|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
الطايع الهراغي
2022 / 12 / 6
" قفوا حيّوا المجاهد والعميدا *** وصلّوا لنبوغ قضى شهيدا
قفوا وابكوا الرّجولة والمبادي *** فذا معناهما أمسى لحيدا
.......................
خيالك خالد في كلّ قلب*** وذكراكم ستغدو لدينا عيدا"
(الهادي العبيدي،في تأبين الطّاهر الحدّاد)
"الفطام عن المألوف شديد، والنّفوس عن الغريب نافرة"
(أبو حامد الغزالي- 1058/1111).
"إنّ الأمارة الوحيدة لحرّيّة المرأة هي حرّيّة المرأة، فإذا حصلنا على الحرّيّة الاجتماعيّة للمرأة حصلنا بسهولة على الحرّيّة العامّة والاستقلال".
(أحمد لطفي السّيّد- 1870 /1963)
هذا النّصّ يأمل أن يكون لمسة وفاء وعرفان لكلّ من اكتوى بفكرة سابقة لأوانها فذاب فيها عشقا لأنّها متنطّعة على ما رُسم لها من حدود ومتطاولة على ما أقيم لها من أسيجة ،استثقلها غيره(أفرادا وجماعات) لأنّها أكبر من عقول أرهقتها إشكاليّات العصر وأربكتها تحدّياته فاستكانت إلى الاتّباع وباتت له نصيرا،واستعدت الإبداع فباتت له خصما خصيما، ولّت ظهرها لحاجيات الآن، وتحصّنت بما هو شرعيّ سماويّ إطلاقيّ ثابت ومغلق،وطلّقت ما هو وضعيّ حينيّ متحوّل ومنفتح.اتّكأت على جبروت المقدّس وسطوته لتنتقم من "المدنّس" ولوثته. التحفت بقانون الأمس وبه تدثّرت هروبا من إرهاصات اليوم وعذاباته.
فكرة سكنته فهام بها وعاشها محنة وتحدّيّا. من أجلها قضى نحبه وأفرِد "إفراد البعير المعبّد" وما بدّل تبديلا، وما رام غيرها سبيلا. خذله عصره، تألّب عليه بنو جلدته وتحالف عليه الكلّ، فمات شهيدا في ساحة معركة الفكر مدافعا عن خيمة ليست خيمته وحده ومصير - إن أسعفه الحظّ بتأجيل ساعة رحيله إلى حين- فليس له فيه إلاّ بعض نصيب .
ذلك هو الطّاهر الحدّاد(1899/ 1935) .لقضيّة المرأة خير نصير ولرهان العمّال عزّ الرّفيق .
قلّة هم المفكّرون الذين انغمسوا في الحياة السّياسيّة والفكريّة في "تونس الشّهيدة" منذ مطلع القرن الماضي وطبعوا إيجابا مجريات أحداثها وحرّكوا السّواكن والبرك الرّاكدة، ولم يستوحشوا طريق الحقّ بما هو مغامرة في وعر المسالك. ولعلّ الطّاهر الحدّاد أحدهم، إن لم يكن أهمّهم، بما أثارته أفكاره ومواقفه وسجالاته من تباين وصراعات واستتباعات حول جملة من القضايا الفكريّة والمجتمعيّة، بعضها هو إلى اليوم محلّ خلاف وما انفكّ يثير كثيرا من الجدل، ولازال حسمها مجال عراك إلى يوم النّاس هذا، إن لم يزد استفحالا كلّما أتيحت له الفرصة لينتصب على السّطح من جديد.
01/ الحّداد والذّاكرة النّقابيّة.
الذّاكرة التي لا تشحذ نفسها -وباستمرار- تصدأ وتتآكل.والتّاريخ اختزال لدروس وعبر ما لم نعمل على تمثّلها فلن نضمن عدم إعادة إنتاج القديم في أكثر الصّور مسخا وتشوّها.
الكتاب -لمن آمن ولا زال يؤمن أنّ الكتابة وظيفيّة بالضّرورة حتّى لا تكون نسخة مكرورة بشكل سيّئ- هو ذلك الذي تمليه المرحلة على صاحبه فيكون مستجيبا لما تتطلّبه الحقبة.
أفكار الحدّاد وآراؤه ومعاركه سمتها الأساسيّة التّحريض، ترجمة عمليّة أمينة لما صاغه شعرا والتزم به فعليّا "يا أيّها الشّعب قم للمجد مقتحما **حرب الحياة. فلا عزّ بلا نصب".
مسألتان أساسيّتان شغلتا الحدّاد وطبعتا فكره، وكان له فيهما سبق الرّيادة:المسألة العمّاليّة وقضيّة المرأة.
المسألة الأولى تجد صداها وترجمتها في كتابه "العمّال التّونسيّون وظهورالحركة النّقابيّة" الذي ألّفه سنة 1927 سنتين بعد وأد التّجربة النّقابيّة التّونسيّة الأولى ونفي وتشريد جلّ قياداتها .الكتاب يُعدّ حجر الزّاوية والمفصل التّأسيسيّ في مدوّنة أرشيف الحركة النّقابيّة المتونسة،المصدر الأمّ الذي عليه يتّكئ كلّ الباحثين والمؤرّخين في دراسة وفهم الملابسات والعوامل التي حفّت بإرهاصات تشكّل الفعل النّقابيّ وتونسته ،نقابة تونسيّة لحما ودما مجسّدة في"جامعة عموم العملة التّونسيّة"( 1924 )
إذا كان محمد علي الحامّي، هذا الذي عاد من ألمانيا "بأفكار لا تتّسع لها البلاد"هو عميد الفعل النّقابيّ في تونس وزارع البذرة النّقابيّة الأولى وشهيد الحركة النّقابيّة الأوّل، إليه تعود ريادة التّأسيس، فإلى الحدّاد-ذلك الثّوري المنسيّ- تعود ريادة التّــأريخ وعبء التّوثيق وصون الذاكرة. مع أنّ فضل التّأريخ لا يقلّ قيمة عن فضل التّأصيل والغرس.أيّة ذلك أنّ أيّة تجربة ما لم تُوثّق وتُحلّل، ما لم تتحوّل إلى إرث وما لم يقع تمثّلها بوعي وبغائيّة تظلّ دوما عرضة لآفة النّسيان.
ميزة الحداد أنّه يكتب عن قضيّة ماثلة للعيان،هو أحد الفاعلين فيها،عاش مخاضها وعاشر الفاعلين فيها وعايش ولادتها وساهم في بلورتها. ومع ذلك (وتلك ميزته) لا نصيب للأنا في ما دوّن .
أمّا مقدّمة الكتاب - بحكم كونها أقرب إلى الوثيقة التّأسيسيّة- فعجيب أمرها.فالحدّاد أحاديّ اللّسان غير مطّلع بشكل مباشر عمّا يُنشر عن الفكر التّحرّريّ والتّجارب العمّاليّة في الغرب. ليس مهما كيف استطاع تجاوز تلك العوائق. فالمسالة مرتبطة بتخمين. فقد يكون الحدّاد استعان بترجمات من رفاقه. وقد تكون المقدّمة نتاجا لنقاش مع رفيق دربه ونصيره في محنته أحمد الدّرعي . مهما كانت التّخمينات فالمقدّمة منسوبة إليه ، ولا أحد من معاصريه ولا من الباحثين والمؤرّخين شكّك في ذلك. المركزيّ فيها أوّلا التّفطّن وبوعي للدّور الموكول للعمّال وللمكانة التي باتت تحتلّها الشّغيلة - كطبقة اجتماعيّة وليس كذوات متذرّرة- منذ احتلّت مسرح الأحداث في رسم مستقبل الشّعوب والأمم.وقد نقل الحدّاد بكثير من الدّقة والتّفصيل مختلف المنعرجات التي مرّت بها الحركة العمّالية في العالم وما تخللّها من نضالات. وثانيا ترسيخ أهمّيّة التّنظّم النّقابيّ في بلورة وعي العمّال وتمكّنهم من آليّة للدّفاع عن حقوقهم. القسم الثّاني من الكتاب توثيقيّ تسجيليّ فيه تتبّع لمختلف المحطّات التي سبقت التّأسيس الرّسميّ للجامعة .فمن رحم الاعتصابات انبثق التّمثيل العمّاليّ للتّفاوض مع العرف والسّلط. فكان أن حكم على الفعل النّقابيّ أن يكون صداميّا منذ التّأسيس.وتلك إحدى أهمّ خصوصيات الحركة النّقابيّة. خصوصية باتت لازمة طبعت هويّة الفعل النّقابيّ منذ تشكّله الجنينيّ . وفي خضم نقاشات مطوّلة تمكّنت نخبة من المثقّفين من حسم مسألة الانسلاخ من وعن النّقابات الفرنسيّة بعد جدل وتباينات كانت نتيجتها الالتحام بالعمّال لمساعدتهم على الانسلاخ من وعن النّقابات الفرنسيّة وتكوين النّواتات الأساسيّة للإعلان عن ميلاد الجنين: "جامعة عموم العملة التّونسيّة" أسوة بسائر الأمم.
وبعد، أليس غريبا أن ينظّر هذا الزّيتونيّ التّكوين المحاط بوسط محافظ للفكر العمّاليّ المتأصّل أساسا في الغرب، في ثقافة مغايرة وبيئة مختلفة كأشدّ ما يكون الاختلاف.؟؟
2/ كيف نقرأ الموروث؟؟
يمكن دون الخوف من المجازفة إدراج فكر الحدّاد في تناوله للموروث ضمن أهمّ المحاولات في تجديد الفكر الدّينيّ وفي آليّات قراءة المدوّنة التّراثيّة انطلاقا من موضوع معيّن هو قضيّة المرأة كحلقة من حلقات التّقدّم والالتحاق بقطار العصر. ذلك ما ينطق به مؤلّفه "امرأتنا في الشّريعة والمجتمع"، الكتاب الأشهر في تاريخ تونس الاجتماعيّ.
لم يكن الحدّاد رائدا في تناوله لقضيّة المرأة ولا في الانتصار لتحرّرها. فقد سبقه إلى ذلك جملة من روّاد النّهضة مشرقا ومغربا.
فقد ولد الطّاهر الحدّاد في العامّ الذي ألّف فيه الأديب المصريّ قاسم أمين(1863/ 1908)كتابه "تحربر المرأة" ليردفه بكتاب "المرأة الجديدة" (1901).
فأين تكمن إذن بصمة الحدّاد؟؟ وما دلالات الحرب الضّروس التي جوبه بها الكتاب (1930)، وبأكثر ضراوة صاحب الكتاب من قبل إكليروس الزّيتونة والأوساط المحافظة؟؟ وأين تكمن خطورته؟؟
ما تعرّض إليه الحدّاد هو فعلا حرب. فإذا كان قاسم أمين -الذي يعود تأليف كتابيه إلى مطلع القرن العشرين (1899 و1901) قد لاقى مساندة من أهمّ الأوساط الدّينيّة في مصر (محمد عبده ) والسّياسيّة(سعد زغلول زعيم الوفد) والفكريّة(لطفي السّيّد) فإنّ الحدّاد قد قوبل بهجمة تكفير وخلع غير مسبوقة من جلّ الأوساط. يكفي الوقوف عند عناوين الكتب التي أرادها أصحابها انتقاما من الحدّاد وليس نقدا للكتاب.فهذا الشيخ محمد الصّالح بن مراد يسم كتابه "الحِداد على امرأة الحدّاد"، وهذا الشّيخ عمر البرّي المدني يغالي في ردّه بعنوان يرشح بالدّلالات ويخرج من حيّز السّجال إلى حيّز التّنكيل والرّجم"سيف الحقّ على من لا يرى الحقّ" .وماذا عن النّظارة العلميّة لجامع الزّيتونة؟؟هذه توّجت الهجوم على الحدّاد ومؤلّفه بتكليف هيئة من الشّيوخ ترأسها الطّاهر بن عاشور لتقييم الكتاب وتقديم تقرير عنه. في تقريرها أمرت بحجز الكتاب لما جاء فيه من "أقوال تناقض التّعاليم القرآنيّة وتتضمّن عدوانا على مشاعر النّبيّ الأعظم"، ولم تتوان في مراسلة الوزير الأكبر خليل بوحاجب تطلب منه مصادرة الكتاب ومنع ترويجه لما اشتمل عليه "من مخالفات شرعيّة وأقوال لا يسع المسلم السّكوت عنها.". ويكفي أيضا التّذكير بموقف بورقيبة المنتمي وقتها لحزب الدّستور ممثّل التّيّار الحداثيّ بزعامة الشّيخ عبد العزيز الثّعالبي صاحب كتاب "تونس الشّهيدة"، بورقيبة رجل القانون وخرّيج المدرسة الصّادقية وجامعة باريس، الرّجل الذي عُـدّ محرّر المرأة وإليه تُنسب مجلّة الأحوال الشّخصيّة. فقد اعتبر الحجاب "جزءا من ذاتيّتنا،وكلّ ضربة تُسدّد إليه تغيّر أخلاقنا وتتسبّب في تذبذب شخصيّتنا". ولم يجازف بالانتصار لأفكاره التّحرّريّة إلاّ يوم آلت إليه السّلطة.
كيف نقرا الموروث الدّينيّ وشروح وفتاوى الفقهاء بعباءة الحاضر لا بعباءة الماضي؟؟؟
كيف نقرأ مقاصد الشّريعة دون أن تقف الشّريعة كابحا وحائلا أمام هذا التّيّار(تيّار الحداثة والتّقدّم) الذي لا نملك لا نحن ولا هي (المقصود المرأة) له ردّا؟؟
كيف نميّز بين ما هو جوهريّ وما هو عرضيّ؟؟
كيف نفصل بين الثّابت(مجموعة القيم) والمتحوّل المتعلّق بتنظيم حياة النّاس؟؟
السّبيل إلى ذلك يتمثّل في ربط الأحكام بأسباب النّزول لتخليصها من الإطلاقيّة. فما جاء به الإسلام وجاء من أجله (الحرّيّة/ العدالة /مكارم الأخلاق/ المساواة/ العبادات) شيء، وما وجده من الأحوال العارضة(الإماء/ العبيد/ تعدّد الزّوجات/ الطّلاق/ الإرث /تعليم المرأة..) شيء آخر لا تسري عليه أحكام فقهائنا الذين يطنبون في تدبّر دلالات الألفاظ أكثر من التفاتهم إلى إكراهات الواقع وتبدّل الحال والأحوال.
ذلك تحديدا ما يحسب للطّاهر الحدّاد. وذلك ما يفسّر ضراوة الهجمة والحرب الضّروس التي خاضتها ضدّه الأوساط التّقليديّة وإكليروس الزّيتونة لأنّه تطاول على الأصول وتجرّأ على المرجعيّات..
03/يفنى الرّجال وتورق الأفكار
ويأتي زمان يصبح فيه من احترقوا بنبض الأفكار في لامكان بينما أفكارهم تسبح في كلّ مكان، قبولا أو رفضا، لعنة على البعض، ومنارة للبعض الآخر.
87سنةعلى وفاته و92 سنة على صدور الكتاب الزّوبعة "امرأتنا في الشّريعة والمجتمع" ولا زال البعض من بني قومنا يتوسّد سالفات الأحاجي، ويلوك التّخاريف عن مكر النّساء ودهائهنّ، ويتندّر أمام جمهرة من بني سلالته باستعراض غرائب ممّا يجوز ولا يجوز في ما تحفل به المخادع من "إبداعات" لم يسبقه إليه أحد، وينبهر بفتاوى غربتها عن العصر كبعد السّماء عن الأرض .
قرابة القرن على انبعاث أوّل تجربة نقابيّة تونسيّة مسكونة بهاجس الاستقلاليّة، وما زالت الاستقلاليّة النّقابيّة حلما يروم أن يصبح واقعا.وما زال البعض يكابد ليسجن الفعل النّقابيّ في مربّع كان تخطّاه منذ ولادته.
ومازالت النّخبة تتعتها تخميرة النّكوص كما يكشفها ضياعها وتيهها، ويفضحها إضرابها عن التّفكير وارتدادها عن مهامّها وتمرّغها في مستنقع الأوهام بعد أن دشّن جزء منها افتتاح موسم الحجّ إلى سقيفة بني سعيد وولج بيت الطّاعة وأغلق الأقفال.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |