ملاحظات دستورية جديرة بالإهتمام

داخل حسن جريو
2022 / 11 / 14

يعد الدستور في البلدان الديمقراطية , القانون ألأساس الذي ينظم القواعد الأساسية لشكل الدولة، ونظامها السياسي, ومنه تنبثق القوانين الأخرى التي تحدد العلاقة بين سلطات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية ومهام كل منها , وتنظيم حياة الناس على وفق تلك القوانين التي تضمن حقوقهم وحرياتهم .ويعد الدستور المرجعية الأساسية لكل القوانين والتشريعات .ونظرا لأهمية هذه الدساتير , فأنه ليس من السهل تعديلها بخلاف القوانين الأخرى , إذ يتطلب تعديلها إجراء إستفتاء شعبي بغالبية واضحة قد تصل إلى ثلثي المشاركين في التصويت أحيانا , لضمان عدم التلاعب بمواد الدستور بحسب أهواء الحكومات بمقتضى مصالحها .
وضع أول دستور عراقي من قبل سلطة الإحتلال البريطاني في عام 1922, وشرعه المجلس التأسيسي العراقي في عام 1924 ,وألغته سلطة الإنقلاب العسكري عام 1958, واستبدل بدستور مؤقت تم وضعه من قبل سلطة الإنقلاب بمدة قصيرة بتكليف بعض رجال القانون بكتابته , أستبدل هو الآخر بدستور مؤقت بعد إنقلاب الثامن من شباط عام 1963 , والذي أستبدل مرة أخرى بدستور آخر مؤقت بعد إنقلاب السابع عشر من تموز عام 1968. وصدر دستور مؤقت آخر عام 1970 , وصدر قانون إدارة المرحلة الانتقالية عام 2003 الذي وضعته سلطة الإحتلال الأمريكي بمثابة دستور مؤقت , بعدها صدر دستور العراق الحالي من قبل سلطة الإحتلال الأمريكي بعد أن أقر في استفتاء شعبي أجرته إدارة الإحتلال في تشرين الأول عام 2005, بنسبة قيل أنها تجاوزت (78% ) من الأصوات .
أقر الدستور في ظروف غير طبيعية , حيث كان العراق يومذاك تحت الإحتلال الأمريكي المباشر , ويفتقر إلى ألأمن والإستقرار في جميع أرجائه , وبخاصة في محافظات شمال وغرب العراق بما فيها العاصمة بغداد ذات الكثافة السكانية العالية , جراء التفجيرات إلإرهابية ألتي طالت أرواح وممتلكات الكثير من الناس ,على الرغم من إنتشار القوات الأمريكية ومن تحالف معها في كل مكان .
إنبثق النظام السياسي الراهن من رحم هذا الدستور الذي أعد بعجالة ليتوافق مع تطلعات القوى السياسية المؤازرة لسلطة الإحتلال, لتكريس هيمنتها على البلاد في إطار نظام سياسي توافقي فيما بينها , يقوم على أساس المحاصصة الطائفية والأثنية , حيث أستبدل مفهوم الشعب المتداول عادة في النظم السياسية المدنية ,بمفهوم آخر مستهجن هو مفهوم المكونات الأثنية والدينية والطائفية , وإحلال الهويات الفرعية الأثنية والطائفية والعشائرية ,بدل الهوية الوطنية العراقية الجامعة الشاملة لجميع المواطنيين , الأمر الذي ساعد كثيرا على التخندق الطائفي والأثني , ودق أسفين بين المواطنيين أبناء الوطن الواحد الذين عاشوا سنين طويلة في كنف وطن واحد متآخين ومتاحبين في السراء والضراء , وزرع بذور الفتنة فيما بينهم في أوضاع العراق الملتهبة أصلا جراء غزو العراق وإحتلاله, ومداخلات وعبث دول الجوار وغيرها من الدول الأجنبية بشؤونه .
حرص المستفيدون الرئيسيون من مغانم هذا الدستور على وضع عقبات تحول دون تعديله بسهولة لاحقا في ظروف آمنة ومستقرة , حيث إشترط إجراء أي تعديل مهما كان بسيطا ,أن يخضع لاستفتاء شعبي على المواد المعدلة بموافقة أغلبية المصوتين العراقيين ، وإذا لم يرفضه ثلثا المصوتين في ثلاث محافظات أو أكثر , الأمر الذي يجعل عملية التعديل شبه مستحيلة إن لم تكن مستحيلة. وهذا يفسر جزئيا عقم العملية السياسية القائمة حاليا في العراق وعسرها الدائم وأزماتها التي لا تنهي في أعقاب كل عملية إنتخابية , والأهم من كل ذلك إستشراء الفساد في جميع مفاصل الدولة بعد ان أمن الجميع من عدم المساءلة والمحاسبة, كون جميع الكتل السياسية متورطة بعمليات الفساد , إذ لكل منها لجان إقتصادية لجباية الأموال من الوزارات التي تستحوذ عليها يموجب نظام المحاصصة
وبرغم ما يعتري الدستور من عيوب وشوائب عديدة , وبرغم ما يردده القابضون على زمام السلطة, أن الدستور يعد مرجعيتهم في الحكم كلما إشتدت الصراعات فيما بينهم , إلاّ أنهم جميعا غير ملتزمين ببنوده أبدا . فعلى سبيل المثال أنه جاء في المادة (1) من الدستور العراقي أن : جمهورية العراق دولة مستقلة ذات سيادة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي برلماني ديمقراطي اتحادي .
بينما واقع الحال يشير إلى خلاف ذلك تماما , فجمهورية العراق ما زالت منذ غزو العراق وإحتلاله عام 2003 وحتى يومنا هذا , تفتقر إلى السيادة وعدم القدرة على بسط نفوذها على كامل أراضيها ومياهها وسمائها , فالقوات التركية مثلا تصول وتجول في شمال العراق برا وجوا متى شاءت وكيفما شاءت , وكذا الحال للقوات الإيرانية والأمريكية دون رادع . أما الديمقراطية فحدث ولا حرج حيث الإنفلات الأمني والفوضى العارمة في كل مكان , وهناك أحزاب سياسية ذات أذرع عسكرية ومرجعية خارجية تخضع لمشيئتها , ولها إمتدات خارج العراق , والمناصب الوزارية والمواقع القيادية العليا تباع وتشترى في بازار خاص بها .
وجاء في المادة ( 9) من الدستور :
.اولا : ـ أـ تتكون القوات المسلحة العراقية والاجهزة الامنية من مكونات الشعب العراقي، بما يراعي توازنها وتماثله دون تمييز ٍ او اقصاء، وتخضع لقيادة السلطة المدنية، وتدافع عن العراق، ولا تكون اداة ً لقمع الشعب العراقي، ولا تتدخل في الشؤون السياسية، ولا دور لها في تداول السلطة .
ب ـ يحظر تكوين ميليشيات عسكرية خارج اطار القوات المسلحة .
ثانيا : تنظم خدمة العلم بقانون .
بينما واقع الحال يشير إلى عدم وجود قوات عراقية مسلحة موحدة بتشكيلاتها وصنوفها المختلفة , بل هناك جيوش ومليشيات وفصائل مسلحة متعددة بتسميات مختلفة ترتبط إسميا برئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة , ولا تخضع لسلطته حيث تتلقى أوامرها من قياداتها الحزبية مباشرة ولا أحد سواها , بينما تتقاضى تخصيصاتها المالية من الحكومة .كما لم يشرع قانون خدمة العلم على الرغم من مرور نحو عقدين من الزمان .
جاء في المادة (13) :
اولا:ـ يُعد هذا الدستور القانون الاسمى والاعلى في العراق، ويكون ملزما ً في انحائه كافة، وبدون استثناء.
ثانيا:ـ لا يجوز سن قانون ٍ يتعارض مع هذا الدستور، ويُعد باطلا ً كل نص ٍ يرد في ٍدساتير الاقاليم، او أي نص ٍ قانوني آخر يتعارض معه .
يلاحظ بوضوح عدم إلتزام سلطة إقليم كردستان ببنود الدستور , إلاّ بالقدر الذي يخدم مصالحها .
المادة ( 18 – رابعاً ) :
يجوز تعدد الجنسية للعراقي، وعلى من يتولى منصباً سيادياً أو أمنياً رفيعاً ,التخلي عن أية جنسيةٍ أخرى مكتسبة، وينظم ذلك بقانون .
يلاحظ أن أغلب من تولى مناصب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء والكثير من المناصب القيادية الرفيعة في الدولة , هم من حملة الجنسية المزدوجة في مخالفة صريحة للمادة (18).
المادة (46) :
تتكون السلطة التشريعية الاتحادية من مجلس النواب ومجلس الاتحاد .
المادة (62) :
يتم انشاء مجلس ٍ تشريعي يُدعى بـ(مجلس الاتحاد) يضم ممثلين عن الاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في أقليم، وينظم تكوينه، وشروط العضوية فيه، واختصاصاته، وكل ما يتعلق به،بقانون ٍ يسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب .
لم يشكل مجلس الإتحاد حتى يومنا هذا , وبذلك لا يصح وصف الدولة العراقية بالدولة الإتحادية الفيدرالية حيث لا وجود لهكذا تنظيم , بل هناك دولة مفككة داخليا تضم محافظات تديرها مجالس محافظات وإقليم كردستان تديره سلطة منحت لنفسها صلاحيات واسعة جعلت منه أشبه بدولة ذات سيادية , إذ لا سلطة للحكومة العراقية عليها , فهي تهيمن على كامل ثروات الإقليم وتفرض سيطرتها على كامل حدوده بمعزل عن سلطة الحكومة العراقية , وتعقد الإتفاقات مع الدول الأجنبية دون الرجوع للحكومة العراقية , وتتهيأ لإعلان دولة كردستان المنشودة إذا ما سنحت الفرصة والظروف الدولية المناسبة لتحقيق ذلك .
المادة (108) :
النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي في كل الاقاليم والمحافظات .
لم تنفذ المادة ( 108) , إذ تتصرف حكومة إقليم كردستان بالثروة النفطية والغازية إستخراجا وإنتاجا وتسويقا على هواها وبمعزل عن الحكومة العراقية , وفي تحدي صريح لقرار المحكمة الإتحادية في ضوء الشكوى المقدمة لها قبل مدة من وزارة النفظ العراقية .
وفي ضوء ما تقدم نقول أن إصلاح النظام السياسي القائم حاليا في العراق , إنما يتطلب في المقام الأول إصلاح الدستور الذي تقوم عليه العملية السياسية , لضمان بيئة سياسية آمنة ومستقرة ينعم فيها الجميع بالحرية في أجواء حكم مدني ديمقراطي دون خوف أو وجل , بعيدا عن سطوة السلاح ونفوذ المال السياسي ودغدغة الغرائز الدينية والطائفية والأثنية والعشائرية, يفصل بوضوح بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية , ويحرم الإتكاء على الدول الأجنبية بأي شكل كان وتحت أي مسمى . ومهمة كهذه ليست بالمهمة اليسيرة , إنما تتطلب تخليص النفوس من أدران الحقد والكراهية التي أججتها أحداث الماضي القريب والبعيد وإسدال الستار عليها , وفتح باب التسامح وتناسي تلك الأحقاد وتكاتف الجهود لبناء عراق ديمقراطي حر ومستقل . ومن باب أضعف الإيمان ينبغي على القوى السياسية المتصدرة للمشهد السياسي الحالي, تنفيذ بنود الدستور الحالي الذي وضعوه أنفسهم وأوصلهم للسلطة التي ما كانوا يحلمون بها يوما .

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي