|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
2022 / 11 / 27
القانون يحاسب فرد الجماعة على أفعاله، يقيد يديه ويكبل قدميه ويلقي به في محبس ضيق يحرمه حرية التصرف والفعل المحسوس القادر على إيقاع الأذى والضرر بالآخرين من أفراد الجماعة؛ وفي أقصى الحالات، قد يصل إلى حد القصاص منه وتخليصه وتخليص الجماعة من حياته وشره إعداماً مرة واحدة وللأبد. بينما الدين لا يشبعه أن يقيد أحداً من يديه أو قدميه، أو يحبسه أو يخلصه من حياته. بل الدين يقبض على فرد الجماعة من قلبه، يعتصره في ألم وعذاب مبرح مكتوم، ويتركه حراً يموت في اليوم الواحد مئة مرة ندماً وتوبة وتوسلاً للمغفرة لذنب ومعصية وخطيئة تتكرر كل لحظة وكل يوم، لكي يظل حياً في جحيم وجداني هو نفسه حطباً له، ويعيش وسط جماعته مرعوباً من فضيحة خطيئته. حتى لو كان الدين لا يملك شيئاً من وسائل العقاب والقصاص البدني المتاحة للقانون، لكنه يبقى أشد قسوة وألماً، لقدرته على اختراق أعماق المرء وإيقاع القصاص المعنوي من هناك.
الدين والخطيئة وجهان لعملة واحدة ونفس العملة، بحيث إذا ما بهت أحدهما لازمه الآخر بالضرورة. لذلك يسعى الدين دائماً وأبداً إلى إبقاء جذوة الشعور بالذنب متقدة ومؤججة في الوجدان. وفي حال لم يجد الدين خطيئة في الإنسان لاختلقها له. هذه هي وظيفة الدين ورسالته الأساسية. الدين مصنع الذنوب والمعاصي والخطايا في حياة الإنسان. لكن، لماذا؟
لكي يكتوي ويتعذب من داخله استغفاراً وتوبة وقسماً على ألا يعود إلى المعصية والخطيئة والذنوب مجدداً. لكنه في كل مرة يعود مجدداً؛ والدين يعلم مسبقاً أنه سيعود، بل يستميت في استفزازه لكي يعود إلى الخطيئة مجدداً وإلى ما لا نهاية. الدين هو عبارة عن فخ ومصيدة لضمير الإنسان، يعلم مسبقاً أنه يطلب من المرء ما لا طاقة له به في كل الأحوال؛ يطلب من البشر المستحيل، نقيض بشريتهم ذاتها. هذا لأنه في الحقيقة ليس صادقاً في ادعائه أنه يريد لهم الهداية والتوبة النصوحة من المعاصي وغفران الذنوب، لأن ذلك حال تحققه سيعتقهم من مشاعر الذنب ويحررهم من قبضة تأثيره ونفوذه عليهم. الدين في الحقيقة يريد منهم ارتكاب المزيد والمزيد من المعاصي والذنوب والخطايا، لكي تدفعهم آلامهم المبرحة بداخلهم إلى توسل التوبة والمغفرة، ومن ثم يطرقون أبواب الدين ذاته حيث تُمنح صكوك الغفران والتوبة والمواساة. تقوية مشاعر المعصية والذنب من تقوية الدين ذاته. لكن، ماذا يفيد الدين من عذابات الإنسان؟
نيران الدين وجحيمه ليس الهدف منها أن تحرق الفرد في حياة آخرة بعد الموت، بل في حياته الدنيا ذاتها- لكي تصنع منه فرداً صالحاً للعيش مع جماعة من أقرانه. الحياة الجماعية حتى تنهض وتستمر تستلزم ترويض فرد البراري، إعادة تشكيل غرائزه البرية داخل أتون الدين. لهذا كان الدين منتجاً اجتماعياً لا وجود له إلا في وسط تجمع من الناس، ولم يكن له وجود أثناء معيشتهم فرادى أو في مجموعات صغيرة في البرية. ولكي يؤدي الدين رسالته في ترويض هذا الكائن البري المتوحش كان لابد من إمساكه والقبض عليه بقبضة من نار. وليس في الإنسان موضعاً أفضل من القلب- لا اليدين أو الرجلين أو الرقبة أو العقل- لإمساكه والتأثير عليه منه. وحتى يصيب القلب ويتمكن منه، لا يحتاج الدين إلى المنطق أو التفسير أو الإقناع أو الاستدلال أو التجريب أو الملاحظة أو أي شيء من هذا القبيل، مما قد ألفه واعتاد عليه البشر في شؤون حياتهم الطبيعية. بل هو دائماً وأبداً بحاجة إلى ما هو أقوى أثراً في النفس من كل ذلك، شيء فوق طبيعي، إعجازي وأسطوري، لأن هذا هو تحديداً ما يستطيع أن يفعل في القلب مفعوله وسحره.
الدين يمسك الفرد من قلبه، يخيفه ويرعبه لكي يخلق داخله ’ضميراً‘ لم يكن له وجود على الإطلاق في حياته البرية السابقة. وما كان في حياة البشر أقوى من الأساطير والمعجزات وخوارق الطبيعة لكي تلقي في نفسه الرعب وتخلق في وجدانه الضمير لكي يستطيع العيش في سلام اجتماعي نسبي وسط آخرين من بني جنسه. في النهاية، نحن لسنا مطالبين بفهم أو تصديق أن العيون قادرة حقاً على أن تزني، بل أن نخاف من فاحشة وخطيئة الزنا، وأن نستغفر ونتوب في كل مرة نزني فيها؛ فلا الفاحشة تتوقف، ولا الاستغفار ينتهي.