|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
علي دريوسي
2023 / 1 / 8
وأنا أمشي في الشارع الرئيسي في ضاحية "أورك" تخطر على بالي فجأة المرحومة عمة أبي. حصل هذا حين شاهدت إمرأة أجنبية تبيع الخضار وتلتهم فروجاً مشوياً بنهم وخجل وعجلة وكأن ثمة من يراقبها أو يلاحقها.
كانت سجيعة، عمة أبي، تشتغل يومياً في معمل التبغ على مدى أربعين عاماً. وكان زوجها يستولي دائماً على راتبها الشهري كاملاً بحكم طيبتها وبساطتها وبحكم سلطته الشرعية "ربّ عائلة". حين دخلت سن التقاعد أقسمت أمام مقام "علي زين العابدين" ـ أحد الأولياء الصالحين ـ ألا تعطيه راتبها كاملاً بعد اليوم. وهكذا راحت تحجز لنفسها مطلع كل شهر جزءاً يسيراً من الراتب التقاعدي لتشتري به ـ دون معرفته ـ دجاجة مشوية تأكلها سراً، كما اشتهت دائماً. لم يتأخر الوقت طويلاً حتى علم زوجها بالأمر. وفي اليوم المحدد لقبض الراتب رجع من خمّارة "دليلة" ظهراً ـ مبكراً على غير عادته، عاد إلى البيت حاملاً عصا الخيزران بيده. حين وصل وقع خطواته المفاجئة إلى أذنيها كانت في تلك اللحظة ما تزال تلتهم دجاجتها المشوية بشهية، ارتعبت لقدومه وأحسّت بغضبه دون أن تراه عيناها، حاولت جهدها كي تخفي جريمتها، ومن فرط سرعتها في الأكل شرقت المسكينة بعظمة صغيرة وغصّت، أغلقت فمها كي تحجب عنه اللقمة التي تمضغها، لم تجرؤ أن تطلب منه كأس ماء. رفع الرجل عصاه عالياً وأخذ يوبخها على سرقتها للراتب وخيانتها للأمانة بينما راحت المرأة تختنق، انقطع عنها الهواء، ماتت الفقيرة وهي تحملق في وجهه الأناني الكريه.
**
خرجت عن موضوع رسالتي، لم أقصد الولوج إلى برك الكآبة والأسى، سأعود إلى رحلتي:
اصطحبتني زميلتي "هنيلوري" إلى منطقة "غولديرس غرين" شمال لندن، حيث يسكن معارفها وأقرباؤها من اليهود، هناك ترين اليهود موزعين في كل شارع وناصية وبيت، زرنا في البداية أحد أخوالها الذي يدير ويملك مخبزاً لصناعة الحلويات اليهودية والخبز بعدة أنواع. لفت انتباهي هناك لوحة مزخرفة معلقة خلف كرسي المحاسبة، مكتوبة بالعبرية ومترجمة إلى الإنكليزية:
طالما ما دامت الروح اليَهوديّة داخل القلب تعيش،
إلى التقدم نحو الشرق تتوق، والعين نحو صهيون تتطلع.
طالما أنّ أملنا ما ضاع، الأمل، بعمر ألفي سنة،
لنكون شعباً حراً في أرضنا، أرض صهيون وفي القدس.
سألت زميلتي عن معنى هذا النص النثري وأهميته بالنسبة لخالها، فوجدتها تضحك وتقول:
ـ هذا هو النشيد الوطني لدولة إسرائيل، هاتيكفا .. الأمل، كتبه الشاعر اليهوديّ "نفتالي هرتس إيمبر"، ألا تعرفه؟
في الحقيقة لم أكن أعرف نشيد الإسرائيليين من قبل، لكني تمتمت في أعماقي: ما الذي يفعله هذا الرجل هنا؟ عليه أن يعود حالاً إلى أرض صهيون.
المهم، في اليوم نفسه زرنا أيضاً متحف اليهود في بلدة "كامدن تاون".
بعد الظهر سافرنا معاً بالباص رقم 210 إلى مقبرة "هايغيت" التي يعود تأسيسها إلى عام 1820، ما يميزها نظافتها وقبورها القديمة، العائدة بشكل خاص إلى موتى الشريحة العليا في المجتمع وبعض رموز المدينة من أهل الفن والعلم والتجارة. كان أهمها بالنسبة لي ضريح اليهودي الشيوعي والفيلسوف كارل ماركس، ما زال معلم حج لمن بقي وفياً لخط سيره وبوصلته السياسية، كذلك للمغردين خارج السرب من الأجيال الجديدة. أمام قبره تجدين قبل كل شيء سواحاً من البلدان المسماة اشتراكية. في المحصلة تصورنا بجانبه كما يفعل الجميع، ضحكنا مع الرفاق الصينيين الذين وقفوا أمام نظراته خاشعين، ثم قرأنا الرسالة المنحوتة على جدار قبره:
"كل ما فعله الفلاسفة هو تفسير العالم بطرق مختلفة، لكن القضية المهمة تكمن في تغييره."
مانويلا، الغالية على قلبي،
هبّت الآن ريح قوية وأمطرت السماء المعتمة، عاد زملائي وزميلاتي من جولتهم التسوُّقية، لهذا سأتوقف عند هذه النقطة عن متابعة الكتابة إليك.
إلى لقاءٍ أتمناه أن يكون قريباً، اِبقِ بخير وانتبهي إلى نفسك جيداً.
محبتي وتقديري وقبلاتي الحارة لك.
إبراهيم
**
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |