9- الإعلام وثقافة الغباء الجمعي

ياسين المصري
2022 / 7 / 28

يُعَدُّ الإعلام أهم وأخطر وسائل المعرفة والتثقيف في المجتمعات البشرية، وفي السنوات الأخيرة برزت أهميته بشكل واضح، نظرا لزيادة التعقيدات الفنية والمعرفية في العالم، ودوره الأساسي في تشكيل ثقافة الشعوب منذ بدأت تعيش في مجتمعات بشرية، فعندما يحذِّر إنسان بدائي قومه من خطر داهم، فهو يُعلِمهم - بوسيلة ما - بشيء يمس حياتهم، ويثقفهم، في نفس الوقت، بمضمون الخطر وأخذ الحيطة منه، والاستعداد لمواجهته، تمامًا كما نحذر الطفل الصغير من النار، فيمتنع عن ملامستها، وبذلك نضيف معرفة جديدة إلى مداركه، أي تثقيفه بخطر النار والاقتراب منها. ولذلك، فإن التمازج بين الثقافة والإعلام تمازج قديم، حتى وإن لم يكن واضحًا أو متبلورا، لشدة تداخل والتصاق المادة الإعلامية وامتزاج المادة الثقافية بنسيجها.
الثقافة - باختصار - هي مجمل ما يقدمه المجتمع من خلال الإعلام لأبنائه من عادات وقيم وأساليب سلوك وحياة، وتوجهات وعلاقات وأدوار وتقنيات، كي يتعلموها ويتكيفوا معها كنمط معيشة يحافظ على كيانهم المجتمعي برمته، فالعقل البشري لا يتوقّف عمله عند استقبال المعلومات من الصحف أو الكتب أو الأخبار التلفزيونية أو مواقع الويب أو النقل الشفهي أو غير ذلك، إنّما يقوم بتحويل كلّ ما يحصل عليه منها إلى معرفة، واستنتاجات لأمور أخرى، ومعانٍ ومبادئ جديدة تتعلّق بالطبيعة والوجود وحياته وحياة الآخرين من حوله، وبذلك يتم بناء ثقافة البشر ومعارفهم وأساليب حياتهم. من هنا، لا يمكن الحديث عن ثقافة من نوع ما دون الإعلام، الذي يُعْلِم ويعلِّم الناس باستعمال الوسائل الإعلامية المتعددة، وهو أهم من التعليم المدرسي والمهني المتخصص، فأثره يشمل جميع الأعمار والفئات المتعلمة وغير المتعلمة في المجتمع. ولا ينفصل عن محيطه الاجتماعي، إذ يعكس الوضع الذي يعيشه مجتمعه، ويقدم المعرفة التي يريدها ويتوقعها منه أفراده، فيعطي للمادة المقدمة قيمة، يلتفون حولها ويعملون بمقتضاها. المجتمعات البشرية لايمكنها ان تحيا وتتقدم إلا بالإعلام، وبما يقدمه لها من حقائق معرفية وأفكار بناءة، إضافة إلى تلك التي يقدمها التعليم المهني.
تكمن أهمية الإعلام في تأثيره المباشر على عواطف الناس ومدى إدراكهم، ومعتقداتهم وقناعاتهم وسلوكهم ووظائفهم الاجتماعية، ومواقفهم ووجهات نظرهم، مما يقتضي ضرورة تعزيزه بجرعات تثقيفية هادفة، وإتاحة أساليبه وإمكانياته الحديثة لجميع أفراد المجتمع بيسر وسهولة، أي العمل على دمقرطة المعرفة بحيث لا تكون حكرًا على فئة بعينها، بل جعله يمثل للعديد من الناس الوسيلة الأيسر للتثقيف وتنمية الفكر، وتهذيب النفس، وتوفير الذاكرة المسموعة والمرئية والمكتوبة التي يمكن استدعاؤها كلما تطلب الأمر. كما يعمل الإعلام على نشر ثقافة الحوار بين الحضارات، ونقل العديد من قيم السلام والتسامح والديمقراطية بين الدول، خاصةً بعد الانفجار المعرفي والتقني الذي أثَّر عليه بصورة كبيرة. الإعلام ليس إلا تعبيرًا عن رغبة البشر في التواصل مع بعضهم البعض، أو إجراء نوع من الحوار فيما بينهم، وتبادل المعارف مع الآخرين، ومخاطبتهم والتأثير عليهم أو التأثر بهم.
بالطبع لا بد وأن يتناغم الإعلام، بما في ذلك الترفيهي منه، مع المادة التثقيفية المناسبة للفئات العمرية المختلفة في المجتمع، سواء في البيت أو المؤسسات التعليمية أو الأماكن العامة أو غيرها، وألا ينحرف، ويتخذ طابعًا تثقيفيًا، لاقيمة له في تشكيل الوعي الشعبي وإنتاج الذكاء الجمعي وترسيخه في المجتمع، وعدم التزامه بقضايا مجتمعه، وإدراكه لمسؤولياته الوطنية ودوره التنويري. كما أن غلبة الطابع التجاري وتسليع المادة الإعلامية وإخضاعها لآليات السوق بمنطق العرض والطلب، وتغافل الدور التثقيفي والجور عليه، أمر مخجل ومشين، ويزيد من تضليل وتخبط المتلقي، كما أن مخاطبة المثقفين لبعضهم البعض عبر الوسائل الإعلامية، عوضًا عن مخاطبة الجماهير ما هي إلَّا رفاهية لا تتحملها الثقافة بشكل ما.
ولكن في المقابل يمكن للإعلام ان ينحرف عن رسالته، بحيث يقلب كل المعايير رأسا على عقب، ويجعل العلم خرافة والحقائق أكاذيب واليقين يدور حوله الشك ويظهر الجمال على أنه القبح، والقبيح على أنه الجميل والمرغوب فيه، وبذلك يساهم مباشرة وبقدر كبر في تضليل المجتمع، وإنتاج وتعميق وترسيخ ثقافة الغباء الجمعي الشامل فيه، فمثلا خرافة الغزو الثقافي السائدة في مجتمعاتنا والتي تتبناها وسائل الإعلام المغرِضة ماهي سوى خداع وعبث يقصد به بقاء المجتمع على ما هو عليه من غباء جمعي، فالثقافات - قديمًا وحديثًا - لا تغزو ولا تفرض نفسها، بل تتلاقى وتتلاقح، ومن ثم تنجم عن ذلك ثقافات ومعارف جديدة تخدم البشرية وتدعم الإنسانية جمعاء.
الإعلام المغرض هو الإعلام الموجة وفقًا لأيديولوجيات وأجندات خاصة. تقوم برعايته وتمويله مؤسسات حكومية منحرفة أو بعض المنظمات المشبوهة أو الأفراد ذوي الميول المرضية أو النوايا التدميرية، بما يتفق مع أهدافهم السياسية والأمنية والأيدلوجية والدينية. كل هذا لغرض خلق شعور بالإحباط لدى أفراد المجتمع، وبناء أفكار سلبية في عقولهم، وخلق مجتمعًا مهيأ للإثارة، بهدف انتهاز الفرصة حال حدوث أي موقف شاذ، والعمل على استغلاله لصالحها. لقد ساعدت الثورة الرقمية الحالية والتقدم التكنولوجي الهائل هذا التوجه المريب، وأثرت بشكل كبير في ابتعاد الناس - خاصةً الشباب - عن وسائل الإعلام التقليدية، مما أتاح سهولة التضليل الإعلامي والتثقيف المؤدلج، ومن ثم المشاركة الفعلية في صناعة الغباء الجمعي، خاصة في غياب الضمير الإعلامي الذي بات تشويهًا صريحًا لوعي الشعوب! وأصبحت أهداف التضليل الإعلامي ومقاصده تختلف باختلاف الجهات الصانعة له، واختلاف الفئة المستهدفة، لتحقيق مجموعة من الأهداف الرئيسة، مثل: التربح وكسب المال، أهداف سياسية محلية أو أجنبية، أهداف نفسية وأهدافٌ اجتماعية، التفاصيل في البحث التالي (باللغة الانجليزية).
https://firstdraftnews.org/long-form-article/understanding-information-disorder/
التعليم في كافة الدول المتأسلمة يتسم بالأدلجة والشوفينية المضللة، ويركز من بدايته على الديانة والنهج النبوي، وطاعة الله ورسوله وألي الأمر، وبالتبعية لا بد من ان يأتي الإعلام متناسقًا مع هذا النهج، وامتهان الكذب الصريح والكراهية والتحريض ضد الآخرين داخل الدولة أو خارجها، على نفس الطريقة النازية الفاشية المعروفة، التي اعتمدت على وتكرار الكذب حتى يصبح حقيقة، كأحد أهم الأسلحة الإعلامية الموجهه لخداع الجماهير، ولكن، كما نعرف جميعًا، سرعان ما تهاوى على من فيه هذا الصرح الهش الذي بُني على الكذب.
***
تكلم الأستاذ جهاد علاونة في مقال له عن الفصل العميق بين الثقافة والإعلام في أوطان العربان، قائلا: « والإعلام يقهر الثقافة ويبتزها بوصفه الناطق الرسمي بإسم النظام الحاكم وتقوم وزارة الداخلية، والأمن بكل فصائله بحماية الإعلام من عبث المثقفين حيث أن أقلام المثقفين إذا وصلت للإعلام فهذا يعني أن الإعلام في خطر.»، ويرى أن « الإعلام بيد السلطات العربية وهو موضوع منفصل عن الثقافة وإنه من الملاحظ جدا أن هنالك فصل عميق وكبير بين وزارات الثقافة الإعلام في الدول العربية. فوزارات الثقافة وزارات مستقلة ووزارات الإعلام وزارات مستقلة بذاتها ويحتفظ وزير الإعلام بخصوصياته ويحتفظ أيضا وزير الثقافة أيضا بخصوصياته وكلا الخصوصيات رسمية وليست شخصية».
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=134696
هذا صحيح، ويحملنا على التساؤل عن الأسباب الرئيسية وراء هذا الفصل، الذي لا مثيل إطلاقًا في الدول المتحضرة!.
من أهم علامات الدول المتخلفة هو خوف حكامها من الفكر التقدمي التنويري الذي يزلزل سطوتهم ويهدم عنفوانهم ويزيل الغرور من نفوسهم، لذلك لجأوا إلى فصل الإعلام عن الثقافة، ليسهل عليهم فرض رقابة صارمة عليهما، والتحكم فيهما وإخضاعهما لسيطرة شاملة عن قرب، وتوجيههما إلى حيث يريدون وتبعا لما يشتهون.
في مصر كان أول ما فعله العسكر الانقلابيون في 23 يوليو 1952 هو احتلال ومحاصرة مبنى الإذاعة السابق، بشارع علوى بالقاهرة، وإلقاء بيان الانقلاب، ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن أصبحت السيطرة على الإعلام والثقافة أهم ما يشغل بالهم، فاتسمت تصرفاتهم حيالهما بالحيرة والتردد، بحكم ما هم عليه من جهل وعجز، ففي نوفمبر 1952، أنشأوا ”وزارة الإرشاد القومى“، ثم غيروا الاسم في عام 1958 إلى ”وزارة الثقافة والإرشاد القومى“، ثم عاد مرة أخرى إلى ”وزارة الإرشاد القومى“. استمر هذا الوضع حتى عام 1970. وبسبب المتغيرات الكثيرة التي طرأت على وسائل الإعلام وأساليبه في العالم، ضمُّوا قطاعي الاعلام والثقافة معًا مرة آخرى حتى صدر القرار الجمهورى رقم 43 لسنة 1982 فأصبح للاعلام وزارة مستقلة تحت مسمى وزارة الاعلام. ثم ألغيت في عام 2014 بنص دستوري، وأعيدت مرة أخرى في 22 ديسمبر 2019، بمسمَّى ”وزارة الدولة للإعلام“، إلى جانب ثلاث هيئات إعلامية هي المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام والهيئة الوطنية للصحافة والهيئة الوطنية للإعلام. على ما يبدو أختير الإسم بقصد التحايل على النص الدستوري القاضي بإلغاء وزارة الإعلام. ولأن الجهل والعجز والنيات المغرضة يفضي إلى الحيرة والتسطيح، فلم يحظَ إعداد هذه الوزارة والهيئات الإعلامية الثلاث بالدراسة والتحضير الكافيين، فجاءت اختصاصاتها فضفاضة وغير واضحة، وتتسم بالتعميم ولا تشتمل على صلاحيات وسلطات تمكنها من تنفيذ ملامح واضحة للسياسة الإعلامية، وضعت جميعها تحت رقابة قوات الأمن، وقيادة عسكرية أو مدنية غير مؤهلة وموالية للنهج العسكري، فجاءت أعمالها إنشائية، وخالية من الموضوعية وشديدة التركيز على إثارة العواطف الجياشة لدي المواطنين. وفي نفس الوقت تركت الإعلام الخاص يعمل على نشر خطاب الكراهية والتحريض على العنف، وانتهاك الحياة الشخصية للمواطنين بشكل فج. مما برر للأجهزة الأمنية والاستخباراتية أن تضع يدها على جميع الكيانات المرئية والمسموعة والمقروءة بشكل مباشر أو غير مباشر. أدى ذلك إلى تقديم المعلومات الخاطئة والمغرضة والتي من شأنها إفساد فطرة الإنسان وذكائه الطبيعي، واتَّسم المشهد الإعلامي بافتقاد المصداقية وغياب التنوع والتعددية، والتوجيه وعدم الانتشار والتأثير، مما تسبب في عزوف الشباب خاصة من الفئة الأقل من 35 سنة (59 إلى 60%) من متابعته، واللجوء إلى متابعة القنوات الخارجية كمصدر للمعلومة والتعرُّف على الرأي الآخر وتقصي الحقيقة. إنشغل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، منذ إنشائه، بفرض سيطرته على كافة الوسائل الإعلامية، واكتفى بدور “شرطة السلوك والأخلاق”، بمباركة ومساعدة من مشايخ العسكر والهواة السلفيين، واقتصر اهتمامه على ممارسة أدوار رقابية وعقابية فحسب، داخل المجتمع الصحفي والإعلامي.
أما الثقافة فقد كانت معظم أجهزتها - قبل انقلاب العسكر - متفرقة بين وزارات مختلفة أبرزها وزارة المعارف العمومية، ثم بدأ كيانها في التبلور دون اسم حين تأسست وزارة الإرشاد القومي (1958)، وفي عام 1961، ذكرت الكلمة لأول مرة في مسمَّى ”وزارة الثقافة والإرشاد القومي“، ثم استقلت نهائياً عن أجهزة الإرشاد القومي في أكتوبر 1965، وتولاها الدكتور ثروت عكاشة، وهو ضابط خريج الكلية الحربية 1939، وكلية أركان الحرب 1945 - 1948، وحاصل على دبلوم الصحافة كلية الآداب، جامعة فؤاد الأول 1951، وعلى الدكتوراه فى الآداب من جامعة السوربون بباريس 1960. ورغم أنه كما يبدو بلغ مستوى عال من التعليم، إلا أنه عسكرى من الأساس وعليه أن يعمل تحت مظلة العسكر، فاقتصرت ثقافته في الدعوة لمبادىء الثورة المزعومة، والتعريف ببرامجها واتجاهاتها الاجتماعية والسياسية، وتبريرها أمام الشعب، وإصدار الكتب التي تسمح بها وزارته، والقيام ببعض الشؤون المحدودة في مجال الفنون.
ومع تطور المادة الثقافية والإعلامية، ظهر نوع من التمايز أو التباين بين وسائل الإعلام ووسائل الثقافة، بوجود وسائل الإعلام المستقلة، مع بداية عصر أو ثورة الإعلام التي انتشرت خلال النصف الأخير من القرن الماضي، بوساطة الإذاعات ووكالات الأنباء ومحطات البث التلفزيوني على الأقمار الصناعية والانترنيت والبريد الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي وغيرها. ومن ثم تبلور تدريجيًا وضع جديد في مصر، إحتلت فيه السلطة العسكرية جميع وسائل الإعلام، والتحكم بنفسها في مواقع الثقافة الشعبية العامة، وبات الشعب لا يتلقى ثقافته إلا مما تقدمه تلك الوسائل، وهي ثقافة سطحية مغرضة وبذيئة وفيها الكثير من السفالة والانحطاط ، ويطغى عليها الطابع العاطفي المضلل والغيبيات المخدرة والعادات المصطنعة، وقهر الثقافة الحقيقية وابتزازها من قبل لإعلاميين الجهلاء، وأدعياء التثقيف المنحرفين، بحماية مباشرة من وزارة الداخلية، وأجهزة الأمن المختلفة. ابتعد هذا التطور العميق في قطاع الإعلام عن أن يكون عضُداً في حمل رسالة التثقيف الحقيقي، كحاجة إنسانية، وراحت تلك الرسالة تنكمش في محراب النخب والمثقفين، بمعزل عن العمل في فُسحة واسعة من التداخل والمشاركة الجماعية بطابعها الجماهيري، مما اجبر المثقف الجاد، إذا أراد أن يضع بضاعته في سفينة الإعلام ويُبحر بها نحو عوالم أوسع، على مجاملة الإعلام، ومنافقة المتحكمين فيه، والتوافق بصورة ما مع شروطهم، التي يتم صياغتها ووضع قواعدها التنظيمية وإعداد مادتها من قبل المغرضين وأصحاب النوايا الشريرة في الغرف المغلقة. وبالتالي انتقلت عدوى الفساد في رسالة الإعلام، إلى رسالة الثقافة، وأضحى المنتج الثقافي شبيها إلى حد كبير بالإعلان التجاري في مضمونه وغايته، وقد ارتدى حُلة المصالح والغايات، وأصبح غير بريء من الشرور والآثام، ومدافعًا عن «الشيطان»، في تشويشه وتداخله بين القلم البناء والسيف البتار، وبين عُذرية الكلمة ونقاء مقصدها وفضائحية الدعاية وسوء أهدافها.
بعد الانتفاضة الشعبية في عام 2011، أدركت السلطة العسكرية خطورة وسائل التواصل الاجتماعي والتي ساهمت بقدر كبير في إشعالها، ففور انقلابهم على الرئيس الإخواني محمد مرسي، ركزوا على شبكة الإنترنت،، واتخذوا مجموعة من الإجراءات التشريعيةً والتنفيذيةً والقضائيةً، والانتهاكات المتعلقة باستخدامها، تهدف إلى تطويقها والحد من التهديدات السياسية الناجمة من خلالها، وذلك عن طريق توجيه المستخدمين نحو رقابة ذاتية تتشكَّل على قاعدة من الخوف الناجم عن الملاحقات والسجن والانتهاكات الجسيمة، تبعًا لتقرير رصدي لأوضاع حالة حرية التعبير في مصر على مدار عام 2021، حمل عنوان "تجفيف منابع الحرية".
https://afteegypt.org/research/monitoring-reports/2022/02/22/29120-afteegypt.html?fbclid=IwAR1myPYf6NjneTR8kICKD4ebgfYwRbIVVoyn2PhRWj9mpT39tOW-nOS-KKE
أشار التقرير إلى استهداف الأجهزة الأمنية بشكل عشوائي للناشطين والمعارضين وحتى المواطنين العاديين على خلفية تدويناتهم في مواقع التواصل، بالإضافة إلى تقليل حجم المعلومات المتاحة خارج الرواية الرسمية بحجب مئات من المواقع الإلكترونية، خاصة الصحافية منها، كما كثَّفت السلطة التشريعية ممثلةً في البرلمان من إصدار التشريعات المتعلقة بوضع قيود صارمة على استخدام الإنترنت والتعامل مع مستخدميه، والهدف من كل تلك الإجراءات هو محاولة تعميم حدود رقابية لتقليل حجم المحتوى غير المرغوب فيه، حسبما جاء في التقرير.
من خلال إعلام الصوت العسكري الواحد، جاءت جميع الممارسات الإعلامية الفجة، لا تحمل مضموناً ولا تخلق وعياً، ولا حتى تناقش قضايا مهمة، وتعكس فقط سطحية الإعلاميين وتفاهتم، يتسابقون على التوافه والسواقط في الحياة، ويتجاهلون العلماء الذين يحملون شرف المهنة لخدمة مجتمعهم، ويعرضونهم للايذاء النفسي والبدني من قبل السلطة الفاشية الغاشمة.
الاستاذ الدكتور ”أيمن منصور ندأ“ رئيس قسم الإذاعة والتليفزيون بكلية الإعلام جامعة القاهرة، والحاصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في الرأي العام والإعلام الدولي من جامعة القاهرة، وعلى درجتي الماجستير والدكتوراه فى العلوم السياسية والعلاقات الدولية من الجامعة الأمريكيه بالقاهرة وجامعة جورجيا الأمريكية، ودبلوم فى إدارة المؤسسات الجامعية من جامعة سيراكيوز الأمريكية، وله 73 دراسة و12 كتاب في الإعلام والرأي العام والاتصال السياسى. حاول تطبيق المنهج العلمي بشكل مهني كاستاذ جامعى متخصص، وليس كمعارض سياسي، فانتقد منظومة الإعلام المنحطة في مصر، وكتب مقالين في 18 و25 مارس 2021، على صفحته في الفيسبوك الأول بعنوان: ”رسالة مفتوحة إلى رئيس تحرير مصر“، والثاني بعنوان: “إعلام البغال والحمير“، كانت كلماته واضحة ومباشرة بحيث أنها أثارت حفيظة البغال والحمير، فأرغموه على حذف المقالين بعد ساعة واحدة من نشر المقال الثاني، وتقديم الاعتذار وفروض الطاعة!، ثم انهالوا عليه بالانتفاضات والبلاغات للنائب العام بتهمة السب، وتم اعتقاله في 27 سبتمبر 2021، والاعتداء عليه وإهانته، وتقديمه للمحاكمة.
أوضح أستاذ الإعلام في المقالين أن كل الدلائل تشير إلى رجل واحد يقف « خلف المشهد الإعلامي ويمسك بكل الخيوط ويحرك كل العرائس»، مضيفا أن هذا الشخص « هو صاحب لقب (رئيس تحرير إعلام مصر) و(الرئيس التنفيذي لمصر) في المجال الإعلامي: المقدم أحمد شعبان» ( مقدِّم هي رتبة البكباشي الناصرية). وقال إن هناك اتفاقا على أن هذا المقدِّم هو « أقوي رجل في المنظومة الإعلامية (والسياسية) في مصر» وأن « صلاحياته لا حدود لها، وقراراته لا مُعقِّب عليها». وأضاف أن الجميع يخافون منه، و« يتهامسون باسمه خوفا من الجهر به» لأن « بطشه شديد وعقابه أليم», لأنه « يعز من يشاء ويذل من يشاء», وقال الدكتور أيمن إن « كل العاملين في المجال يخشون غضب المقدم شعبان ولا أحد يخرج عن سلطانه ونفوذه اتقاء شره حتى أقرب المقربين من الرئيس السيسي»، وأضاف أن الكثير حذره من الكتابة عن المقدم أحمد شعبان، فهو « رجل جيش ومخابرات من ناحية، ومقرب بشدة من اللواء عباس كامل (مدير المخابرات العامة) ومن السيد/ محمود السيسي (ابن الرئيس المصري والضابط بالمخابرات العامة) من ناحية أخرى».
ووصف الإعلام المصري بأنه « بلا نخوة، ولا شهامة، ولا قوة، ولا فعالية»، وأنه «إعلام عاجز وضعيف وغير مقنع»، مشيرا إلى اعتراف وزير الخارجية المصري سامح شكري مؤخرا بضعف وسائل الإعلام المصرية والحاجة إلى وجود « آلة إعلامية نافذة تستطيع أن تصل للآخرين وأن تكون مؤثرة». وأضاف أن من يتصدرون المشهد الإعلامي في مصر حاليا « أكلوا على كل الموائد السابقة ويفتخرون بذلك، وماضيهم الإعلامي غير مشرف». وقال إنه تم « ترسيخ ممارسات غير مهنية، وتصعيد إعلاميين غير محترفين والتخلص من كفاءات حقيقية خلال السبع سنوات الماضية». كما تم « اختيار قيادات غير مناسبة في المواقع المختلفة وسادت أخلاقيات ممارسة ما كان لها أن تسود»، وذلك « تحت عين وسمع الدولة وبمباركتها». ووصف الإعلاميين الحاليين في مصر بأنهم «أقرب إلي السؤال الذي طرحه الفنان أحمد زكي في فيلم معالي الوزير : "عمرك شفت سفالة أكتر من كدة؟".. والحقيقة المؤكدة يا سادة: "مفيش أكتر من كدة"!!». إطلع على نص المقالين:
https://user11193787.blogspot.com/2021/09/blog-post_30.html
ومنذ ذلك الوقت أدرك الأستاذ أنه عندما تنخفض شمس الإعلام، تصبح للأقزام ظلال كبيرة، فآثر الاستسلام والكف عن الكلام، شأنه في ذلك شأن جميع أهل العلم والمعرفة في مصر، ومازال البعض يعتقد بأن الإعلام فيها لا يعمل على بث وتعميق ثقافة الغباء الجمعي في المجتمع على كل الأصعدة والطوائف والمؤسسات!
المقال القادم والأخير يتناول ضحايا هذه الثقافة.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي