(روسيا الحرة) ... منظمة مشبوهة التمويل و الأهداف!

آصف ملحم
2022 / 7 / 13

بدأت، على خلفية الحرب الروسية-الأوكرانية، تطفو إلى السطح أسماء بعض الشخصيات التي كانت غائبة عن المسرح السياسي الروسي لفترات طويلة، مستغلة ظروف المعركة لتحقيق مكاسب سياسية. ويبدو بوضوح أن الولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً و الغرب عموماً بدأوا باستثمار هذه الشخصيات لتشكيل ما يمكن تسميته المعارضة الخارجية، والهدف واضح هو الضغط السياسي على القيادة الروسية وتأليب الرأي العام العالمي عليها.
تعتبر الوكالة الأمريكية للتنمية الدوليةUS Agency for International Development (USAID)
من أهم المؤسسات التي تدعم هذا النوع من النشاط، بالإضافة إلى السفارات الأمريكية، التي تقدّم الدعم والمساعدة لمختلف المنظمات غير الحكومية، والتي تهدف إلى الترويج لسياسات الولايات المتحدة والتأثير على الرأي العام في هذه الدولة أو تلك.
من أهم هذه المنظمات، التي برزت في العقد الأخير، هي منظمة (روسيا الحرة)، التي تأسست في عام 2014، وهي منظمة غير ربحيّة وغير حزبية وغير حكومية، مقرها مدينة واشنطن، ولها مكاتب في كييف و تبليسي و براغ و برلين كما أن برامجها تشمل: روسيا، أوكرانيا، بيلاروسيا، جنوب القفقاز، آسيا الوسطى، أوروبا، أمريكا الشمالية. وفق موقعها الرسمي، يهدف نشاط هذه المؤسسة إلى (دعم المجتمع المدني و التطور الديموقراطي في روسيا). يعمل ضمن هذه المنظمة مجموعة من الشخصيات الروسية و الأمريكية و الأوروبية. في شهر حزيران من عام 2019، اعتبرت وزارة العدل الروسية نشاط منظمة (روسيا الحرة) غير مرغوب فيه!
أعتقد أنه سيرد مباشرةً إلى ذهن القارئ الكريم السؤال الآتي:
لماذا تدعم الولايات المتحدة المجتمع المدني والديمقراطية في البلدان الأخرى؟
والجواب-في الحقيقة-واضح وضوح الشمس في رابعة النهار؛ إذ أن السذاجة لم تبلغ بنا ذلك المبلغ الذي يعمينا عن رؤية الحقائق الراسخة في الصورة الكلية لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية!
ترأس منظمة (روسيا الحرة) ناتاليا آرنو، والحقيقة أن النسبة (آرنو) هي نسبة زوجها (مايكل آرنو)، أما نسبتها الأصلية فهي (بوداييفا). كانت ناتاليا معروفة في أوساط المعارضة الروسية، وترأست بين عامي 2004 و 2014 القسم الروسي في المعهد الجمهوري الدولي International Republican Institute (IRI)، الذي تأسس في عام 1983، بعد خطاب الرئيس رونالد ريغان الشهير عام 1982 في البرلمان البريطاني، والذي اقترح فيه مساعدة الدول في بناء الديمقراطية. ترأس هذا المعهد السيناتور الأمريكي عن ولاية أريزونا (جون ماكين) منذ تأسيسه حتى وفاة ماكين في عام 2018، ويعتبر ماكين أحد مروجي الروسوفوبيا. تؤكد بعض المصادر أن مايكل آرنو نفسه كان يعمل في هذا المعهد أيضاً. كما تشير بعض المصادر إلى أن بوداييفا نفسها تولت تمويل احتجاجات عام 2013 في منطقة بيرلوفا في موسكو من أموال هذا المعهد.
أما نائب رئيس منظمة (روسيا الحرة)، فهي ناتاليا لوندي، التي شغلت عدة وظائف في مؤسسات غربية مختلفة قبل أن تعمل في (روسيا الحرة). فلقد كانت، بين عامي 2015-2017 نائباً لرئيس مؤسسة بوتوماك Potomac foundation لشؤون التطوير والاتصالات، ومؤسسة بوتوماك هي مؤسسة بحثية متخصصة في عدة اتجاهات، أهمها: دراسة اقتصادات مابعد الحرب الباردة، الصعود العسكري للصين، التنافسية الصناعية الوطنية، تكامل دول أوروبا الشرقية ودول الفضاء السوفيتي مع الغرب وحلف الناتو؛ لذلك تعتبر بمثابة مؤسسة استشارية لحلف الناتو. بين عامي 2006-2015، شغلت لوندي منصب مدير التواصل مع المجتمع في مركز التقييمات الاستراتيجية والميزانية Center for Strategic and Budgetary Assessments، وهو مركز متخصص في قضايا الأمن والدفاع والاستثمار العسكري، ومقره مدينة واشنطن. بين عامي 2005-2006، عملت لوندي مساعداً لمدير مجلس العلاقات الدولية لشؤون الكونغرس والسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية.
أعتقد أن الصورة الآن أصبحت أكثر وضوحاً للقارئ الكريم؛ فهذه المؤسسات البحثية هي مجرد أدوات (القوة الناعمة) في الولايات المتحدة، والتي تهدف إلى دعم وتمويل نشاطات وسياسات معينة مواتية للسياسة الأمريكية. والحقيقة أن المشاركين في نشاطات منظمة (روسيا الحرة) لم يخفوا أهدافهم الحقيقية، فروسيا الحرة في نظرهم هي (روسيا ما بعد بوتين) أو (روسيا بدون البوتينية). ولأجل تحقيق هذا الهدف، يقوم نشطاء هذه المنظمة بإعداد التقارير و المقالات وعقد المؤتمرات وإجراء المحاضرات التي تركّز على وصف نظام الرئيس بوتين بـ (الدموي، الدكتاتوري، المستبد ...الخ)، والترويج لمثل هذه الأفكار بين المهاجرين الروس في مختلف عواصم العالم.
في الأشهر السابقة تصاعد نشاط منظمة (روسيا الحرة) على خلفية التطورات الأخيرة بين روسيا والغرب. و على ما يبدو أن كلمات كـ (الحرة) و (الحرية) أصبحت من الماركات الدارجة في سوق المصطلحات السياسية، لذلك سنتوقف في هذه المقالة على حدث هام واحد، جرى في بلغاريا! ففي شهر شباط الماضي، في العاصمة البلغارية (صوفيا)، وبرعاية سكرتير السفارة الأمريكية للشؤون السياسية-الاقتصادية، تشارلز بيريغو، انعقد المؤتمر التأسيسي لحركة (من أجل روسيا الحرة). كان المعارض الروسي غينادي غودكوف المنظم الرئيسي للمؤتمر، الذي أعلن المشاركون فيه أن الهدف هو (إزاحة الرئيس فلاديمير بوتين من سدة الحكم)!
من بين المشاركين في المؤتمر كان هناك ممثلون لمنظمات و جهات، وقفت خلف محاولات الانقلاب الفاشلة في كازاخستان وبيلاروسيا، و كذلك الأمر كان هناك شخصيات روسية، تمثل بعض منظمات الهجرة في ألمانيا و بولونيا و جمهورية التشيك و إستونيا و تركيا.
في هذا السياق، لابد من الإشارة إلى أن المؤتمر آنف الذكر انعقد في فندق أنتركونتننتال-صوفيا، وهو فندق فخم! لهذا المكان دلالات تاريخية-سياسية؛ فخلفه يمثل نصب القيصر ألكساندر الثاني أو القيصر المُحرِّر، وأمامه يقبع البرلمان البلغاري. لن نتوقف كثيراً على مصدر الأموال التي تم صرفها لتنظيم هذا الحفلة السياسية، فأعتقد أن التمثيل الدبلوماسي الأمريكي الرفيع يقدم لنا الإجابة الواضحة.
بالرغم من هذا الزخم المعنوي الكبير في التحضير لهذا المؤتمر، فإن معظم المشاركين فيه تحاشى الإجابة على سؤال حول عددهم الحقيقي، لأنه في الواقع لم يتجاوز الخمسين، تحوم حول جميعهم الشكوك والشبهات والتساؤلات!
قد يكون من المناسب، قبل الخوض في الأفكار التي طرحها المؤتمرون، التعريف بالمنظم الرئيسي للمؤتمر!
فمن هو غينادي غودكوف؟
هو عقيد متقاعد، كان يعمل في جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، كان عضواً في الحزب الشيوعي السوفيتي والروسي، كما أنه أصبح نائباً في مجلس الدوما عن حزب روسيا الموحدة بين عامي 2004-2007 و من ثم عن حزب روسيا العادلة بين عامي 2007-2013. في نهاية عام 2012 تم توجيه عدّة تهم له، أهمها: غسيل الأموال في بلغاريا، القيام باستثمارات غير قانونية مع زوجته، ممارسته لنشاط تجاري عن طريق إحدى الشركات الأمنية الخاصة؛ الأمر الذي أدّى إلى تعليق عضويته في مجلس الدوما بالاقتراع المباشر. وفي عام 2013 تم طرده مع ابنه (ديميتري) بقرار من الهيئة المركزية لحزب روسيا العادلة على خلفية مشاركتهما في احتجاجات ذلك العام.
ركّز غودكوف في مداخلته على ضرورة تفعيل آلية الحصول على جواز سفر نانسين Passport NANSEN، وهذا في الحقيقة دعوة للروس المقيمين في الخارج للتخلي عن الجنسية الروسية، مع العلم أن هذا الجواز يُمنح عادةً للمواطنين الذين لا يتمتعون بأي جنسية. وهذا يعني أن المواطنين الروس المقيمين في الخارج سيقعون تحت رحمة المنظمات الدولية التي تمنح هذا الجواز، وبالتالي خضوعهم للابتزاز السياسي من قبلها، وأعتقد أن القارئ الكريم يعلم جيداً أن الغرب يتحكم بعمل معظم هذه المنظمات.
كان إيليا بونوماريف أيضاً من بين الحاضرين، وهو عضو سابق في مجلس الدوما عن حزب (روسيا العادلة)، وهو الوحيد الذي صوّت ضد قرار ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، وفي نفس العام غادر إلى الولايات المتحدة الأمريكية. في عام 2015، وجّهت النيابة العامة تهماً له بسرقة المال العام من مؤسسة (سكولكوفا) العلمية، ونتيجة لذلك تم إسقاط الحصانة الدبلوماسية عنه. وفي عام 2016، تم إسقاط عضويته في مجلس الدوما لتغيُّبه المتواصل عن جلسات البرلمان. منذ عام 2016 يقيم بونوماريف في أوكرانيا، وفي عام 2019 منحه الرئيس السابق بيتر بارشنكو الجنسية الأوكرانية. ولقد دعا بونوماريف إلى محاربة روسيا جنباً إلى جنب مع أوكرانيا، مؤكداً أنه سيحمل السلاح مع الجيش الأوكراني لمواجهة الجيش الروسي.
أما التيار الليبرالي فمثله ليونيد غوزمان، الذي رفع شعار: سنجعل روسيا عظمى من جديد! يتزعم غوزمان الكتلة السياسية المسماة بـ (اتحاد القوى اليمينية)، تمكنت هذه الكتلة من دخول مجلس الدوما مرة واحدة فقط في عام 1999 بحصولها على 8.52% من أصوات الناخبين، أما في الانتخابات اللاحقة فلم تتمكن من تحقيق الحد الأدنى من الأصوات التي يمكنها من دخول البرلمان. وقف غوزمان دائماً ضد سياسة الرئيس بوتين بعد ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، و قبل أشهر من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا دعا صراحةً إلى تسليح أوكرانيا لمواجهة روسيا، كما أنه دعا دون حياء الغرب إلى فرض المزيد من العقوبات على روسيا. والحقيقة هناك الكثير من النقد و الجدل في الأوساط السياسية الروسية حول (اتحاد القوى اليمينية) وقادة هذه الكتلة الحزبية، والتفصيل في هذه المسألة يخرج عن موضوع المقالة.
أما الحضور البلغاري فكان مُمثَّلاً بالرئيس البلغاري السابق (روسين بليفنيلييف). بليفنيلييف نفسه، في فترة رئاسته الوحيدة بين عامي 2012-2017، أكّد دائماً على إخلاصه وقربه من السياسات الغربية، وكان من الضيوف الدائمين في السفارة الأمريكية في صوفيا. في فترة رئاسته ساءت حياة الشعب البلغاري بشكل كبير، وقد تم توجيه الكثير من النقد له في الإعلام البلغاري إلى درجة أن حزبه، المسمى (مواطنون من أجل التنمية الأوروبية في بلغاريا GERB)، امتنع عن دعم ترشيحه لفترة رئاسية ثانية، وليس هذا فحسب، بل امتنع حتى عن دعم ترشيحه للانتخابات النيابية. إضافة إلى بليفنيلييف حضر المؤتمر نائبان من البرلمان البلغاري، واحد عن حزب GERB والثاني عن حزب بلغاريا الديمقراطية، وهذان الحزبان هما من أحزاب المعارضة في بلغاريا الآن، كما أن النائبين السابقين مشهوران برفضهما لسياسات الرئيس بوتين.
بعض الحضور دعا إلى تشكيل حزب يجمع المعارضة الروسية كلها، وبالتالي سيكون هذا الحزب هو سادس حزب لغودكوف وخامس حزب لبونوماريف. الغريب في الأمر أنّ هؤلاءِ المعارضين الذين فضّلوا الدوران في فلك الغرب لم يتمكنوا خلال فترة نشاطهم السياسي في روسيا من الحصول على أكثر من 3% من أصوات الناخبين الروس؛ مع العلم أن جميع الأحزاب الروسية التي انشقوا عنها، وهي: حزب روسيا الموحدة، الحزب الشيوعي، الحزب الليبرالي الديمقراطي، حزب روسيا العادلة، مازالت تمارس نشاطها السياسي ضمن المؤسسات الروسية المختلفة، وهي تحظى باحترام المواطنين الروس وتقديرهم. و بالرغم من كل ما يمكن قوله عن السلطة القائمة في روسيا الآن فهي حققت الاستقرار السياسي و الاقتصادي في البلاد خلال العقدين الماضيين، أما هؤلاء المعارضون فلم يُقدّموا رؤية واضحة أو برنامج عملٍ لمستقبل روسيا، أو كما يقولون هم (روسيا الحرة)؛ إذ أنهم لم يجيبوا بوضوح على السؤال الرئيسي الذي انعقد من أجله المؤتمر: ماهو شكل (روسيا الحرة)؟! فـ (روسيا الحرة) في نظرهم هي روسيا بدون الرئيس بوتين، و الهدف الجامع لهم هو إسقاط الرئيس بوتين؛ وكأن الحرية في عمقها الإنساني والأخلاقي هي قرار أمريكي أو علامة مسجلة يتميز بها الغرب فقط؛ فإسقاط نظام حكم الرئيس بوتين لم نسمعه إلا على المنابر الغربية المعادية لروسيا!
تجاهلت معظم وسائل الإعلام البلغارية ذلك المؤتمر، ما عدا قناة Bivol TV، وهي قناة على الأنترنت، إضافة إلى قناة محلية اسمها Eurocom TV. ولقد تشكّى غودكوف من سوء التغطية الإعلامية، كما أنه تشكّى من عدم حضور ممثلين عن الأحزاب الرئيسية في بلغاريا ومن عدم حضور مؤسس الوكالة البحثية Bellingcat، البلغاري كريستو غروزيف.
ختاماً، يبدو بوضوح أن المؤتمر السابق جمع ثُلّة من الفاشلين في السياسة تحت المظلة الأمريكية، فبالرغم من أن للقارئ الكريم الحق الكامل في ألّا يتفق معنا أو يشك في تهم الفساد الموجهة للمشاركين الروس في المؤتمر؛ لأن التحقيق فيها عسير جداً، ولكن لا أعتقد أنه يختلف معنا حول أن هؤلاء وضعوا أيديهم في أيدي أعداء بلادهم، فنشاطهم بالتالي مشبوهٌ، ومن يضع نفسه مواضع الشُبهة فلا يلومنّ من أساء به الظن!
= = =
*هذه المقالة تم نشرها باللغة الفرنسية في موقع AGORA VOX، وهو وسيلة إعلامية مستقلة ومقرها مدينة بروكسل، انظر الرابط:
https://www.agoravox.fr/tribune-libre/article/russie-libre-organisation-de-241538

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي