|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
داخل حسن جريو
2023 / 1 / 6
يلاحظ المتتبع لتاريخ العراق السياسي منذ تأسيس دولته الحديثة عام 1921 وحتى يومنا هذا, أنه أشبه بحقل تجارب لمشاريع سياسية فاشلة, دون سواه من الدول العربية وعموم دول المنطقة . ففي حقبة نظام الحكم الملكي شهد العراق محاولات محمومة لتأسيس ما أطلق عليه بدولة الهلال الخصيب التي تضم كلا من العراق وسورية ولبنان والأردن وفلسطين , ومحاولة تنصيب الأمير عبد الآله (الوصي يومذاك على عرش العراق) ملكا على سورية , ولكن لم يرى مشروع الهلال الخصيب النور أبدا ,ولم ينصب الأمير عبد الآله ملكا على أحد , على الرغم من محاولات نظام الحكم الملكي شراء بعض الذمم وتدبير المؤامرات لقلب نظام الحكم السوري . أكتفى النظام الملكي بقيام الإتحاد الهاشمي بين دولتي العراق والأردن في العام 1957 , لمواجهة المد القومي العربي المتصاعد يومذاك ,والذي بات يهدد النظامين العراقي والأردني. أجهض هذا الإتحاد في العام 1958 بقيام الجمهورية العراقية على أنقاض النظام الملكي العراقي , وبذلك إنطوت صفحة من تاريخ العراق .
وما أن تأسست الجمهورية العراقية ,وهي الأخرى شهدت منذ أيامها الأولى مطالبة الشخص الثاني العقيد عبد السلام عارف نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية في حكومة ثورة الرابع عشر من تموز , بضم العراق إلى ما كان يعرف يومذاك بالجمهورية العربية المتحدة المشكلة عام 1957 من كل من مصر وسورية , برئاسة الرئيس المصري جمال عبد الناصر . لقيت دعوة العقيد عبد السلام تاييدا من الأحزاب القومية بصنوفها المختلفة ورموزها السياسية ووزرائها في حكومة الثورة , قابلتها معارضة واسعة من الأحزاب الوطنية اللبرالية واليسارية ورموزها وزرائها في حكومة الثورة ,وعلى رأسهم قائد الثورة عبد الكريم قاسم , الأمر الذي أحدث شرخا عميقا في صفوف انصار الثورة ومؤيديها , تحول فيما بعد إلى صراعات دامية ومحاولات إقصاء كل طرف للطرف الآخر بكل الوسائل وبقوة السلاح , إنتهت بإجهاض مشروع ضم العراق إلى الجمهورية العربية المتحدة في مهده قبل أن يرى النور , لينتهي الحال فيما بعد بسقوط الجمهورية العربية المتحدة نفسها عبر إنقلاب عسكري سوري عام 1962 ,أفضى إلى فصل سورية عن مصر ليعود الوضع إلى ما كان عليه , أي جمهورية مصر وجمهورية سورية كما هو عليه الحال حتى يومنا هذا .
جرت بعد إنقلاب الثامن من شباط عام 1963 الذي أوصل حزب البعث العربي الإشتراكي للسلطة في العراق وإنقلاب الثامن من آذار عام 1963 الذي أوصل حزب البعث العربي الإشتراكي للسلطة في سورية , إبرام إتفاق مشروع إتحاد ثلاثي بين مصر وسورية والعراق . لم يرى هذا المشروع الوحدوي النور أبدا , على الرغم من أنه مشروع الأحزاب القومية وفي مقدمتها حزب البعث العربي الإشتراكي, التي صدعت رؤوس الناس بالحديث ليل نهار عن نضالها الوحدوي المستميت وضرورة تأسيس دولة الوحدة العربية التي مزقتها الأطماع الآستعمارية ,وإتهام خصومها بمحاربة العروبة من منطلقات شعوبية . والغريب أن حكومتي سورية والعراق البعثيتين باتتا تتقاذفان التهم فيما بينهما لتبرير تنصلهما من تنفيذ بنود إتفاقية الوحدة الثلاثية المبرمة فيما بينهم , لعدم رغبتهما بالتخلي عن السلطة ,وريبة كل طرف تجاه الطرف الآخر, بل أنهما ذهبا أبعد من ذلك حيث ناصب بعضهم البعض العداء إلى حد التآمر , ومنع مواطني العراق وسورية من تبادل السفر فيما بين بلديهم لعقود طويلة.
وتأتي هزيمة العرب الكبرى في حرب الأيام الخمسة التي هزمت فيها إسرائيل ,كلا من مصر وسورية والأردن في الخامس من حزيران عام 1967, لتحتل في غضون خمسة أيام ما تبقى من فلسطين ( القدس والضفة الغربية وقطاع غزة ) ,وشبه جزيرة سيناء المصرية وصولا لقناة السويس ,وهضبة الجولان السورية , لتضع حدا للمد القومي العربي , ليعقبه المد الإسلامي المتمثل بحركة إخوان المسلمين والحركات السياسية المتشعبة عنها في معظم البلدان العربية وبخاصة في مصر , بإستثناء العراق الذي شهد عودة حزب البعث إلى السلطة في السابع عشر من تموز عام 1968 , وليبيا التي شهدت إنقلابا عسكريا في الأول من أيلول عام 1969 , وإعلان تأسيس جمهورية اليمن الجنوبي عام 1967 بعد خروج القوات البريطانية منها .لم تغير هذه الأحداث كثيرا من هيمنة حركات الإسلام السياسي وتصاعد أنشطتها في البلدان العربية بما فيها فلسطين المحتلة التي شهدت تصاعد نشاط الحركات الإسلامية مثل حماس وحركة الجهاد الإسلامي .
مرة أخرى كان العراق أرضا خصبة لمشاريع الإسلام السياسي وتصاعد أنشطة حركاتها ضد مؤسسات الدولة المختلفة في عقد السبعينيات بعد سقوط نظام حكم شاه إيران , وتأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979 التي تبنت منذ يومها الأول تصدير الثورة إلى البلدان الأخرى. كان العراق في مقدمة هذه البلدان , نظرا للوشائج الدينية الخاصة التي تربط البلدين . نجم عن ذلك توتر ملموس في العلاقات بين إيران والعراق , ليتطور سريعا إلى حرب ضروس مدمرة بينهما لثمان سنوات (1980 -1988 ).أدت هذه الحرب المدمرة إلى إمتصاص زخم نشاط الحركات الإسلامية وتعطيل مشاريعها إلى حد كبير, وشل حركتها بعدم قدرتها على تحقيق أي خرق ذا قيمة في بنية النظام السياسي القائم يومذاك في العراق , على الرغم من فداحة خسائرها .وبالمقابل تكبد العراق خسائر مادية وبشرية هائلة وتعطيل الكثير من مشاريعه التنموية .
وفي مطلع الألفية الثالثة تنفست البشرية الصعداء بأمل إنبثاق عصر جديد في أعقاب إنتهاء الحرب الباردة بعد تفكك أحد قطبيها المتمثل بالإتحاد السوفيتي ومنظومة دول حلف وارشو , وتوحيد الألمانيتين , وتوقع بزوغ نظام دولي جديد قائم على العدل وضمان حقوق الشعوب صغيرها وكبيرها على أساس القانون الدولي, بعيدا عن كل أشكال التسلط والغطرسة , لكن الرياح لم تجر بما تشتهي السفن , حيث كرس النظام الدولي الجديد غطرسة الولايات المتحدة الأمريكية وهيمنتها على مقدرات الكثير من الشعوب وفرض إرادتها على حكوماتها بما يخدم مصالحها بالدرجة الأساس . ومرة أخرى يقع العراق فريسىة لمشاريع عبثية دون سواه من البلدان العربية وبلدان المنطقة , ولكن هذه المرة مشاريع كارثية تهدد وجود العراق يرمته كدولة عريقة ذات حضارة إمتدت آلاف السنين . فقد غزت الولايات المتحدة الأمريكية العراق وإحتلته عام 2003 , تحت ذريعة نزع أسلحة الدمار الشامل التي قيل أنها تهدد أمن المنطقة والعالم أجمع والتي ثبت للقاصي والداني زيفها وبطلانها,ودعاوى محاربة الإستبداد وتحرير شعب العراق من الدكتاتورية , ومساعدته على إرساء نظام ديمقراطي يقوم على التعددية السياسية والتداول السلمي للسطة , وضمان حقوق الإنسان والتمتع بحياة حرة كريمة بأمن وأمان .
وإنفرد العراق مرة أخرى بين دول المنطقة ليقع فريسة للإحتلال الأمريكي , بدعوى تنفيذ مشروع الإدارة الأمريكية بدمقرطة دول المنطقة إنطلاقا من العراق . ولم يجن العراق من هذا المشروع المشؤوم سوى المزيد من الويلات والمصائب وفقدان الأمن والآمان , والمزيد من سفك الدماء , وتفشي الفقروالجوع والجهل والمرض .مما إضطر ملايين العراقيين للهجرة إلى الدول الأخرى بحثا عن ملاذات آمنة . بات العراق ساحة لنشاط مخابرات الدول الأجنبية لتصفية الحسابات فيما بينها , ومسرحا للجماعات الإرهابية والفصائل المسلحة وعصابات الجريمة المنظمة, ومافيات المخدرات وكل أشكال الرذيلة حبث تصول وتجول على هواها دون حسيب أو رقيب . يصنف العراق اليوم , دولة فاشلة بكل المقاييس والمعايير الدولية وأكثرها فسادا على الإطلاق .
وحتى الجماعات الإرهابية وجدت ضالتها في العراق كبلد مستباح , فقد أعلن تنظيم داعش الإرهابي تأسيس ما أسماه دولة الخلافة في العراق والشام بزعامة المدعو أبو بكر البغدادي , بعد إحتلاله محافظة نينوى وقرابة ثلث الأراضي العراقية عام 2014 , متخذا من مدينة الموصل التي عاث فيها فسادا ودمارا , عاصمة لدولة الخلافة المزعومة .
ورب سائل يسأل لماذا إنفرد العراق بهذه المشاريع دون سواه من دول المنطقة ؟ هل لسوء الطالع أم أن هناك أسباب جاذبة وبيئة مناسبة لتبنيها أم أنها حماقات سياسية دون تقدير نتائجها أم ماذا ؟. نقول برأينا المتواضع أنها ربما تعود في بعض أسبابها إلى طبيعة الشخصية العراقية التي تتصف بالإنفعالية والتسرع والإعتداد المفرط بالنفس وعدم تقدير العواقب بصورة موضوعية .
فهل يا ترى تعلم ساسة العراق الدرس من هذه التجارب المريرة , وحاولوا تضميد جراح شعبهم ولم شمله ليعيش الناس أعزة كرام في وطنهم ويتمتعوا بحياة كريمة أسوة بخلق الله الآخرين .