لماذا لا ننتج فلسفة؟

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
2022 / 12 / 23

الفكر عمل ذهني قديم قِدَمْ عمر البشر على كوكب الأرض. لكنه، كعلم، لم يظهر سوى بعد إتقان الإنسان فنون الكلام والكتابة والقراءة. وقد تعلم الإنسان هذه الفنون وشيد منها حضاراته قبل آلاف طويلة من السنين مضت. ورغم كثرة الحضارات القديمة وطول عمرها في مراكزها الكبرى قبل الميلاد في مصر والعراق وبلاد الشام والهند والصين وبلاد فارس وغيرها، واعتمادها جميعاً الفكر عماداً لشتى أوجه معاشها مثل الجيوش والعمارة والزراعة والتجارة والصناعة والفنون والدين وخلافه لدرجة لا تزال تثير اعجابنا ودهشتنا حتى اليوم، إلا أن أي من تلك المراكز الحضارية الجبارة لم تنتج فلسفة ووقفت جميعاً بلا استثناء عاجزة عن بلوغ هذا المستوى الفكري الرفيع. وحدها المدن الدول اليونانية التي لا تُقارن بها حجماً ولا عمراً ولا حضارة هي التي قد نجحت في بلوغ هذا المستوى وإنتاج فكراً يؤهل لتسميته ’فلسفة‘ لأول مرة في تاريخ البشر. لماذا تلك الدويلات القزمة بالذات؟!

* الشروط الموضوعية:
الفلسفة فكر مثل أي وكل فكر آخر، لكنها تحتل أعلى مستوياته على الإطلاق- التفكير في الفكر ذاته. وحتى يبلغ التفكير هذا المستوى الشاهق- أن يفكر في ذاته- لابد أن تتهيأ له مسبقاً شروط موضوعية معينة، أو بيئة مادية واجتماعية وثقافية مواتية. الفكر حين يلتف إلى التفكير في ذاته يكتسب قدرة ذاتية جبارة على الهدم، ثم إعادة البناء من جديد من أنقاض المهدوم. ويتعين، حتى ينشأ، أن تتوفر في بيئته المادية والاجتماعية والثقافية الحاضنة حداً أدنى ضرورياً من المرونة والحيوية والقدرة على تحمل التقلبات العميقة والهزات العنيفة من دون حدوث تصدعات أو انكسارات كبرى بما يكافئ التأرجح العنيف لمثل هذا النوع من الفكر الحاد ذهاباً وعودة بين عمليتي الهدم وإعادة البناء. في قول آخر، ثمة خصائص معينة تؤهل البيئة المادية لإنتاج الفكر الفلسفي مثل قدرتها على تحمل تبعات عمليتي الهدم وإعادة البناء من دون أن تتصدع وتنهار بلا رجعة، بل تملك من الحيوية ما يمكنها من ميلاد جديد أكثر تقدماً ورقياً من تحت أنقاض القديم.

* التقليد:
مثل أي وكل فكر بشري آخر، الفلسفة لا تستغنى عن التقليد. نأخذ الإسلام مثالاً. حتى بعدما نزلت الآية: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"، لو كان الخليفة الأول أبوبكر الصديق قد خسر معركته ضد المرتدين عقب وفاة النبي وانقطع المفكرون العرب من بعدها لأسباب قاهرة عن إعمال فكر عقولهم في هذا الدين تحديداً لما كان قد تشكل تقليد اسمه ‘الإسلام’ واستمر يعيش معنا حتى اليوم منذ أكثر من ألف ونصف الألف عام. في قول آخر، الإسلام كدين ليس مجرد الفكر الذي قد نسبه محمد في تلك اللحظة التاريخية إلى الله وانتهى الأمر. بل هو في الحقيقة تقليد متوارث حتى من قبل ولادة محمد نفسه وممتد من بعده؛ الإسلام ليس سوى حلقة أخرى ضمن تقليد ضخم متصل الحلقات يعيش في بيئة مواتية لمثل هذا النوع من التقليد على وجه التحديد. الفلسفة كذلك تقليد متصل الحلقات، لا تنشأ من عدم ولا تنتهي إلى عدم. بل هي، مثل الدين، تراث فكري متوارث وممتد في الزمن والبيئة والشخوص بما يكفي ليخلق لنفسه كياناً مستقلاً يميزه عن سواه، حتى لو انتهى به المطاف كما حدث كثيراً بالفعل إلى الانقراض من واقع الحياة والانزواء في غياهب التاريخ كما حال التقليد الفرعوني.

* الأفكار لا تموت، لكن التقاليد تفعل:
من أنقاض المدن الدول القزمية المفككة والمتناحرة التي احتضنت ميلاد التقليد الفلسفي وأبرزها أثينا، أقام الإسكندر الأكبر المقدوني إمبراطورية وسعت العالم المتحضر آنذاك حتى ورثتها الجارة روما. ورغم ضخامة وعظمة كلا الإمبراطوريتين مقارنة بالمدن الدول المتناهية الصغر، إلا أن أي منهما لم تنتج فلسفة؛ بل انقطع التقليد الفلسفي وانقصف عمره بزوال حاضنته في تلك المدن الدول. وكان الإسكندر الأكبر ويوليوس قيصر بشيرين من بعدهما بكل من عيسى بن مريم ومحمد بن عبد الله وإمبراطوريتيهما العظيمتين بروفة تمهيدية لكل من المسيحية والإسلام. كانت الإمبراطورية بمثابة خط النهاية لعصر الفلسفة لكنها في الوقت ذاته بداية لميلاد جديد. الأفكار لا تموت، لأنها تستطيع أن تتناسخ في أجساد جديدة، ومن ثم تنشأ إلى الوجود تقاليد جديدة. هكذا، قد يقال إن الإمبراطورية المقدونية ذاتها هي امتداد للتقليد الفلسفي في أثينا، لكن في جسد جديد؛ كذلك، المسيحية ذاتها هي امتداد للتقليد الإمبراطوري اليوناني والروماني- المنبثق بدوره من التقليد الفلسفي الأثيني؛ والإسلام امتداد من المسيحية، التي هي امتداد من التقليد الإمبراطوري اليوناني والروماني، الممتد بدوره من التقليد الفلسفي وهلم جرا. لكن الامتدادات والأجساد الجديدة لا تعني مطلقاً استمرارية التقليد ذاته، بل ميلاد تقاليد جديدة قد تناقض ما كان قائم قبلها وما قد ولدت من رحمه حتى هي ذاتها.

ما من شك في أن أفكاراً فلسفية كبرى من التقليد الفلسفي اليوناني قد واصلت حياتها ضمن التقليدين الدينيين العظيمين المسيحية والإسلام. لكن هذا لا يعني بأي حال استمرارية التقليد الفلسفي سواء ضمن أي من هذين التقليدين الدينيين أو بالتوازي معهما. وحتى لو كان في الحقيقة أن كلاً من أوغسطين وتوما الأكويني، أو بن سينا وبن رشد، قد بلغا من الأصالة والعمق في الفكر الفلسفي أكثر مما قد بلغه من قبلهما أفلاطون وأرسطو نفسيهما، هذا لا يعني إطلاقاً أن أي منهم كان فيلسوفاً بحق مثل أفلاطون أو أرسطو. ذلك لأنه بصرف النظر توفر الشخصية الفكرية العظيمة، لا يمكن للتقليد- أي وكل تقليد- أن ينشأ ويمتد عبر الزمن والبيئة والشخوص من دون توفر الشروط الموضوعية المواتية من بيئة مادية واجتماعية وثقافية وخلافه- تلك القابلة للهدم وإعادة البناء في ديناميكية جدلية مع الفكر الفلسفي. في الواقع، كان كل هؤلاء العظماء وغيرهم كثر يعيشون ويفكرون من داخل تقليد ديني. وفي أثناء عيشهم وتفكيرهم ذلك، لم يمنعهم هذا التقليد الديني من الاستفادة من الفلسفة، لكنه يقيناً قد منعهم من إمكانية الانشقاق عنه- حرمهم من عملية الهدم وإعادة البناء الجدلية ذات الأهمية الجوهرية للفلسفة.

هذه البيئة المواتية لم تتوفر مجدداً سوى بعدما انفجرت المسيحية من داخلها في حروب دينية نسفت من الجذور الأسس الإمبراطورية التي قد شُيد فوقها الدين، لتخلف أوروبا في صورة دويلات مفككة ومتناحرة أشبه بحال المدن الدول اليونانية القديمة قبل الإسكندر. من تلك اللحظة التاريخية الفارقة فصاعداً تهيأ المسرح أكثر فأكثر للعودة من جديد إلى التقليد الفلسفي المنقطع عن الحياة الفعلية منذ مئات السنين، من فوق جسر عظماء مفكري (فلاسفة) المسيحية والإسلام أنفسهم، الذين لم يشكلوا فلسفياً أكثر من معبر يوصل إلى موطن التقليد الأصلي. وكانت أوروبا الغربية كلما ابتعدت أكثر عن الإمبراطورية باتجاه الدولة الوطنية المستقلة عن سلطة الكنيسة في روما، كلما تعمقت أكثر في بئر التقليد الفلسفي اليوناني، إلى أن بلغت من الشروط الموضوعية ما يكفل لها حرية تامة ومطلقة في الفكر والبحث خلال العصر الحديث. عندئذ تهيأت لها الشروط الموضوعية اللازمة لكي تعيد إنتاج بذرة التقليد الفلسفي اليوناني الأولية المدفونة في تربة أثينا القديمة في تقليد معاصر مبهر غير وجه ومعالم العالم.

حوار مع فاطمة البلغيتي وعمر ازيكي - جمعية اطاك المغربية حول سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، اجرت
حوار مع د. طلال الربيعي حول الطب النفسي واسباب الامراض النفسية اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وتحليلها، اجرت