لماذا خُـلق الإنـسـان في القرآن؟

هيثم بن محمد شطورو
2022 / 11 / 24

إن القراءة للقرآن تختلف باختلاف موقع القارئ واقعيا وذهنيا وفكريا. فالقراءة الصادرة في مناخ مختـنق يفتـقد الحرية في التـفكير وبالتالي الإبداع عادة ما تتسم بذهنية الجبرية والتكفير، بينما القراءة الصادرة في مناخ الحرية والإبداع فهي متسائلة بحرية ومدقـقة و مبدعة في اكتـشافها. ولعل الآيات المحكمات أو أم الكتاب قد كشف عنه عالم الرياضيات الأمريكي " جيفري لانج" الذي يدرس بجامعة " سان فرنسيسكو". هذه القراءة المحكمة نظرا لبنائها الرياضي الذي يجدها متطابقة في قراءته للقرآن، والإجابة عن سؤال جوهري: لماذا خُلق الإنسان؟
هذه القراءة ناتجة عن ذهنية ملحدة أساسا لا تؤمن بالدين وتعتبره مجرد خرافة، وكان قد بدأ قراءته للقرآن نتيجة عدم توفر كتاب أمامه لمطالعته وهو قارئ نهم، فالتـفت إلى كتاب القرآن الذي أهداه له صديق عربي. إلحاده بدوره متأسس على رفض للديانة المسيحية التي لم تـقـنعه وهو لا يؤمن بالله وفق الديانة المسيحية التي فقد إيمانه بها منذ الثانوية، فهو لم يجد ما يقـنع فيها بوجود إلاه والعالم البشري فيه هذا الشر والعدوانية. الشر الذي عرفه أولا من أبيه العنيف الذي عانى من طفولة مرعبة بين جناحيه، فهو كان يسكر ويضرب أمه الممرضة التي يقول عنها إنسانة مثالية ومحبة ومتعاونة مع الجميع سواء مع الجيران أو في العمل مع المرضى حتى أن جنازتها توافد فيها الآلاف من الناس وقد وصفها بالمتدينة فعليا في الحياة إضافة إلى تدينها العميق. ثم بعد ذلك، تحدث عن شر الحروب وفضاعات حرب فيتنام وكان من الناشطين في مناهضة الحرب. تحدث عن اغتيال الرئيس الأمريكي كيندي واغتيال الزعيم "مارتن لوثر كينغ" المناهض للعنصرية، فأين الله من هذه الشرور البشرية؟ هكذا بكل بساطة كان ملحدا حيث لم يرى الله باعتبار الله الخير المطلق فأين هذا الخير وسط هذا الشر البشري العارم وإذا كان موجودا لماذا يسمح بوجود هذا الشر وإذا خلق الإنسان فلماذا خلقه شريرا؟
والحقيقة أن التـفكير في الحياة بدون الله تـفكير جحيمي، فها نحن نعيش ولكن سنموت ذات لحظة. سينتهي كل شيء. هل من المعقول تقبل ذلك؟ ، ولكن يبدو انه لا يوجد إلحاد حقيقي أي عميق لأن الإنسان لا يقبل بالنهاية. هناك ليس رغبة في الخلود وإنما الرغبة في الخلود أصلها فكرة عميقة تقول بالخلود وهي بدورها ناتجة عن نواة أصلية عميقة هي الإله الذي فينا. لو كان الملحد يؤمن فعليا بعدم وجود إلاه لما تمكن فعليا من تقبل الحياة، فأي حياة هذه تشعرنا بكوننا مقذوف بنا إلى الحياة بعقول تـفكر ومشاعر وعاطفة ووجدان ومعاناة وسعادة وثم تـنـتهي في خضم وجود شاسع جدا منذ آلاف السنين ووسط هذا العالم الشاسع وبالتالي فهو لا شيء يُذكر وسينتهي بما هو لا يُذكر فكيف يمكن لأي كائن بشري يفكر أن يتـقبل ضآلته الوجودية الكبرى وتفاهته الجحيمية تلك؟ كيف لإنسان أن يعيش وهو ينظر إلى نفسه بهذا القدر من الضآلة والتفاهة وألا قيمة و ألا معنى؟ فالإلحاد يبدو بوضوح أنه موقف غير مؤمن أو رافض لدين معين وحياة معينة لا يجد فيها أي منطقية وغير قادر على تقبلها، ولكن في نفس الوقت مادام يرى في رفضه ذاك رفضا لوجود الله أو أي أحقية لدين آخر أو لفهم آخر لنفس الدين الذي رفض تشكلاته التي رفضها فهو إما يرى نفسه مبشرا بدين جديد حتى ولو انه لا يسميه دينا وإما أنه يفكر في الله بطريقة سرية ومختلفة.. لأجل ذلك فالدكتور "لانج" الذي قال عن نفسه انه ملحد كيف أخذ كتاب القرآن ليقرئه أصلا وهو يعرف أنه كتاب ديني؟ أي أنه منذ البداية كان يؤمن بوجود الله ولكنه لم يجد قناعة منطقية وعقلانية لذلك، فلا يمكن أن يصدر شيء من لا شيء.
و يبدو أنه بدأ قراءته للقرآن لمجرد التسلية وبروح تهكمية ربما، ولكنه بما أنه مطلع على بقية الأديان بما فيها الزرادشتية والمانوية، فإن قراءته كانت من زاوية الاطلاع والمعرفة التي يضيف بها تأكده من إلحاده وعدم منطقية الأديان، ولكنه حين وصل إلى الآية ثلاثون من سورة البقرة كان كأنه يمر بإعصار فكري ووجودي يؤكد رغبته الأصيلة في الإيمان أصلا، وها هو يتوقف ويتوقف عند تلك الآيات المتتابعات إلى غاية الآية سبع وثلاثون، ولكنه في محاضرته يستـنـد إلى عديد الآيات الأخرى من القرآن التي تؤكد ما انفجر فيه من معاني أصلية في خضم عاصفة تلك الآيات من سورة البقرة. إنها الآيات التي يقول فيها الله تعالى:
• " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ �﴾ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ �﴾ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ �﴾ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ �﴾ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ �﴾ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ �﴾ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ �﴾ فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ �﴾"
قال الدكتور "جيفري لانج" في محاضرته انه وجد رواية مخالفة لما وجده في المسيحية حول وجود الإنسان عند الآية 30: " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً". هذا تشريف من الله للبشر. الخليفة يعني نائبا عن الله في الأرض، ممثل له، وحسب اعتقاد المسيحية فوجود الإنسان في الأرض عقاب من الله لأنه ارتكب الخطيئة وليس تشريفا وتكريما بمثل ما ورد هنا. وما لم يقله الدكتور هو اعتقاد الإنسان العميق بأهمية وجوده بل بعظمته بل بألوهته، فكان ملحدا لأنه لم يجد هذا الإعتراف في المسيحية وبقية الأديان التي اطلع عليها، ووجد ذلك في هذه الآية.
قال " قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ". حين قرأت هذا أصبت بالذهول وأخذت بالتحديق والنظر فيها. شعرت بالغضب حقا. سؤال الملائكة لله كان هو سؤالي حينما كنت ملحدا. كنت مصدوما بحق. كان القرآن يطرح مسألة لاهوتية أساسية. هذا السؤال أكثر الأسئلة دقة وأهمية في تاريخ البشر. إذا كان الله قد خلق البشر فلماذا هو الإنسان عدواني ويظلم؟ أنه بالفعل سؤالي وهو السؤال الجوهري والقرآن يطرحه بوضوح. قال الله للملائكة: " إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ". هل هذا هروب من الإجابة؟ ألا توجد إجابة؟. الإجابة في الآيات اللاحقة. "قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ". خلق الله كائنا قادرا على التعلم. قدرة الإنسان على المعرفة. هي اللغة. اللغة جعلت المعارف تتراكم عبر الأجيال وعبر آلاف السنين. من هنا إذن جاء تشريف الله للإنسان. "إقرأ باسم ربك الذي خلق..إقرأ و ربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم". الله يقسم بقدرات الإنسان المعرفية ويدعوه ليستخدمها بشكل صحيح لأنها تلعب دورا أساسيا للوصول إلى الحقيقة. الله يجيب الملائكة إذن. هذا ما لا يعلمونه. وقدرات الإنسان المعرفية كبيرة حتى أنه سرد عليهم الأسماء مباشرة ودون عناء. إذن هذه هي قيمة الكائن الإنساني وهي قدرته الكبيرة على المعرفة. صحيح أن الإنسان كائن مفسد في الأرض وعدواني ولكنه يتمتع بقدرة على التعلم والمعرفة. إذن، الإنسان يمكنه اختيار فعل الشر في العدوان كما يمكنه اختيار فعل الخير في طلب المعرفة. إذن الإنسان مخير أو الكائن الذي له إرادة الاختيار. يمكنه أن يكون في قمة القبح ويمكنه أن يكون في قمة الجمال. الاختيار هو الإبتلاء. إما أن تـتـزكى النفس أو تـنحط. إذن الإنسان هو كائن أخلاقي يمكنه أن يكون خيرا أو شريرا.
ما هو الشر أو بالأحرى ما أصله؟ إبليس كبير الشياطين أبى واستكبر. يخبرنا القرآن أن قلب الشر هو التكبر والإستكبار المتمثل في أن تضع نفسك فوق الجميع وتعطي لنفسك أولوية خاصة وتُـلغي حقوق الآخرين. بالفعل هو كذلك. ليس الطمع أي انه ليس أمرا ماديا مرتبطا بشيء مادي فهذا ممكن ولكن الأصل هو الاستكبار أي أن تعطي لنفسك الحق في الاستيلاء على الشيء دون التفكير في الآخرين وحقهم. وبالتالي فالفعل الأخلاقي مصدره فكرة وفكرة أولوية النفس تدل على الجهل وليس العلم والمعرفة، لأن المعرفة تدلنا على أن خير الشخص في خير الآخرين وان هذا الخير لا يتمثل في الانتـفاع المادي المباشر أو بالأحرى في التكبر على الآخرين وعدم اعتبار لوجودهم وحقهم وإنما بالعكس تماما. هل ذاك التكبر يشعرك بالسلام الذاتي؟ هل يشعرك بالرضاء عن النفس؟ اربط ذلك بقول الله أن روح الإنسان هي من روح الله. عدم رضاك عن نفسك هو نتيجة فصلك لنفسك عن روحك الأصيلة في أعماقك والتي تمثل ابتعادك عن الله وهي مصدر الشقاء وعدم الإحساس بالرضاء عن النفس. هذا ما يؤدي إليه الاستكبار الإبليسي الذي يوسوس به الشيطان. وبالتالي فالفعل الأخلاقي هو ضمن هذه المفاهيم الشاملة العميقة المرتبطة بالهدف من خلق الإنسان وبتكريمه من الله وتشريفه له وفعل الشر لا يضر الله في شيء وإنما يضرك في إخراج نفسك من هذا التـشريف والتكريم الذي يتمثل في الرضاء عن النفس. انظر كيف هي الحلقة دائرية مترابطة. أنظر كم هو البناء منطقي ومُقنع.
والاختيار أو الإبتلاء هو حقيقة المحنة البشرية. قال الله في القرآن أن الحياة على الأرض ابتلاء. يقول الدكتور "جيفري لانج" في محاضرته:
ـ البشر يمتلكون قدرات عقلية. البشر كائنات أخلاقية ومعرضين لوساوس الشيطان وإيعاز الملائكة وعليهم أن يختاروا بينهما بشكل متكرر في خلال عملية تزكيتهم ونموهم وهو ما يتحدث عنه القرآن كثيرا. " وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ـ آية 07 و 08 و 09 و10 من سورة الشمس". البشر كائنات مسئولة ولها حرية الإختيار.
من وجهة نظر القرآن، الإيمان والمنطق متحالفان."قد تبين الرشد من الغي". " ويُريكم آياته لعلكم تعقلون". " ولنبينه لقوم يعلمون".
لو هدى الله كل البشر لانـتـفى عنصر الاختيار وهو الجوهري في الفعل الأخلاقي وبالتالي فالإنسان مخلوق ليقوم بالاختيار وليمارس حريته وهو بإمكانه ذلك وهذا هو جوهر الإنسان. يمكنه أن يختار انحطاطه أو رقيه الأخلاقي. " كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ـ الأنبياء آية 35".
المستـشرق " ماكسيم رودنسون" كتب عن طريقة القرآن المنطقية لشرح العقيدة الإيمانية، وهذه الطريقة المنطقية صفة متلازمة له بلا أدنى شك.
وبالتالي فالجبرية التي تقول أن الإنسان عديم الإرادة وانه مجبور في كل فعل بقدر ما هي تزيح عنه المسئولية في العمل الأخلاقي بقدر ما هي منافية بالتمام والكمال للقرآن. إننا هنا بقدر ما نجد صدى لفكر المعتزلة، إلا أنه ليس بمثل هذا الوضوح والإيجاز ولكن الأهم بهذا الاكتـشاف، فالدكتور "لانج" حينها كان ملحدا قبل أن يُسلم، وهو قد أسلم عن طريق القرآن وقراءته له وتفكيره المنطقي الرياضي هو الذي جعله يكتـشف منطقية القرآن ويحسم أمره في القناعة العقلية المنطقية بوجود الله وهذا ما يمثل له عمق السعادة بالطبع لأنه إلتئم مع أعماقه، وكذلك ما جعله يقدم قراءة عميقة للقرآن تظهر الهدف من خلق الإنسان ولربما من ورائه الأرض وبقية كائناتها.
وهذه القراءة المتأسسة على فكرة الحرية الإنسانية الواضحة في القرآن تعطينا مفاهيم إسلامية مغايرة تماما للإسلام بل هي تبني إسلاما جديدا يقوم على الإقرار بحقوق الإنسان والحرية والمساواة بين الناس جميعا والمساواة بين المرأة والرجل. بل من شأن ذلك أن يحفز لبناء نظري جديد أكثر عمقا وشمولا انطولوجيا لهذه المفاهيم مما نعرفه اليوم.
فالقرآن خلافا لبقية الأديان لم يبخس من وضع المرأة ولم يجعلها في مرتبة أدنى من الرجل، حتى أن حواء في أسطورة الخلق الرمزية لم تكن هي السبب أو الموسوس لآدم ليأكل من الشجرة، بل كلاهما قد أزلهما الشيطان و أغواهما، وبالتالي فالرجل والمرأة في نفس المرتبة خلافا للقصة في التوراة والإنجيل التي خلقت من حواء كائنا ابليسيا والسبب المباشر في معاناة آدم والإنسان، وبالتالي كانت هي موضع اللعنة وليس إبليس وفق الرواية القرآنية.
قال الدكتور "جيفري لانج":
" وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هذه الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ �﴾". الله هنا ليس منزعجا من أكل آدم من هذه الشجرة وهي غير مميزة بأي شيء. هذه الشجرة. من بين عديد الأشجار. هذه الشجرة. بينما في المسيحية فالله يجعل على الشجرة حارسا بسيف من نار. هناك حماية للشجرة. لماذا؟ لأنهما لو أكلا من الشجرة سيتحولان إلى آلهة، فكان الله مرعوبا من ذلك، ومن ثم كان غاضبا جدا وثائرا حين أكل آدم من الشجرة طاعة لحواء اللعينة ومعصية لله. لا وجود لكل هذا في القرآن.
" فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ �﴾". الخطيئة الكبرى في المسيحية تكون مجرد زلة في القرآن. اندهشتُ وأصابني الذهول وعدت إلى صديقي العربي لأتـثبت من الكلمة باللغة العربية وبالفعل كانت مجرد زلة. الزلة أمر عادي. اللسان يزل كثيرا ولا تُعتبر خطيئة بل أمرا عاديا جدا. عادي أن يزل الإنسان. ما هذا؟ يعني أن الإنسان لم يكن أصلا خطائا وعاصيا لربه ولم تكن حواء إبليسية. مجرد زلة. أزلهما الشيطان. كيف يمكننا أن نفهم هذا الكلام؟ لم يكن الأكل من الشجرة إلا مجرد علامة على إنـتـقال الإنسان لمرحلة الإختيار والحرية وتحمل المسئولية لذلك يخرج من الجنة ويهبط إلى الأرض. أصبح جاهزا ليقوم بمهمته الوجودية.
ما هي مهمة الإنسان الوجودية هذه؟ قال القرآن : " يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ـ الانشقاق 06". هنا تـتـنـزل مقولة الجهاد في سبيل الله. الجهاد لا يعني القتال تحديدا وإنما هي أعم من ذلك بكثير. إنه الكدح والمعاناة. لماذا؟ يقول الناس لا يُوجد إلاه،إني أتألم. في القرآن بالعكس تماما. إنك تتألم لأنه يُوجد إلاه يطلب منك الكدح في سبيله. ألا تـنظر ما وفره لك الله من نعم، وفي مقابلها ألا تكدح من أجل الحب، حب الله فيحبك الله؟. " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ـ البقرة 165". أليس الحب هو الحياة في السراء والضراء؟ أليس هو المشاركة في الصحة والمرض وفي المعاناة ولحظات السعادة؟ كيف يُوجد الخير بدون شر؟ أليس الأمر ديالكتيكيا في كل شيء؟

يقول الدكتور "جيفري لاند" في قراءته للقرآن أن ما سيحققه المؤمنون في هذه الأرض هو التمتع بعلاقة الحب مع الله. وبالتالي فالعمل الصالح الذي يأمرنا الله القيام به وفق القرآن، أو الصالحات هي: نُظهر الرحمة، نكون عطوفين، متسامحين، عادلين، لابد أن نحمي الضعفاء، ندافع عن المظلومين، لابد أن نسعى لتحصيل العلم والحكمة، لابد أن نتحلى بالكرم، صادقين، مسالمين، أن نحب البشر.. في نفس الوقت ماذا يخبرنا القرآن عن الله؟ الرحمان، الودود، الغفور، النصير، السلام، الحق.. إذن. الأعمال الصالحات هي صفات الله التي يطلب من البشر أن يحملوها ويتحلوا بها، لأننا نـتـشارك مع الله في كينونـتـنا، "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ـ سورة الحجر 29"، وهذا التـشارك هو أساس علاقة الحب بيننا وبين الله والحب كدح ومتعة. نأتي إلى الدنيا بهذه النفخة الآلاهية من روحه، فإما أن ندسيها كما يخبرنا القرآن أو نزكيها.
لن نحس بالسعادة بسبب هذه الخبرة في الحياة الدنيا ولكن سنتمكن من الإحساس بصفات الله الرائعة الجمال والقدرة، والرحمة والود وكل أسمائه وصفاته الحسنى الامتـناهية. كلما جاهدنا لنتصف بالرحمة في هذه الحياة كلما تمكنا من الإقـتراب من الرحمة العظمى لرب العالمين في الحياة الدنيا والآخرة. كلما جاهدنا لنصرة الحق في هذه الحياة، كلما تمكنا من الإقـتراب من اسم الله الحق، لأن كل الحقيقة لا تأتي إلا من الله. كلما جاهدنا لنتصف بصفات المؤمنين كلما تمكنا من الإقـتراب من صفات الله الحسنى، وبالتالي نستطيع أن ندرك الله تبارك وتعالى. فكلما نـتـزكى، نرقى لندرك عظمة الله. هذا أعظم من الإقـتراب المادي أو التوافق العقلي أو العاطفي، إنه الإقـتراب من الخالق المعبود. إنها أعظم المشاعر التي نستطيع أن نختبرها على الإطلاق.
يبدو أن جميع الأفكار المبعثرة أصبحت مترابطة. لماذا القدرات العقلية؟ لماذا حرية الاختيار؟ لماذا الإبتلاء؟
لا نستطيع أن نتصف بصفات الله ما لم نمر بهذه الصفات الثلاث. كل الصفات من رحمة و عفو وصدق ورعاية وحب. كلها وُلدت من رحم حرية الاختيار والإبتلاء والقدرات العقلية. فالقيام بفعل الرحمة تجاه شخص ما يتطلب أن نشاركه الشعور بالمعاناة، وعندما نريد مساعدته نفكر فيما سأضحي به لأجله، لأني سأعطي الآخر جزءا من نفسي، وبدون هذا الصراع العقلي، فلن نعتبره فعلا رحيما، وبدون حرية الإختيار لا نعتبره رحيما.
وهنا، يكون من السهل علينا أن نفهم لماذا يحدثنا القرآن عن المعصية بأنها ظلم للنفس. عندما نظلم أنفسنا ندمرها. حين لا نـتـزكى نصل إلى تدميرها بحرمان أنفسنا من علاقة رائعة مع الله في هذه الحياة الدنيا والآخرة.
وختاما لماذا تكون قراءة الدكتور عالم الرياضيات الأمريكي "جيفري لانج" مثيرة؟ إنها مثيرة لأنها قراءة محايدة للقرآن بدون أي محمول إسلامي سابق. إنها قراءة نقية من هذه الزاوية. نقاؤها أنها متخلصة من خلفية الثقافة العربية الإسلامية. وإنها مثيرة بامتياز لأنها قراءة تأسست بمنهج نقدي متسائل وتفكير منطقي بدون أي اتجاه مسبق في التصديق بل إرادة الفهم والاكتـشاف. وبالتالي فإنها قراءة تستحق أن ترتـقي إلى صفة الموضوعية. وفي النهاية فهي قراءة عميقة من شأنها أن تـفيد المثـقف العربي في قراءة القرآن والمساهمة في خلق إسلام حقيقي وواقع إسلامي وعربي متطابق مع القرآن..

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي