|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
آصف ملحم
2022 / 12 / 10
أثار انسحاب القوات الروسية من الضفة اليمنى لنهر خيرسون (دنيبر) إلى الضفة اليسرى حفيظة المراقبين والمحللين والباحثين على امتداد العالم؛ إذ حاول كل فريق تفسير ذلك انطلاقاً من موقفه الإيديولوجي المسبق أو استناداً إلى أحلامه وأمنياته؛ فجاءت معظم هذه التقديرات مجانبة للصواب تماماً؛ لأنها لم تدرس الموضوع في جميع مستوياته وأبعاده.
سنحاول في هذه المقالة إستجلاء الصورة، علّنا نقف على حقيقة الموقف الروسي وماهية الصراع في أوكرانيا. وفي هذه الرحلة البحثية لن نتلطى خلف نظرية المؤامرة ولن ننطلق من موقف إيديولوجي مسبق، كما أننا لن نحاول مقاربة الواقع من بعيد استناداً إلى أحداث تاريخية قديمة بغية التأثير على القارئ الكريم، بل سنتناوله في إطاره المكاني-الزماني الحقيقي، معتمدين على الترابط السببي للأحداث فقط.
يجدر بنا قبل الخوض في التفاصيل إلقاء نظرة على الوضع الديموغرافي والجغرافي والإداري لمقاطعة خيرسون، فهذا سيساعدنا على الوصول إلى تقييم موضوعي للمسألة.
تبلغ مساحة مقاطعة خيرسون 28461 كيلومتراً مربعاً، أما عدد السكان فيتأرجح بين مليون نسمة ومليون و 100 ألف نسمة، وفق الإحصاءات المختلفة المنشورة قبل الحرب الروسية-الأوكرانية؛ إذ أنه لا يوجد معلومات دقيقة حول الواقع الديمغرافي بسبب الحرب؛ كما أن هذه المعلومات غير موثوقة.
تتألف مقاطعة خيرسون من خمس مناطق إدارية:
1- منطقة بيريسلافسكي، مساحتها 4760 كيلومتراً مربعاً، وعدد سكانها حوالي 99.1 ألف نسمة، وتقع هذه المنطقة كلها على يمين نهر دنيبر.
2- منطقة غينيتشيسكي، مساحتها 3008 كيلومتراً مربعاً، وعدد سكانها حوالي 122.4 ألف نسمة، وتقع بالكامل على يسار نهر دنيبر.
3- منطقة كاخوفسكي، مساحتها 6395 كيلومتراً مربعاً، وعدد سكانها حوالي 224.7 ألف نسمة، وتقع بالكامل على يسار نهر دنيبر.
4- منطقة سكادوفسكي، مساحتها 5244 كيلومتراً مربعاً، وعدد سكانها حوالي 127 ألف نسمة، وتقع بالكامل يسار نهر دنيبر.
5- منطقة خيرسونسكي، مساحتها 3649 كيلومتراً مربعاً، وعدد سكانها حوالي 464 ألف نسمة، ونهر دنيبر يقسمها إلى قسمين، قسم على يسار النهر وقسم على يمينه.
في منطقة خيرسونسكي يوجد 106 مدينة و بلدة و قرية وتجمع سكني، منها 74 على يمين النهر، بما في ذلك مركز المقاطعة (مدينة خيرسون)، والباقي (أي 32) على يسار النهر. مساحة القسم الأيمن 2215 كيلومتراً مربعاً ويقطنه حوالي 392204 شخصاً، أما مساحة القسم الأيسر فهي 1468 كيلومتراً مربعاً ويقطنه 69989 شخصاً.
بحسابات بسيطة نجد أن مساحة القسم الأيمن من مقاطعة خيرسون 6975 كيلومتراً مربعاً، أي أنه أصغر من مساحة جزر الكوريل المتنازع عليها بين روسيا واليابان؛ فهذا القسم لا يشكل سوى 24.5% من مساحة المقاطعة، كما أن عدد سكانه أقل من نصف عدد سكان المقاطعة بقليل، وتحديداً يتراوح بين 45-49% من مجمل سكان المقاطعة.
في الحقيقة، تساعدنا هذا المعطيات على حل مجموعة من الأسئلة، كما أنه، على خلفيتها، تبرز أسئلة أخرى، سنحاول الإجابة عليها جميعاً.
بناءً على هذه المعطيات، لا تشكل هذه المنطقة الصغيرة أهمية إستراتيجية بالنسبة لروسيا، خاصةً إذا علمنا أن روسيا لم تتنازل عنها، بل سحبت قواتها من هناك فحسب؛ فالمعركة الحقيقية لا تدور أساساً حول هذه البقعة الجغرافية، كما أن موضوع الصراع بمجمله لايرتبط بأي أرضٍ؛ فروسيا دولة شاسعة ولن يزيد مساحتها كثيراً ضم بعض الأجزاء الصغيرة إليها.
بعد الإنسحاب من الضفة اليمنى، قامت القوات الروسية بتدمير جميع الجسور التي تربط ضفتي نهر دنيبر، فأصبح هذا النهر بمثابة عائق طبيعي بين القوات الأوكرانية والروسية؛ فهو نهر عريض، إذ لا يقل عرضه عن 500 متراً في أضيق الأماكن. فالقوات الروسية في مأمن محكم و طويل الأجل من أي هجومات معاكسة قد تشنها القوات الأوكرانية؛ فالهجومات المعاكسة كانت تعتمد على أسلوب حرب العصابات، متخذة من التجمعات السكنية دروعاً بشرية، لذلك كان يصعب على القوات الروسية التعامل معها وصدها بالطيران والمدفعية والصواريخ.
ليس هذا فحسب، بل إن هناك عائق طبيعي لا يقل أهمية عن نهر دنيبر وهو نهر (يوجني بوك) أو نهر بوك الجنوبي Southern Bug، طوله حوالي 806 كيلومتراً، وهو نهر داخلي يصب مع نهر دنيبر في بحيرة شاطئية واحدة، تسمى بحيرة دنيبر-بوك. ينبع نهر بوك من مقاطعة خميلنيتسكي غرب أوكرانيا ويمر عبر مقاطعات فينيتسا و كيروفاغراد و نيكولاييف، فهو بذلك يقسم نيكولاييف إلى قسمين، أما مدينة نيكولاييف نفسها، مركز المقاطعة، فهي تقع على يسار نهر بوك، وهي تشكل نقطة الإمداد الوحيدة للقوات الأوكرانية المتمركزة في خيرسون، وبذلك تكون القوات الأوكرانية قد تحاصرت بين نهرين كبيرين، دنيبر وبوك، وهذا في الواقع سيسهل مهمة القوات الروسية في نيكولاييف و أوديسا.
تستعد القوات الروسية للهجوم على نيكولاييف و أوديسا في المستقبل القريب، فهذا سيؤدي إلى عزل أوكرانيا كلها عن البحر الأسود من جهة، كما أنه سيساعد في إعادة جمهورية ترانسنستيريا الملدافية غير المعترف بها إلى الوطن الأم روسيا؛ فهذه الجمهورية تمتد على طول نهر دنيتسرا ضمن ملدافيا على امتداد الحدود الملدافية-الأوكرانية بمحاذاة مقاطعة أوديسا. يبلغ عدد سكان ترانسنستيريا حوالي نصف مليون نسمة، جميعهم من الروس كما أنهم يتمتعون بالجنسية الروسية. وفق المعلومات الواردة من هناك، فإن سكان هذه الجمهورية ينتظرون هذا التحول الجغرافي الكبير، بأن تصبح أرضهم متواصلة برياً مع وطنهم الأم، بفارغ الصبر.
حاولت الولايات المتحدة تأجيج مسألة ترانسنستيريا بين روسيا وملدافيا بعد اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية مباشرة، بهدف فتح جبهة جديدة في وجه روسيا. فلقد زار وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكين، ملدافيا، في السادس من آذار الماضي وعقد مؤتمراً صحفياً مع السيدة مايا ساندو رئيسة ملدافيا. في تلك الزيارة، لم يدعم بلينكين حيادية ملدافيا من الحرب الروسية-الأوكرانية فقط بل إنه عرض فكرة منح جمهوية ترانسنستيريا وضعاً خاصاً! لم يحدد بلينكين وقتها ماذا كان يقصد بعبارة (وضع خاص)، لذلك بدت تلك الزيارة وكأنها محاولة لـ (جس نبض) القيادة الملدافية؛ إذ أنه بعد أسبوع تقريباً اتخذت الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا قراراً باعتبار ترانسنستيريا منطقة محتلة من قبل روسيا. تبين أن الرئيسة ساندو، بالرغم من ميولها الأوروبية، سيدة حكيمة إذ أعلنت وقتها بأنها تبحث عن حل لمسألة ترانسنستيريا عبر المباحثات مع روسيا و بالطرق السلمية.
بالعودة الآن إلى الهجومات الأوكرانية المعاكسة؛ إذ أنه لا بد من التوسع في هذه النقطة نظراً لأهميتها. وفي هذا الصدد، أعتقد أنه من المناسب إيراد عبارة السيدة ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم الخارجية الروسية، التي كتبت بتاريخ 20 أيلول الماضي في حسابها على التلغرام مايلي: (انعكست هجومات زيلينسكي المعاكسة سلباً على أوكرانيا. لقد دمّر جوكر كييف الدموي في لعبة الورق الأمريكية البلاد والشعب اللذان إئتمناه). وعبارة زاخاروفا حقيقةً تلخص الغرض من هذه الهجومات المعاكسة؛ لأن الولايات المتحدة الأمريكية دعمت هذه الهجومات بهدف إنهاك الجيش الروسي واستنزافه، وليس للإنتصار على روسيا وتحرير الأراضي التي ضمتها روسيا. إذ أنه لا تستقيم دعوى الدول الغربية بعدم إمكانية تقديم دعم عسكري لكييف يكسر توازن القوة مع روسيا مع الرغبة بطرد القوات الروسية من هناك؛ فكيف، إذاً، يمكن طرد القوات الروسية من أوكرانيا إذا لم تكن أقوى منها؟! ولو كان حلف الناتو صديقاً لأوكرانيا لدخل بكل ثقله على خط هذه الأزمة؛ فتصريحات أمينه العام بأن الحلف ليس طرفاً في الصراع تكررت إلى أن أضجرت. لذلك لاحظنا أن الدعم العسكري الغربي كان مقنناً و مدروساً، والهدف ليس فقط استنزاف روسيا، بل أيضاً يوجد خوف حقيقي من ردة الفعل الروسية؛ فالرئيس بوتين أعلن في أكثر من مناسبة أنه سيتم الرد بقوة وعنف وحسم على أي دعم عسكري من شأنه أن يشكل تهديداً إستراتيجياً لروسيا.
على هذه الخلفية، يمكن فهم الإنسحابات المختلفة للقوات الروسية من بعض المناطق بالرغم من قدرتها الكبيرة على سحق القوات المهاجمة، إلا أن ذلك سيخلف أعداداً كبيراً في صفوف المدنيين القاطنين في تلك المناطق. فعلى سبيل المثال، تسلل إلى مدينة إيزوم 1500 جندياً أوكرانياً، ولكنهم إختبأوا بين بيوت المدنيين، لذلك كانت ستكلف عملية تصفيتهم الكثير من الأرواح البريئة هناك. فالغاية من انسحابات الجيش الروسي هي عدم إعطاء هذه الفرصة الثمينة لزيلينسكي بشن مثل هذه الهجومات.
وهكذا، بالرغم من الإنسحابات المتعددة للقوات الروسية في أماكن مختلفة من أوكرانيا، إلا أنه تم التركيز بشكل كبير على الإنسحاب من خيرسون؛ لأن خيرسون أصبحت أرضاً روسية بعد الإستفتاء الذي جرى هناك، وبالتالي هي جزء من السيادة الروسية. وقد نتحدث في مناسبات أخرى عن الإستفتاء في خيرسون وطبيعة التركيبة الإجتماعية-الثقافية للسكان الذين فضّلوا البقاء ضمن السيادة الأوكرانية؛ لأنه كما نعلم حصلت تغييرات ديموغرافية كبيرة في تلك المنطقة؛ فأمواج النازحين من مناطق الإشتباكات لم تتوقف منذ بداية المعارك، كما أن روسيا أجلت أعداداً كبيراً من المدنيين من يمين النهر إلى يساره.
من المؤكد أنه تم الإتفاق على خطوة الإنسحاب هذه بين جميع الأطراف؛ لأن القوات الروسية انسحبت ودخلت محلها القوات الأوكرانية دون أي اشتباكات بين الطرفين.
هناك من حاول الربط بين الإنسحاب من خيرسون و تصريح الجنرال سورافيكين على قناة روسيا 24 في أكتوبر الماضي عن (قرارات صعبة في خيرسون). لكن اللافت في هذه القضية أن مقابلة الجنرال سورافيكين جرت بتاريخ 18 أكتوبر، وفي اليوم التالي مباشرةً، أي بعد بضع ساعات فقط، صدرت عن معهد دراسات الحرب في واشنطن دراسة عن الوضع في خيرسون؛ كان مؤلفو هذه الدراسة أول من أشار إلى إمكانية الإنسحاب من خيرسون بناءً على عبارة سورافيكين (قرارات صعبة). ولقد أثار هذا التفسير الأحادي إستغراب العديد من المراقبين في روسيا؛ لأن روسيا بدأت تعزيز دفاعاتها هناك، ولم يكن الإنسحاب وراداً أصلاً.
بعض الخبراء في أوروبا أعطى تفسيراً مختلفاً لعبارة سورافيكين، بأن روسيا قد تُقدِم على استخدام السلاح النووي التكتيكي في خيرسون؛ والحقيقة أن سياق الأحداث في ذلك الوقت يوحي بذلك؛ لأن روسيا بدأت إجلاء المدنيين من يمين النهر إلى يساره، هذا من جهة، من جهة أخرى، تسربت بعض المعلومات من هيئة الأركان الأوكرانية بأن معركة خيرسون هي فخ لأوكرانيا تحاول روسيا إستجرارها إليه؛ لأن تجميع القوات الأوكرانية على يمين النهر سيجعل منها هدفاً سهلاً للقوات الروسية، من جهة ثالثة، لا يوجد في أوكرانيا هدف يستحق الضرب بالسلاح النووي؛ إلا أن تجميع القوات في ذلك الحيز الجغرافي الضيق قد يجعل استخدام السلاح النووي ممكناً.
إضافة إلى ذلك كله، صدرت بعض التصريحات عن المستشارة الألمانية السابقة ميركل بأنه يجب أخذ تهديدات بوتين باستخدام السلاح النووي على محمل الجد؛ والحقيقة أن ميركل هي أكثر من يفهم بوتين من بين جميع القادة الغربيين. علاوة على ذلك، صرح الرئيس الأمريكي نفسه لاحقاً، وفقاً لما نقلته وكالة سي إن إن، في بداية أكتوبر بأن بوتين لم يكن يمزح حول إمكانية إستخدام السلاح النووي.
فضلاً عن ذلك، كان إعلان التعبئة الجزئية في روسيا نقطة تحول بارزة في الصراع ورسالة واضحة للغرب بأن روسيا لن تتراجع عن أهدافها مهما كلفها ذلك من ثمن. لذلك نلاحظ أن روسيا بعدها بفترة قصيرة بدأت قصف البنى التحتية الإستراتيجية و الحساسة في أوكرانيا، وكان واضحاً للجميع أن التصعيد الروسي سيستمر، وفي غضون أسابيع سيتم إخراج أوكرانيا من الحياة؛ لأن محطات الطاقة و المصانع ستتوقف تماماً، كما أنه سيتم شل المنشآت والمؤسسات الخاصة والعامة هناك.
لذلك، أدرك الغرب حقيقة إمكانية وصول الصراع إلى نقطة اللاعودة، وأن روسيا قد تستخدم السلاح النووي في خيرسون، وهذا سيكون تطوراً خطيراً في سير المعارك؛ فبالرغم من الضغوطات الكبيرة التي مارستها بعض لوبيات الحزب الديمقراطي لخوض معركة خيرسون بأي ثمن و ضرورة تحقيق انتصار فيها قبل بدء الانتخابات النصفية في الكونغرس الأمريكي، يبدو أنه جرى البحث عن تسوية ما، تساهم في تبريد المعارك هناك، وبالتالي ضبط الصراع والتحكم بتحولاته.
إضافة إلى ما سبق، أصبح زيلينسكي والمسألة الأوكرانية يشكلان مصدر إزعاج وعبء على الغرب، ففي بريطانيا يُنظر إلى زيلينسكي على أنه أصبح مصدر امتصاص للمال في ظل ظروف إقتصادية وإجتماعية صعبة تمر بها البلاد.
و قبل الإنتقال إلى دراسة الصراع في المستوى الدولي، لابد من التعريج على مجموعة المسلّمات، التي لا يختلف حولها الخبراء والباحثون، وهي:
- لكل حرب نهاية، أو نهايات لمراحل معينة فيها، إذ أنه لا يمكننا أن نتصور صراعاً بلا نهاية.
- يجب أن يكون لكل حرب أهداف سياسية؛ فالحروب معاناة وخسارة، ولا يخوضها أحد رغبةً فيها.
- لا يمكن حسم هذا النوع من الحروب بالضربة القاضية.
- لا يجوز تطوير هذه الحرب إلى حالة من الإشتباك بين القوى العظمى؛ لأنه قد يتم استخدام السلاح النووي، و هذا خيار مدمر للجميع.
- في كل نزاع لا بد من تحديد عناصره بدقة، لكي نكون قادرين على فهمه وتحليله. ولقد اتفق الأكاديميون على أن للصراع 5 عناصر رئيسية: اللاعبون، الداعمون، موضوع الصراع، فضاء الصراع، النماذج الإعلامية.
يجب أن لا يساورنا الشك ولو لحظة بأن الموضوع الحقيقي للصراع ليس قطعة من الأرض، لا تتجاوز مساحتها بضع آلاف من الكيلومترات، بل إن الموضوع الحقيقي هو (الأمن في أوروبا). لذلك فاللاعبون الحقيقيون هما روسيا من جهة و الغرب من جهة أخرى، على الرغم من أن الدول الغربية تتلبس دور الداعم للصراع، إلا أن هذا لا ينطلي على أحد؛ فلا فرق بأن يكون من يحارب على الأرض جندي أوكراني أو جندي من جنود الناتو. أما فضاء الصراع فما زال منحصراً ضمن أوكرانيا؛ على الرغم من أن روسيا كانت مستعدة لتوسيعه إلى أقصى درجة ممكنة، إلا أن اتساع فضاء الصراع ليشمل دول أخرى لا يرتبط بروسيا لوحدها فحسب، وسنُعرّج على هذه النقطة عند دراسة الموقف الصيني من الحرب.
من نافلة القول، أحد الثوابت في السياسة الأمريكية هو الجنوح للمفاوضات عند الشعور بأدنى درجات الخطر، بالرغم من أن هذا الجنوح قد يكون مجرد مرواغة ومناورة لا أكثر، وهذا الأمر تدركه روسيا جيداً. لذلك لاحظنا تكاثف و تواتر التصريحات والإستفزازات عند جميع الأطراف في الأسابيع التي سبقت الإنسحاب الروسي في خيرسون، وهذا كله أوحى بوجود مقترحات معينة أو مشاورات معينة يجري العمل على بلورتها للدخول في مرحلة التفاوض.
لذلك نلاحظ أن زيلينسكي بتاريخ 20 أكتوبر، في مقابلةٍ مع قناة سي تي في الكندية، قال: حسب علمي، أوكرانيا لا علاقة لها بتفجير جسر القرم! و هذا التصريح هو محاولة غير موفقة للتملص من الحادثة؛ لأنه، إن لم تكن أوكرانيا هي الفاعل فهو أحد داعميها بالتأكيد، والحقيقة أنه لا فرق بين الطرفين. مع العلم أن زيلينسكي وداعميه الغربيين يدركون جيداً أن التصعيد الروسي الكبير في بداية أكتوبر لم يأتِ رداً على تفجير جسر القرم، بل أنه رد على الهجومات المعاكسة التي كان يقوم بها زيلينسكي، وتفجير جسر القرم أضاف سبباً جديداً فقط. لذلك، فالأرجح أن زيلينسكي أطلق ذلك التصريح استجابة لطلب بعض اللوبيات الغربية، لأن الشارع الأوروبي ينظر إلى ذلك التفجير على أنه (عمل إرهابي).
في نفس اليوم، تم تسريب خبر مفاده، بأن الاستخبارات البريطانية (إم أي 6) قدمت معلومات لمكتب الرئيس زيلينسكي ولهيئة الأركان الأوكرانية بأن الكرملين وافق على قصف سد كاخوفكا، مع العلم أن تدمير السد سيؤدي إلى إغراق مناطق يسار النهر حيث تتمركز القوات والمعدات العسكرية الروسية بشكل أساسي، وبالتالي فهو أمر مستبعد تماماً.
الغاية من هذه الرسائل و التسريبات غير الواقعية و التصعيد الكلامي هي تهيئة الرأي العام للمفاوضات، أو جس نبض كل طرف، والحقيقة أن الإستخبارات البريطانية تقدم مساعدات جليلة للقيادة الأوكرانية في صناعة هذا النوع من الإستفزازات و الإبتزازات وتوجيه رأي الشارع الغربي والعالمي، ومن وقتها بدأ الحديث عن دخول اللاعبين الدوليين على خط معركة خيرسون، وإمكانية تحقيق (تسوية ما).
في اليوم التالي، أي 21 أكتوبر، اتصل وزير الدفاع الأمريكي مع وزير الدفاع الروسي بمبادرة من الأول، وفي نفس اليوم تم تسريب خبر من المكتب الوطني لمكافحة الفساد في أوكرانيا بأن هذا المكتب يقوم بتجهيز بعض ملفات الفساد ضد زيلينسكي ومدير مكتبه يرماك بتعليمات من بعض الأطراف الغربية.
لا يمكن فهم فتح ملفات الفساد في أوكرانيا، وهي كثيرة ويعلمها الجميع حتى قبل الحرب، إلا في سياق واحد، وهو الضغط على زيلينسكي للقبول ببعض الشروط التي اقترحتها الأطراف الغربية. والحقيقة أن روسيا نفسها لا ترغب بإزالة زيلينسكي من السلطة، لأن المشكلة لا تكمن فيه أصلاً، كما أنه يقدم خدمات جليلة لها؛ فمن مصلحة روسيا أيضاً التخفيف من إيقاع الأحداث و جعل الصراع بطيئاً، لأن ذلك سيساعدها على التحكم به وإدارته؛ وهي بذلك تلعب بنفس الأسلوب الغربي، لذلك فبقاء زيلينسكي أو التيار الذي يمثله (أي التيار الفاشي) في سدة الحكم سيمنحها عنصراً إضافياً للمناورة؛ فأي مولود ناتج عن المزواجة بين الفاشية والليبرالية هو مولود مشوهٌ ولا يمكن خداع المواطن الغربي في هذه النقطة. لذلك لم يكن كلام الرئيس بوتين عبثاً عندما قال، في مقابلته مع صحيفة الفايننشال تايمز، عام 2019 على هامش قمة العشرين في مدينة أوساكا اليابانية: (برأيي، لقد انتهت صلاحية الفكرة الليبرالية، فبعض عناصرها غير واقعية، و هذا يعترف به العديد من شركائنا الغربيين).
في نفس ذلك اليوم، أي 21 أكتوبر، برز تصريح الرئيس التركي أردوغان بأنه لمس عند الرئيس بوتين مرونة أكبر من المفاوضات، مع العلم أن روسيا كانت تكرر على لسان جميع مسؤوليها بأنها مستعدة للمفاوضات، إلا أن ورود هذا التصريح على لسان الرئيس التركي له دلالات أخرى.
لذلك، فإننا نميل إلى الإعتقاد بأن وزير الدفاع الأمريكي في اتصاله قدم مقترحاً ما لروسيا، ويبدو أن هذا المقترح لقي قبولاً عن القيادة الروسية؛ لذلك نلاحظ أن اتصالات وزير الدفاع الروسي مع وزراء دفاع تركيا وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة تكثفت بعد يومين فقط، أي بتاريخ 23 أكتوبر.
يبدو أن الصيغة النهائية للمقترح الأمريكي تبلورت بتاريخ 4 نوفمبر، بعد زيارة مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، إلى كييف، لذلك أُصطلح على تسمية هذا المقترح بـ (صيغة سوليفان). استغلت روسيا فترة المشاورات تلك، أي بين 23 أكتوبر و 4 نوفمبر، في فضح نظام كييف وداعميه؛ إذ أثارت موضوعي القنبلة القذرة وملف المخابر الأمريكية السرية للأسلحة البيولوجية في أوكرانيا، وهذا في الحقيقة شكّل ضغطاً إعلامياً و سياسياً و أخلاقياً على أوكرانيا والدول الغربية، في الفترة التي تحاول الأخيرة الوصول إلى تسوية ما.
يبدو بوضوح أن انسحاب روسيا من يمين ضفة نهر دنيبر إلى يساره هو أحد بنود (صيغة سوليفان)، ولكن لم يتضح البديل الذي قدمه زيلينسكي لروسيا مقابل هذا الإنسحاب؛ فمن وقتها، في الحقيقة، بدأت الإستفسارات في الأوساط البحثية والإعلامية السياسية الروسية تتوالى، وجميعها يطرح السؤال الوحيد: هل سيلتزم زيلينسكي بذلك (البند المخفي) في صيغة سوليفان؛ لأن جميع الأحداث السابقة، منذ انقلاب 2014، توحي بأن القيادة الأوكرانية تتصرف بطريقة غير مسؤولة.
يوحي سير الأحداث بأن زيلينسكي يحاول التملص، لذلك لاحظنا بأنه تم اختلاق مسرحية سقوط صواريخ الدفاع الجوي في بولونيا، وهي دولة من دول الناتو، وما تلاها من روايات وتلفيقات بغية اتهام روسيا أو بيلاروسيا. وهذا الحدث جرى بعد يوم واحد من الإجتماع الذي جرى بين مدير الإستخبارات الخارجية الروسية، سيرغي ناريشكين، ومدير السي آي إي، وليم بيرنز في أنقرة. لذلك نلاحظ أن بيرنز غادر أنقرة إلى كييف مباشرة بعد يوم واحد فقط، وتشير بعض المصادر إلى أن بيرنز حذر زيلينسكي و يرماك من مغبة التلاعب مع واشنطن؛ لأن بحوذة الأخيرة معلومات مؤكدة عن كل الحسابات المصرفية للنخبة الحاكمة في أوكرانيا، وتستطيع فتح جميع ملفات الفساد المتعلقة بالقيادة الاوكرانية.
فضلاً عن ذلك، قامت السلطات الأوكرانية بإعدام بعض أسرى الحرب الروس، وهذا في الحقيقة محاولة من النظام الأوكراني لحرف الإهتمام إلى مواضيع أخرى، ونسيان التعهدات التي قدمها سراً أمام سوليفان؛ لأنه يدرك جيداً أن روسيا لن تسكت عن هذه القضية، وستقوم بتحريك هذا الملف في كل المنظمات الدولية.
يبرز، من جديد، السؤال الملح التالي: لماذا وافقت روسيا على الإنسحاب من خيرسون؟
كما أشرنا سابقاً، لا يمكن للحرب أن تستمر إلى ما لا نهاية؛ لذلك فالقيادات الحكيمة تدرس جميع المقترحات المقدمة لها، فإن وجدت فيها عناصر إيجابية فلِمَ لا يتم الأخذ بها؟!
لذلك، فإننا نعتقد بأن السؤال الأجدر بالطرح: ماذا حققت روسيا بهذا الإنسحاب؟
وللإجابة على هذا السؤال سنعود إلى الواقع الميداني في خيرسون نفسها؛ إذ يتفق الجميع على أن المعركة في خيرسون كانت ستكون صعبة جداً على الجيش الروسي، لذلك فكلفة الإنتصار فيها عالية جداً؛ فالدعم اللوجستي للقوات الموجودة على يمين النهر صعب للغاية؛ فهذه المنطقة مرتفعة مقارنة مع مناطق يسار النهر، التي تقع فيها نقاط الإمداد، كما أن النهر نفسه يشكل عائق طبيعي بين نقاط الإمداد و الجبهات.
إضافة إلى ما سبق، فإن اضطرار روسيا لاستخدام السلاح النووي في تلك المنطقة سيؤدي إلى تحويل الصراع باتجاهات أخرى ليست في مصلحة روسيا؛ إذ قد تتخلى الكثير من الدول عن موقفها الداعمة لها.
لذلك فإننا نعتقد بأن روسيا، بهذا الإنسحاب، قدمت بكل بساطة (لا شيء) تماماً؛ فهي قطعة من الأرض، أَجْلَتْ محبيها منها ولم يبقَ فيها إلا الشجر والحجر من وجهة النظر الروسية.
وفي هذا السياق تحديداً، يجدر طرح السؤال: ماذا جنى زيلينسكي باستعادة تلك المنطقة؟ فقواته دخلتها، وماذا بعد؟ وهذا السؤال نوجهه إلى أولئك الذين ينتقدون الإنسحاب الروسي على كل منبر!
على المستوى الأوروبي والغربي عموماً، أرسلت روسيا بانسحابها رسالة ذكية و واضحة بأنها مستعدة للقيام بتنازلات (صعبة) مقابل السلام، وهذا نقطة جديدة تسجلها روسيا في المرمى الأوروبي؛ لأن الآلة الإعلامية الغربية دأبت على تصوير روسيا بصورة الوحش المعتدي الطامع في أراضي الآخرين والترويج لمفاهيم الروسوفوبيا وتأجيج الكراهية ضد الروس والثقافة الروسية.
مما لا شك فيه أن روسيا تدرك جيداً طبيعة خصومها الغربيين، لذلك ستكون الخطوة الروسية مناورة إذا فهمها الغرب على أنها مناورة، أما إذا فهمها الغرب على أنها بادرة حسن نية من روسيا لإيجاد حل طويل الأمد بين الطرفين فستسير روسيا في هذا الإتجاه، لأن استمرار الحرب هو خسارة للجميع. والحقيقة أنه لا يمكن تصور حل طويل الأجل بين روسيا والغرب، وهذا واضح، لأن الحل يعني انفصام جناحي الناتو عن بعضهما البعض. فهل الأوروبيون مستعدون لتطبيق مبدأ (السيادة الدفاعية الأوروبية) التي طرحته ميركل في عام 2019 ودافعت عنه فرنسا بقوة، وبالتالي إرساء قواعد راسخة للأمن في أوروبا بالتوافق مع روسيا؟ يؤكد الواقع أن هذا الموقف لم ينضج بعد في أوروبا؛ فالسيادة الدفاعية تتطلب قوة عسكرية وليس فقط قوة إقتصادية.
بذلك تكون روسيا قد أعادت أوروبا إلى المربع الأول، لأن موضوع الصراع بالأساس (الأمن في أوروبا)؛ فلقد حوّلت الولايات المتحدة الأمريكية، فهي دماغ الناتو وعضلاته، أوكرانيا إلى مختبر لتجاربها الجيوسياسية، والهدف الحقيقي هو إنشاء موطئ قدم لها في أوكرانيا وفي أورويا الشرقية لمواجهة روسيا بدون أخذ أمن الدول الأوروبية بعين الإعتبار، فهذه الدول قد تتحول إلى ساحة مواجهة بين واشنطن و موسكو في أي لحظة.
لذلك نلاحظ أن روسيا ماضية في قصف البنى التحتية الأوكرانية، كما أنها تُعِد العدة للهجوم على نيكولاييف وأوديسا، كما أشرنا سابقاً؛ فالقيادة الروسية تدرك جيداً أنه ليس من مصلحتها التخلي عن أوراق الضغط هذه.
على الصعيد الدولي، حاولت روسيا مع شركائها الآسيويين وغيرهم تشكيل تحالف جديد؛ فكلنا يذكر الجولات التي قام بها الرئيس بوتين و وزير خارجيته على جميع البلدان الآسيوية والأفريقية تقريباً، حيث تم الترويج لمشروع روسيا بــ (إنهاء الهيمنة الأمريكية) في العالم؛ ولكن لا يمكن لروسيا أن تنهي هذه الهيمنة إلا بالتعاون مع الدول المتضررة منها. لذلك كان الطرح الروسي على الشكل: نحن مستعدون لحماية جميع من ينضوي ضمن هذا التحالف تحت مظلتنا النووية، وتفعيل شكل من أشكال التكامل الإقتصادي القائم على مبدأ التخصص التكاملي، النابع بدوره من تنوع الموارد في البلدان المنضوية ضمن ذلك التكتل الإقتصادي.
تبين لاحقاً أن مواقف هذه الدول متفرقة وأهواءهم مختلفة. فلقد اكتفت الصين، وهي الحليف الأكبر لروسيا، بالتصريحات بعد زيارة نانسي بيلوسي وبعض أعضاء الكونغرس الأمريكي إلى تايوان. كما أن تركيا، على الرغم من صداقتها القوية مع روسيا، وعلى الرغم من أن الفضل في مد نفوذها في فضاء الشعوب التركية يعود إلى روسيا، ما زالت عضواً في الناتو، بالرغم من دعم الأخير للمزاج الإنفصالي عند الأكراد. باكستان وإيران منشغلتان بمشاكلهما الداخلية. العالم العربي يعاني من اختلافات حادة بين دوله. أما الدول الأفريقية فهي تعاني من الفقر والإضطرابات السياسية والفساد. كما أن مشاكل الدول الأمريكية الجنوبية لا تقل عمقاً عن مشاكل الدول التي ذكرناها في الأعلى. أي، باختصار، مواقف هذه الدول جميعها لم ينضج بعد، لذلك تحتاج روسيا إلى فترة من التهدئة لإعادة تقييم خارطة تحالفاتها، و بلورة رؤيتها للنظام الدولي الجديد الذي تتحدث عنه منذ سنوات؛ والحقيقة أن بذور هذا النظام الدولي الجديد بدأت تنمو، وخاصة ضمن مجموعة بريكس والتكامل الأوراسي الكبير.
على هذه الخلفية، و في ظل غياب نص منشور لصيغة سوليفان، فإننا نعتقد أن تغض الولايات المتحدة النظر عما تفعله روسيا في أوكرانيا و أوروبا الشرقية (إلى حد ما) بسبب انشغالها بالصين مقابل وقوفها على الحياد حيال السلوك الأمريكي في بحر الصين ومنطقة جنوب شرق آسيا؛ لذلك نلاحظ أن الرئيس الأمريكي زار دول رابطة آسيان فوراً والهدف هو تقويض الجهود الروسية الصينية في إنجاز التكامل الأوراسي. وهكذا، فمن المرجح أن تقف روسيا على الحياد فترة قصيرة من الزمن فقط، لأن ذلك سيساعد على إنضاج الموقف الصيني الغامض ومواقف الدول الدائرة في فلكها؛ فروسيا قدمت ما في وسعها؛ فهي تخوض حرباً بشعبها و بجيش بلادها الوطني، ولا يستطيع أحد إنكار ذلك عليها، لكنها غير مستعدة أن تحارب عن البشرية كلها!
على الصعيد الروسي الداخلي، حاولت الآلة الإعلامية الأوكرانية والغربية استغلال التعبئة الجزئية بهدف تحريض الشعب الروسي ضد قيادته؛ لأن، في الحقيقة، الشعب الروسي منشغل بأعماله ويعتبر الحروب والعمليات العسكرية هي من وظيفة المؤسسة العسكرية؛ لذلك كانت التعبئة الجزئية علامة فاصلة في سيرورة الصراع؛ لأنها مسّت المواطنين الروس بشكل مباشر. والمراقب يلاحظ أن تلك الآلة الإعلامية بدأت التركيز على الأخطاء المرتكبة في الإستدعاءات العسكرية وتضخيمها إلى درجة بلغت حد الإبتزال. لذلك فإن الإنسحاب الروسي في خيرسون وجّه ضربة قوية لأولئك الذين يروجون للرأي القائل بأن القيادة الروسية هي قيادة مغامرة ومستعدة للتضحية بالشعب الروسي من أجل (مصالحها الضيقة). مع العلم أن هذه الآلة الإعلامية نفسها حاولت أيضاً تصوير الإنسحاب الروسي في خيرسون بأنه ضعف وتهاون وتخلٍ من قبل القيادة الروسية عن واجبها في حماية أرضها وشعبها. وهنا، في الواقع، يبرز النفاق السياسي لمن يقف خلف هذه المنابر، ويكشف حقيقةً أنهم هم من يميل مع كل ريح، و أنهم هم من يبحث عن مكاسب سياسية ضيقة ولا يملك الرؤية الإستراتيجية للصراع.
من المؤكد أنه لا يوجد تحولات استراتيجية في تسوية الأزمة الأوكرانية؛ فعمليات زج السلاح في أوكرانيا مستمرة، لا بل وزادت. قد تتجمد العمليات العسكرية أو ينخفض إيقاعها لفترة من الزمن فقط، خاصةً في مقاطعة خيرسون. لكن زمام المبادرة، وفق جميع المعطيات المتوفرة، ما زالت بيد روسيا؛ فهي المتحكم الأكبر بكل مفاصل الصراع، ولا يزال في يدها العديد من أوراق القوة. لذلك فإن روسيا ستستمر بهذا النهج القائم على الضغط العسكري والسياسي المدروس والمقنن، وعند اقترابها من حدود الناتو سينضج الموقف الأوروبي، كما أن مواقف حلفاء روسيا ستكون قد نضجت أيضاً!
أخيراً، لقد حاولت في هذه المقالة استجلاء جميع الجوانب المرتبطة بانسحاب روسيا في خيرسون، واستثارة أكبر عدد من الأسئلة حوله، ساعياً بكل جهد للإجابة عليها، فإن وُفِقت في ذلك فهذا هو المُبتغى، وإن قصّرت فإن لي في القارئ الكريم عزاء في استكمال النقص وبلوغ الهدف المراد.
*باحث في مركز الأوضاع الإستراتيجية (موسكو).