|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
الطايع الهراغي
2023 / 1 / 3
"ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا** ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد"
(طرفة بن العبد)
"لا أذود الطّير عن شجر ** قد بلوت المرّ من ثمره"
(أبو نوّاس )
"ذهبت هموم حرت في أسمائها **وأتت هموم ما لهنّ أسامي"
(محمد صادق الرّافعي).
17ديسمبر2022 يُفترض أن يكون المشروع السّياسيّ لقيس سعيّد قد اكتمل وباح بكلّ أسراره ضدّا لرؤية الجميع ورغما عن أنف الجميع .الموسم السّياسيّ لسنة 2023 تمّ افتتاحه عمليّا –قبل أوانه- بما أراده (وكما أراده) الرّئيس لجمهوريّته الجديدة، حدثا مفصليّا بين عهدين، عهد قيس سعيّد وعهد السّابقين، عهد الاستبداد والفساد وعهد "الشّعب يريد" الذي سرعان ما تحوّل إلى "الرّئيس يريد". تلك هي انتخاباتنا البرلمانيّة في حلّتها الجديدة وثوبها الفريد. انتخابات اجتهد القيسيّون ليجعلوا منها كرنفالا احتفاليّا على طريقتهم بالذكرى الثّانية عشرة لثورة الكرامة حيث من تحزّب خان والبناء القاعدي في كلّ مكان، انتصرت الفرقة النّاجية، فرقة الولاء وهلكت الفرق الهالكة، فرق البراء.
01 / الاستخلاصات العرجاء
بؤس السّياسة -وأشنع منه جريمة تفاعل الحشود مع آخر فصل من المشروع القيسويّ- يجد ترجمته الأمينة مختزلة في ما جادت به قريحة الأنصار والمفسّرين والمتيّمين بلحظة الوعي في ما استنتجوه من حصيلة الانتخابات التّشريعيّة.
السّقوط الحرّ الذي تهاوت فيه الحشود وكثير من المارقين عن مللهم والملتحقين بقافلة المناصرين لاهل المدينة الفاضلة مآله الطّبيعيّ الاستخلاصات العجيبة التي توّجوا بها تهافتهم وهم يقيّمون نسب الإقبال على الانتخابات التي أرادها قيصر القصر وأتباعه من اليمين واليسار رهان الرّهانات، فكان حالهم كحال الغريق لمّا تتقاذفه الأمواج لا يجد بدّا من أن يستسلم للأوهام ويتعلّق بحبال الهواء.
الانتخابات في قاموس القيصر وصحبه ممّن ارتضتهم الصّدف أن يكونوا لساكن قرطاج صحابة خلّصا ناجحة بكلّ المقاييس -إن لم تكن المثال النّموذجيّ لأيّة عمليّة انتخابيّة في الأمد القريب والبعيد-. يعسر إحصاء مناقبها ويستحيل رصد منافعها وأفضالها على شعب تونس وسائر الأمم الصّديقة والشّقيقة.
ميزتها الأولى أنّها سهّلت الفرز بين جبهة الوطنيّين، جند قيس سعيّد الميامين، قلّة من حيث العدد ولكنّهم كثرة من حيث النّوع ،حيكت ضدّهم كلّ المؤامرات فما نالت من عزائمهم شيئا، وبين جبهة عالم الفساد والدّسائس والخيانات، فيه انخرطت الأغلبيّة بعقليّة مؤامرتيّة لإفساد عرس التّونسيّين وإجهاض الحراك الثّوريّ الذي أتاحته مغامرة الإنقاذ، حراك 25جويلية هديّة قيس سعيّد لشعب تونس العظيم كما يحلو له أن يكرّر.
وميزتها الثّانية أنّها أتاحت الفرصة للجميع- في الدّاخل والخارج- للتّأكّد من الاكتشاف الجديد: دورالمال الفاسد في تأثيث كلّ الانتخابات السّابقة.لا إقبال ولا هم يحزنون. جحافل باعت ذممها وتهادت إلى الصّفوف بمقابل .كان يكفي أن تحال الأطراف السّياسيّة على المعاش وتُحرم من المشاركة في الانتخابات بهويّتها الحزبيّة حتّى تورق شجرة الشّفافيّة والنّزاهة،
فلا يقبل على العمليّة الانتخابيّة إلاّ ذوو القناعات الرّاسخة الثّابتة،من كان نظيفا عفيفا يحبّ تونس لوجه الله كما يحلو للأنصار ترديده بموجب وبدونه .
وميزتها الثّالثة أنّها عرّت عورات كلّ الطّبقة السّياسيّة.فتدنّي نسبة المشاركة يعود السّبب المركزيّ فيه إلى عزوف وقرف من المشهد السّياسيّ عموما وليس إلى مقاطعة منظّمة واعية ومسؤولة.عزوف عقابيّ لمن تداولوا على الشّأن العامّ طيلة العشريّة الموسومة بالسّوداء،إدانة للسّياسات التي انتهجتها منظومة ما قبل 25جويلية. ولا يتعلّق الأمر بموقف سياسيّ لا من الرّئيس ولا من اختيارات الرّئيس.
تلك هي الانتخابات التّشريعيّة كما روّج لها أنصارها. وتلك هي القراءات التي تفنّن "حرّاس المعبد" في إخراجها.
02/النّقد المصلوب على قفـاه
النّقد عندما ينفلت من عقاله يخبط خبط عشواء فيُصلب المنطق على عتبة الخرافيّ ويتيح لجوقة التّهليل والتّكبير أن تنتج ما عجزت الأفهام عن مجرّد تخيّله فما بالك بتمثّله.
النّخبة(إذا جاز الحديث عن نخبة) التي بنت تماهيها مع 25جويلية على أنّه انبثاق لحظة وعي غير مسبوقة، لحظة ثوريّة، قادتها تخميرتها وكسلها الفكريّ وخيانتها لذاتها إلى تناسي ماضيها القريب (إرثها البعيد قد تتّكل على عامل الزّمن لتبرير صعوبة استحضاره، ولِم لا نسيانه؟ ).فما اعتبرته في 2011 إنهاء مع رأس النّظام وليس مع كامل المنظومة فحذرت من الأوهام ودعت إلى ضرورة التّفطّن والاحتراس ممّا قد يحاك من مؤامرات والتفافات بات – بعد ليلة هبوط الوحي- جزءا من تاريخ قديم. وباتت الحقيقة الجديدة هي الجزم بانبلاج لحظة تاريخيّة، هي لحظة قيس سعّيد، المهدي المنتظر الذي يملك من المؤهّلات ما يخرق قوانين التّاريخ ويستعيض عن فعل الشّعوب بفعل واحد أحد.
في هذا الإطار يتنزّل النّقد التّهجينيّ للجميع- أحزابا ومنظّمات وجمعيّات وكفاءات في أكثر من مجال- كمواصلة للحملة الممنهجة التي تهدف إلى تقزيم وتجريم كلّ الفاعلين السّياسيّين. حملة أفقها تصحير السّاحة السّياسيّة وسبيلها شيطنة الفاعلين أيّا كانت مجالات نشاطاتهم.
النّقد الذي يستهدف الجميع نقد هجين متعال، منفلت من عقاله،متمرّد عل كلّ منطق حتىّ الصّوري منه لأنه عمليّا لا يستهدف أحدا ويتوهّم أنّه متملّص من سطوة التّأثّر.هذا النّوع من النّقد يجب إدراجه في خانة ارتداد النّخب وخيانة المثقّفين. وخيانة المثقفين هذه أبشع جائحة يمكن أن يصاب بها مجتمع ما مادام المثقّف أقدر على تبرير ما لا يُبرّر بلوي عنق الحقيقة وصلب المنطق وحمله على تبرير الشّيء ونقيضه . الحقّ كلّ الحقّ مع الثّوريّة روزا لوكسمبورغ وزعيم البلاشفة لينين عندما شدّدا على أنّ النّقد مهمّة وليس مهنة، وظيفيّ أو لا يكون لكي لا يتحوّل إلى ترف فكريّ تحكمه معادلات تملي عليه التّملّص أحيانا حتّى من التّماسك الدّاخليّ الذي يشدّ وحدات أيّ خطاب..
التّعميم وتهجين الجميع لتبرير فظائع المنظومات الحاكمة "موضة" ترتقي إلى مستوى البدعة،أصحابها-لفيف من الأطراف السّياسيّة والذّوات المنسلخة عن أحزابها وشراذم ممّن لا دين ولا ملّة لهم، يجنحون عمدا إلى الخلط – باسم موضوعيّة ركيكة، بليدة، رعناء- بين فشل منظومة الحكم قبل وبعد 25 جويليية في الفعل في الأزمة وإدارتها- لكي لا نتحدّث عن حلّها- وبين مسؤوليّة المعارضة- أفرادا وجماعات-(بقطع النّظر عن تقييمنا لمشاريعها والموقف من اصطفافاتها) فشلها يكمن تحديدا في العجز عن فرض بدائل تنظيميّة وعمليّة قادرة على مجابهة منظومة الحكم وتسهيل الإطاحة بها.
تحميل الجميع، يمينا ويسارا، معارضة وحكما، مسؤوليّة الفشل وانسداد الآفاق خدمة مجانيّة مقصودة لليمين الذي استأثر بالحكم منذ2011 ولربيبه الجنيس المتربّع بمفردهعلى الحكم منذ 25جويلية 2021.
شهادة تبرئة، أصحابها كلّ الدّلائل تضعهم في خانة المأجورين بالمعنى السّياسيّ للكلمة،ومنتدبين لتبييض جرائم الماسكين بدواليب السّلطة، مكلّفين بمهمّة خسيسة عنوانها التّمييع والتّعميم وخلط الأوراق لتأبيد الوضع البائس.جريمة أدبيّة وأخلاقيّة وسياسيّة تتكفّل بها جهات باتت موضوعيّا تعبيرة من تعبيرات المنظومة الحاكمة .
تعريّة هذا الخطاب وفضح السّاهرين على تأثيثه وترويجه مهمّة يجب أن توضع في سلّم الأولويّات.
03/ بعيدا عن اللّغـــو
أمّا العزوف كظاهرة طبعت المشهد السّياسيّ- بعد انتكاسة وهج السّنوات الأولى لثورة الكرامة- فقد حكمته جملة من المعطيات تتقاسم فيها المسؤوليّة أطراف منظومات الحكم التي تتالت على تونس، ورئيس الجمهوريّة أحد أضلاعها. قوام سياسته"بيـــدي لا بيــد عمـرو". خطابه يحلّق في الأعالي، وضع بينه وبين الواقع أصنافا من الحجب. خطاب خشبيّ رجميّ تخوينيّ استفراديّ،يدور حول نفسه ويفتقر لأبسط أبجديّات البروتوكول الرّسميّ لأيّ مسؤول حتّى في مجتمع دولته حديثة العهد بالحراك السّياسيّ، وتنعدم فيه اللّباقة السّياسيّة، وجد له ضالّة في إعلام المجاري الذي جعل من أغلب المنابر الإعلاميّة فضاء مفتوحا للتّندّر لا فقط برجال السّياسية والفكر بل بكلّ فعل جادّ.فبرّر -وعى ذلك أم لم يـــع- كلّ شطحات قيس سعيّد.نقد تدميريّ ظاهره تعميم موضوعيّ يروم الشّموليّة وتحميل المسؤوليّة للجميع، وجوهره وأد للفعل السّياسيّ المترهّل بطبعه والحكم بالعقم على كلّ محاولة مهما كانت جدّيّتها .
وأمّا النّسبة الكارثيّة لحجم الإقبال على المشاركة في انتخابات البرلمان فيستحيل ردّها إلى عامل العزوف الذي يظلّ مجرد افتراض إن لم يكن تخمينا يفتقد إلى أبسط مقوّمات الاستدلال والبرهنة. فطالما أنّ أوسع الأطياف السّياسيّة مقصاة من المشاركة ولم تنخرط في العمليّة فسيظلّ من المستحيل رصد مدى إشعاعها ودورها في التّأثير على سير العمليّة بالسّلب كما بالإيجاب .فلو أتيحت للأحزاب فرصة المشاركة وحتّى لو كانت النّسبة ضعف ما هو حاصل لجاز الحديث عن عزوف بل عن إدانة للأحزاب مجتمعة وللمعارضة تحديدا.
الإحجام عن المشاركة – مقاطعة كانت أم عزوفا- فرضه قيس سعيّد الذي أراد تهميش المعارضة وذبحها فوحّدها في هدف من حيث رام تقزيمها.فبات هزال المشاركة محسوبا عليه لا له،إدانة لسياساته وليس تدليلا على نفور من منافسيه وخصومه.
أيّة عمليّة انتخابيّة تُردّ وجوبا إلى وجود مناخ ملائم ومشجّع(سياسيّ وإعلاميّ وفكريّ وأمنيّ) خاصّة في البلدان التي لا زال عود التّجربة الدّيمقراطيّة فيها طريّا ولازال تعاطي السّياسة فيها كشأن عامّ عالم أقلّيّات.
مناخ عامّ في غيابه يُحكم على العمليّة ماقبليّا بالفشل.فشل يتحمّل فيه القسط الأكبر من المسؤوليّة الماسكون بدواليب السّلطة والجهاز التّنفيذيّ أساسا.
في وضعيّة الحال يستفرد الرّئيس بكامل المسؤوليّة كما استفرد بحيثيّات ومنعرجات كلّ المسار الانتخابيّ وقبله المسار السّياسيّ.
سياسة الهروب إلى الأمام وفرض الأمر الواقع هي الخاصّيّة الأولى التي حكمت فشل سلوكات قيس سعيّد، سياسات رُسمت معالمها منذ الاستشارة مرورا بالاستفتاء رغم إقراره في تاريخ دلاّل 25 جويلية ورغم الإشراف المباشر للرّئيس ذاته وتدخّله السّافر يوم الانتخابات في كلمته التّوجيهيّة"قولوا نعم حتّى لا يصيب الدولة هرم"وانتهاء بالحدث الجلل :الانتخابات التّشريعية.
نجح قيس سعيّد بتوظيف أجهزة الدّولة في فرض واقع قسريّ على الجميع ولكنّه أرسى أسس تنازع المشروعيّات، مشروعيّة رسميّة السّلطويّة بمؤسّسات يسهل وسمها بالمنصّبة ومشروعيّة مجتمعيّة لا زالت تبحث عن نفسها .
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |