|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
2022 / 11 / 23
كان الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان عن العراق والذي نظمه مسعود برزاني في 2017 خطئاً استراتيجياً لم يفيد أكراد العراق ولا قضية الكرد عامة. بل تمخض عنه أن جميع دول الجوار الأربعة المقسم فيما بينها الشعب الكردي نحت خلافاتها جانباً وأجمعت على إجهاض المحاولة وتكبيد دعاتها الثمن. وما من شك أن في ظل الوضع القائم ستلقى أي محاولة من هذا القبيل المصير ذاته وستتكبد القضية الكردية الخسائر. في الواقع، لم تحقق كردستان العراق ما تحظى به حالياً من حكم ذاتي إلا بعد تفكك الدولة العراقية في حرب، وتحت حماية ومساعدة أمريكية ما كانت من دونهما ستتحقق كثيراً من الاستقرار والازدهار النسبي الحاصل في الوقت الحاضر. الأمر نفسه يصدق في سوريا، حيث لم يبلغ أكراد سوريا وضعهم الحالي إلا بعد تفكك الدولة السورية في حرب أهلية، وتحت مظلة ودعم من الولايات المتحدة أيضاً. في المقابل، لا زال هناك أكراد آخرون في كل من تركيا وإيران، وليس من المعقول التوقع أو الانتظار حتى يتفكك هذان البلدان أيضاً سواء في حرب من الداخل أو الخارج حتى يحقق هؤلاء- بحماية ومساعدة أمريكية أو غيرها- ما حققه أقرانهم في العراق وسوريا. مثل هذا السيناريو لا يبشر بالخير لا للمنطقة ولا للأكراد أنفسهم؛ وإذا ما تحقق سيظل الوجود الكردي يعاني دائماً وأبداً من عيب خُلُقِي خطير يهدد بقاءه: المخاض العسير في أتون الحرب والتفكك، والاحتياج الفطري للحماية الأجنبية من أجل البقاء.
نحن نعيش في جزء قديم من العالم، ربما أقدم بقاع المعمورة قاطبة. ولا نزال، باستثناء حفنة من اليهود من ذوي الجذور الثقافية الغربية، نحمل عاداتنا وتقاليدنا وطرائق تفكيرنا ونظرتنا لأنفسنا والحياة والعالم القديمة قدم الدهر فوق ظهورنا إلى الحياة المعاصرة. ورغم حداثة التقسيمات السياسية لبلداننا أواسط القرن المنصرم، إلا أن دولنا لا تزال ماضية فوق الطريق ذاته مثل إمبراطوريات خلت قبل آلاف السنين. تهيمن على عقولنا لا تزال موازين القوة وقداسة التراب والسيادة والكبرياء القومي حتى لو أتت على حساب حريات الشعوب ورفاهيتها وكرامتها. في قول آخر، نقدس التراب والقوة أكثر من احترامنا للبشر وتحسين حياتهم. مقابل هذه الخلفية شديدة القدم والقتامة، والأكراد بالطبع جزء منها، لا أملك سوى أن أَحْلُم.
باستثناء الخطأ البرزاني، كانت تجربة كردستان العراق إجمالاً قصة نجاح ملحوظ قياساً بمحيطها؛ حقق الأكراد مستويات جيدة نسبياً من الاستقرار والتنمية والرخاء، ربما الأعلى في العراق كله؛ نجحوا في كسب ثقة الحكومة العراقية في بغداد وأن يصبحوا قوة توازن من أجل السلام والتفاوض لإيجاد حلولاً لمشاكل مستعصية ولم شمل العراقيين. في هذا الاتجاه، لا يزال الطريق مفتوحاً أمامهم. كما نجح الإقليم أيضاً إلى حد ما في نسج خيوط المصالح والتنمية والتعاون الأمني المتبادل مع دول من الجوار المباشر، حتى مع تركيا وإيران اللتان تستهدفان الآن مناطق كردية بالقذف والتهديد بالاجتياح بذريعة مكافحة الإرهاب. وأحلم أن يمضي أكراد العراق قدماً في هذين الاتجاهين معاً لمزيد من تعزيز الثقة والمصلحة المتبادلة، عبر وسائل ذكية سلمية معاصرة كتلك التي نراها فقط في دبلوماسية الدول الأعضاء في حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي، أو بين الكانتونات السويسرية.
في علاقة كسبان-كسبان مع المركز، يستطيع الإقليم أن يقدم النموذج لباقي الأكراد في سوريا وإيران وتركيا. ولن يستطيع هؤلاء التأسيس لعلاقة مثمرة من هذا النوع مع عواصمهم من دون نبذ العنف والخطر والتهديد لها أولاً، والتحول إلى سند وعضد في الاستقرار والتنمية. عندما ينجحون في المضي بهذا الاتجاه، حينها يمكن للأقاليم الأربعة الآمنة والمزدهرة وموضع الثقة من مراكزها تعزيز التعاون والتنسيق معاً فيما يشبه اتحاداً من أربعة أقاليم تتمتع بالحكم الذاتي من داخل أربعة دول مستقلة وذات سيادة. سيحصل الأكراد، عبر المساومة والتفاوض والدبلوماسية والوسائل الذكية المعاصرة، على شعب موحد تحت حكومة وبرلمان من اختياره، وقوة تكفي لضمان أمنه، لكن من دون تراب وسيادة وجيش. ألا ترون ماذا فعلت الجيوش والتراب والسيادة بشعوب المنطقة من حولكم؟! في حين نرى دول العالم المتحضر القوية والمتقدمة تقايض من ترابها وسيادتها وجيشها لتحقيق المزيد من الأمن والاستقرار والرخاء لشعوبها!
أحلم أن ينجح الأكراد في نزع شوكتهم من حلوق أربعة دول شديدة القِدم في قيمها وتقاليدها القائمة على القوة والسيادة والنفوذ، وأن يفتحوا طريقاً جديداً لأنفسهم والمنطقة كلها قوامه التنمية والرخاء والرفاهية وحقوق الإنسان. أحلم أن ينجح الأكراد فيما قد فشلنا فيه جميعاً طوال تاريخنا الأقدم من العالم نفسه: أن نضع البشر قبل الحجر والتراب.
أكراد العراق تحديداً أمام فرصة تاريخية لتجاوز عالماً قديماً في قيمه وأعرافه وتقاليده ورسم خريطة جديدة لأنفسهم وأشقائهم وشعوب المنطقة، شريطة أن ينجحوا في تغيير قواعد اللعبة القديمة فيما بينهم أولاً، ثم مع الدول ذات السيادة الخاضعين لها. لقد فعلها الأكراد قديماً من خلال صلاح الدين. هل يفعلوها مجدداً- وفق قواعد عصرية؟!