطن ومن يعارضه هو عدو للشعب والوطن.
6- يرى نفسه دائما على أنه القائد الزعيم الملهم المانح المانع المهيمن وأن الشعب هو القطيع المطيع الذي يستلهم منه ويسير خلفه.
7- يتقمص دور القائد المحب العطوف أحيانا وشخصية الجلاد الذي لا يرحم أحايين أخرى.
8- يتقلب مزاجه من فرح ونشاط مفرط غير طبيعي إلى حالات متباينة من الحزن أو الخمول أو الاكتئاب الشديد.
9- يتلذذ بإهانة واحتقار أفراد شعبه وإيذائهم من وقت لآخر ليحسوا أنهم في موقع أدنى منه وليُحِسَّ هو أنه في منزلة أعلى منهم.
10- يعمد إلى تجريد المواطنين من كرامتهم ليؤكد بذلك على انفراده هو وحده بالكرامة المقدسة وأن المساس بها يعد جريمة لا تغتفر.
11- يقحم بسبب وبدون سبب المبررات الدينية الميتافيزيقية أو الأخلاقية والمثل العليا السامية في كل كبيرة وصغيرة يفعلها.
12- ينظر للعالم من حوله على أنه مسرح لتضخيم ذاته فقط، ومن ثم ويكون على استعداد لاتخاذ أية قرارات لتحسين صورته وحدها، ويبدي حرصا غير طبيعي على تلميع صورته أمام شعبه مهما كلفه الأمر.
13- يتكلم بنوع من النغمة المتعالية على البشر وكأنه يحمل لهم رسالة سماوية أو إلهية أو أن السماء انتدبته كرسول أو نبي لإنقاذهم من الضلال المستديم.
14- يحس بأنه ليس مسؤولا أمام أحد من شعبه بل مسؤول فقط أمام سلطة ميتافيزيقية أعلى هي ” الله “.
15- يفقد تدريجيا صلته بالواقع ويعيش في وهم الذات ويتخذ أحيانا قرارات اعتباطية فردية مندفعة دون دراسة كافية.
16- وفي نهاية المطاف ينتهي به الحال إلى عدم التقدير السليم للأمور وعدم الكفاءة في اتخاذ القرارات والفشل في إنجاز الأعمال الموكولة إليه وتعاظم الإحساس بالعظمة والغطرسة وربما الانفصام التام عن الواقع أو الاكتئاب أو الإدمان .. وأخيرا الجنون.
إن استحواذ شخص واحد فقط بالجلوس على المصطبة في مصر أو غيرها من الدول، وتمركز السلطة في قبضته لفترات طويلة من الزمن يؤدي حتما إلى بسط روح الاستبداد والفساد، بحسب قول السياسي والمؤرّخ البريطاني لورد آكتون Lord Acton (1834م - 1902)، الذي جاء على لسانه في القرن التاسع عشر: ” إنّ السلطة مُفسدة، لكن السلطة المطلقة فساد مطلق “.
الفساد المطلق لدى بعض المدراء العامّين يؤدي بالضرورة إلى خراب وإفلاس بعض الشركات. أما من جهة الساسّة الذين يستغلون الأنظمة السياسية الفاشية للمحافظة على مراكزهم في مواقع القرار لأطول فترة ممكنة، تساهم غطرستهم وصفقاتهم المشبوهة ونزعتهم المرضية للإثراء غير المشروع إلى تحويل دولهم إلى دول فقيرة في في كل شيء وفاشلة ”Failed states“ في كافة المجالات. 

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي