قطار آخن 24

علي دريوسي
2022 / 11 / 2

المطر في الخارج عنيف، الدفء في الداخل شَدِيد، جسدي يرتجف، صَوتي يَتَقَطَّع في اِرتعاش، نبضات قلبي تُسابق الخيل، خائف أنا مما حولي، أشعر بالموت يقترب، ستكون نهاية وخيمة في بيت غريب.

أين ذهبت الكلبتان؟

سأهرب من كهف الوفاء هذا، الوفاء للموت والسجائر والكوكايين.

الاعتدالية في كل شيء هي العلاج الفعّال للقلق في الغربة، لم أحترم الاِعتدال يوماً، لا أتناول طعامي باعتدال، لا أشرب ولا أسكر باعتدال، لا أدخّن باعتدال، لا أرقص ولا أحزن باعتدال، حتى مواقفي الاِجتماعية والسياسية لا اِعتدال فيها.
لا يجرؤ أحد أن يخبرنا علناً عن مخاوفه واضطراباته في الغربة.

لعل الوقت لم يحن بعد للتذمُّر من الخوف المعشعش في زوايا الغربة، مرت أجيال ولم يأت الوقت المناسب للكلام، الشيء الوحيد الذي علينا أن نخاف منه في الغربة هو أنفسنا مع نسائنا في المطبخ، تماماً وقت إعداد طعام العشاء، كل أصدقائي الأذكياء قَتَلوا زوجاتهم أو قُتِلوا من قِبَلِهنّ في المطابخ. كيف لهم/لهن القدرة على ذبح الشريك الذين يطبخون معه طعام العشاء؟

المرأة قادرة على قتل الرجل الذي لا يطبخها دون أن يرف لها جفن!

أعتقد أنّي غير قادر حتى على تقشير تفاحة أو برتقالة، سيقشعر بدني إذا شاهدت ظِّلي البشع يحمل سكين فواكه. حَبَّات البرتقال تموت حين تُقشّر.

لم أسمع أبداً أن أصدقائي القَتَلة قد حُكِموا بالإعدام على جرائمهم المرتكبة في المطابخ! ولما عقوبة الإِعدام هذه؟ إنّها ليست إلّا القتل العَمْد الذي يتم عن سبق إصرار وترصُّد، لا يمكن مقارنتها بأيّ فعل إجرامي خُطِطَ له، المجرم لا يُبلِّغ ضحيته مسبقاً عن وقت موتها المفجِّع، قلّما نصادف مثل هذا الوحش في الحياة اليومية. حتى الأُسْقُف سوف لن يبقى أُسْقُفا ولا مسيحياً ولا حتى إنساناً إذا ما بارك الإعدامات السياسية، سيكون في هذه الحالة فقط مجرد كلب، مثله مثل كل من يأمر بعقوبة الإعدام انطلاقاً من البُرْج العاجيّ لإيديولوجية ما. الاستنتاج ذاته ينطبق أيضاً على رموز الأديان الأخرى.

من تفلسف بما أتفلسف به بالنيابة؟ هل كان الفرنسي "ألبير كامو"؟

لا أريد أن أتذكّر، أريد فقط أن أقتلهما الليلة معاً ثم أهرب! من الأفضل أن أجبرهما على كتابة رسالة انتحار قبل أن أقتلهما.
سأقتلهما دون أن أبلغهما عن نيتي تلك، سأقتلهما بطريقة رحيمة، سأقتلهما وأتقدم بطلبٍ للجوء الإنساني، سأرفع طلباً للجوء في مقاطعة أخرى من ألمانيا.

هل أخطأ زميلي الألماني "رايمو" بترك زوجته حرّة؟ أما انبغى عليه أن يكون قد قتلها في المطبخ؟
كانَ "رايمو" شاباً لطيفاً رغم عذاباته اليومية مع سرطان مخ العظام. تخلّتْ عنه زوجته، رفعتْ دعوى طلاق ضد مرضه، بقيَ ودوداً. تفاقّمتْ حالته وظلَّ يعملُ أكثر من ثماني ساعاتٍ كل يوم، دافع عن أطروحة الدكتوراه في الجامعة التقنية بتقديرٍ ممتاز. بقيَ رايمو متواضعاً مع زملائه، وفياً لعمله ومقاوماً عنيداً لمرضه حتى الساعات الأخيرة، أمضى أسبوعه الأخير في المشفى الجامعي. يجلس الزملاء في المعهد وقت الفطور اليومي، يفتقدون حضوره، يتحاشون الحديث عنه، لا زيارة المريض في البيت ولا الإطمئنان عليه تلفونياً من الأشياء المألوفة، أما زيارته في المشفى فلا تحدث إلا نادراً، في اليوم الأخير، أخبرهم رئيس المعهد بأنّ عليهم الذهاب إلى المشفى مع باقة ورد.

أشعر بأنني أموت، لا تقلقوا، سأكتب لكم كل ما أفكر فيه قبل أن أودّعكم، لدي ما يكفي من الأقلام والعزيمة لأكتب عن كل ما حدث، ذاكرة القلم لا تموت، ما يكتبه القلم لا يموت، هو اللسان الثاني بعد انتهاء حياة المرء، أقصد حياتي.
لن أندم على موتي بسبب جرعة كوكايين زائدة عن الحاجة، إذا بقيت وفياً لمبادئي لا أحتاج عندها للندم، ولن أضطر للاهتمام بأعدائي، لأنهم سيتساقطون مثل القراد ذات الثمانية أرجل والمشبعة بالدماء.

أعرف أنّني سأموت اليوم في بيتٍ غريب جدرانه من الكوكايين ولن أحن إلى أي شيء بعد موتي، طالما أنّ ما حننت إليه مكثفاً في حياتي القصيرة لم يتحقق!
أعرف أنّ موتي قادم، قلبي لا يسعفني على البقاء، سأموت لوحدي، بموتي تموت ذكرياتي، يؤسفني فقط أني لم أفلح بغربلتها بعد، بعضها ما زال يعصف بروحي وعقلي يُوجع جسدي.

ما زال لدي ذكريات عنيفة وغنية وصاعقة كإعصار، ذكريات تستحق الترتيب والاهتمام وإعطاءها الشكل التعبيري الأسمى، ولدي أيضاً ذكريات أخرى فارغة وهزيلة كأحاديث البرجوازية الصغيرة التافهة في بعض شوارع مدن الشرق وأحيائها وأبوابها، شوارع بغداد والحمراء وأحياء الأمريكان والإنكليز والفرنسيين.

أين ذهبت الكلبتان الفاجرتان؟
**

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي