|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
الهيموت عبدالسلام
2022 / 7 / 1
قصتي أنني تحولت لحشرة أو ذبابة إلكترونية، قصتي حقيقية ولا تشبه رواية المسخ للروائي الألماني "كافكا" التي تدور حول الشاب "جريجور سامسا" الذي استيقظ ذات صباح من كابوس مٌرعب ليجد نفسه قد تحول إلى حشرة، وبدأ يقنع نفسه بأنه لايزال نائما وأن ذلك المسخ مجرد كابوس من كوابيس النوم يراوده بسبب شعوره بالتعب، وبعد محاولات عدة للنهوض بجسمه الجديد يفشل "جريجور" فيصيبه الذعر والخوف، وعوض البحث عن حل لمشكلته سيصبح هاجسه الأكبر في تلك اللحظة هو كيف يقنع والديه ومديرَه بأنه لا يستطيع العمل بسبب تحوله إلى حشرة.
تأتي أمه بدورها لإيقاظه بعدما لاحظت بأنه تأخر على غيرعادته إلا أنه لا يرد عليها، ويصطف والداه وأخته وراء الباب منتظرين منه ان يخرج، ثم ينظم إليهم المسؤول عن الموظفين الذي يصفه بالمهمل وأن هذا التصرف قلة مسؤولية منه، فيحاول "جريجور" فتح الباب لكنه خرج وهو يتدحرج على ظهره وسيقانه الحشرية القصيرة لا تساعده، ويجد نفسه عاجزا عن التواصل معهم بالكلام بسبب صوته الحشري المخيف، لينفتح الباب ويراه الجميع و قد تحول الى كائن غريب، فيٌغمى على والدته من هول ما رأت.
"جريجور" باعتباره المعيل الوحيد للأسرة كان يعمل بتفان كتاجر متنقل لساعات طويلة، صار بعد مسخه يلوم نفسه لما حدث له لأنه أصبح عاجزا عن توفير المصروف لأسرته.
يدخل بعدها في دوامة من الاكتئاب، ويفكر بوضع حد لحياته ليقرر في الأخير تجويع نفسه حتى يموت وحيدا بغرفته، ولما يعثر عليه أفراد أسرته ميتا يحمدون الله على تخلصهم من هذا المسخ الذي ظل عبئا ثقيلا في حياتهم.
قصتي هذه حقيقية وواقعية جدا، هو مسخ من نوع آخر، كنت طالبا وعمري يبلغ آنذاك 24 سنة، بحثت عن عمل أي عمل، وأخيرا وجدت عملا وأصبحت أٌلقب بالذبابة، انخرطت في لواء إلكتروني ، كان عملي الانخراط في صفوف الذباب الإلكتروني، مهمتي إغراق الشبكات الاجتماعية بالتعليقات والمنشورات التي تشيطن الخصوم والمعارضين من صحافيين وكتاب رأي ونشطاء فيسبوكيين ، في البداية أعطانا المشرف قائمة بالصفحات والحسابات التي يجب التبليغ عنها ،كنا نقيم في فيلا ضخمة، يمنع فيها الخروج ولا التصوير ولا التسجيل ولا الدردشة، فيها كل ما لذ وطاب من الطعام وكأنك في فندق من خمسة نجوم ،ويمكنك التنقل داخل وخارج البلاد بكل حرية، في هذه الفيلا كان يتردد عليها الكثير من الصحافيين والأكاديميين والمحللين ،كان عملنا يستهدف المؤثرين والصحافيين الحقيقيين، كنا في غرفة فسيحة يمكن أن تستوعب ما يصل إلى 200 ذبابة إلكترونية ، نعمل حول أكثر من 20 طاولة دائرية ، وجميعنا مزود بأجهزة كمبيوتر متصلة بالإنترنت، وأصبحت بمجرد أن أرى أمامي حسابا مفتوحا من قائمة المستهدفين حتى أنقض على الفريسة ، كما كنا نستخدم هاشتاغات للتأثير على الرأي العام وتخليصه من روايات المعارضين والمؤثرين والحقوقيين ،كان الهدف هو تشويه الآراء المعارضة وتشويه سمعة ناشريها، وتدربنا حتى التأثير على خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي لدفع الرأي العام ليسمع ويقرأ رواية وحيدة لجميع القضايا الكبرى.
عملت كذلك في خلية تراقب الأنشطة الرسمية والإشادة بتصريحات المسؤولين ودعمهم بتعليقات إيجابية إذا ما تعرضوا لانتقادات المعلقين والمغردين، كنا نتفنن في اصطياد الضحايا ونوقعهم في شباك المتابعة وحرقهم شعبيا ، كما عملت في خلية تركز عملها على صفحات الفيسبوك الكبيرة تلك التي تضم الملايين من المتابعين حيث يجب أن تكون الهجومات على صاحب الصفحة طاعنا وساما وكاذبا، لا ضير أن أقصفهم بالافتراءات الكاذبة والإهانات والاتهامات، كما عملت في خلية تراقب أنشطة المعارضين في الخارج وكانت الهاشتاغات كلها تدور حول الخيانة ومشتقاتها ، كنا نزرع التشويش الفكري والتشكيك في انتماء ونزاهة كل من يكتب بمهنية واستقلالية ،كنا نكاد نطير فرحا حين نحصل على المعلومات الشخصية جدا لأحد المستهدَفين وكأننا عثرنا على سلاح نووي .
أعترف لكم أنه بعدما أنهيت عملي ، بدأت أدخل في نوبات من الذعر والخوف والأرق، أقضي الليل كله متخبطا بين مشاعر الندم والشعور بالذنب ، لا أخفيكم أنني أشعر بأنني خضت حروبا على أشخاص لا أعرفهم وليس لي بهم عداوة ، أشعر أنني تسببت في اعتقالهم وفي محن أسرهم ، كلما سمعت كلمة الذباب أشعر أنني المقصود بذلك ، لم أعد أخالط الناس وأتلافى أصدقائي ، أصبحت أحس أنه انكشف أمري وأن الجميع يعرف المهام القذرة التي قمت بها .
في كل ليلة أشاهد نفس الشريط من الضحايا والفرائس التي نكلت بهم، والذين شوهت سمعتهم ،والذين يعانون رطوبة الزنازين ،والذين ساهمت في أحكامهم السجنية الثقلية ،والذين سقتهم للعطالة ،والذين شردت أسرهم ، نفس الشريط من الأذى أعانيه بتأنيب الضمير وإدانة نفسي المريضة التي كانت تتغذى على أناس أبريا لتشبع عقدها النفسية .
إنني أعيش جحيما حقيقيا وأصبحت أنا الحبيس لكل هذه الآلام التي تسببت فيها ، أصبحت أنا المعتقل داخل سجن هذه النوبات من الكوابيس من الأرق والألم والاكتئاب ، سلبني هذا الألم النوم والحياة الطبيعية ، فكرت مرارا في الانتحار ،فكرت في أن أعتذر من الضحايا واحدا واحدا سواء الذين كانوا داخل السجن أو خارج السجن وللأسر التي ساهمت في تفكيكها وتشريدها ، فكرت أن الأمر سيصبح قضية الساعة ، وسأزداد افتضاحا وسينهشني رواد وسائل التواصل مثلما نهشت وولغت في حياة أناس لا أعرفهم فتراجعت عن فكرة الاعتذار.
في إحدى الليالي البيضاء نفس شريط الضحايا ونفس الألم والحزن والعذاب قررت زيارة طبيب الأمراض النفسية، قررتٌ أن أمارس التداعي الحر لأتخلص من هذا الجحيم . قال لي الطبيب يجب أن تفرح لأنك لست حالة سيكوباثية لأن السيكوباثي لا يشعر بالندم ولا بتأنيب الضمير ، أنت تعيش حالة من الاكتئاب يسبب لك ألما نفسيا ، يجب أن تفرح أن ضميرك قد صحا وندم على كل ما فعله ، فعلاً الاعتذار غير ممكن لكثرة الضحايا المباشرين وغير المباشرين ، يجب أن تطمئن أن ألمك وندمك والتفكير في الاعتذار وزيارة الطبيب مقدمات أساسية للعلاج ، أقترح عليك هذه الأدوية المهدئة ، والتعويض عن الإساءات والجروح والعذابات التي سببتها للآخرين بأن تلتحق بالنحل الإلكتروني بدل الذباب الإلكتروني .
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |