قوس فلسفي (6): الحرب العادلة والنظريات البديلة

عبد المجيد السخيري
2022 / 5 / 26

الحرب العادلة؟

حين نتحدث عن عدالة حرب ما فإنه في الغالب ما نكون بصدد تقييم أخلاقي لفعل الحرب أو لإباحة الحرب بصفة عامة. والحال أن تقييما من هذا القبيل لا يشمل قرار شن الحرب أو اللجوء إلى الحرب فحسب، بل ويهم قرار الاستمرار في القتال وأيضا تسويات ما بعد الحرب. لذلك نجد منظري الحرب العادلة يتحدثون عن قانون أو الحق في اللجوء إلى الحرب عند التفكير في مرحلة اتخاذ قرار شن الحرب، وقانون ما بعد الحرب عند التفكير فيما هو مباح من أفعال ما بعد الحرب، مثلما ظهر أيضا اقتراح جديد يدور حول ما يسمى بقانون الخروج من الحرب أو "قانون الانهاء".
وبالنسبة للباحث الأمريكي ديفيد سوانسون، فإن "نظرية الحرب العادلة تُسهل الحروب الظالمة"، بحيث أن كل استعداد لخوض حرب تحت يافطة تحقيق العدل هو أكبر ظلم من أي حرب، حتى أن نظرية الحرب العادلة تفيد المزيد من الحرب، أي تفتح المجال لعنان الحروب بلا توقف.
تنظر نظرية الحرب العادلة إلى الحرب باعتبارها فعلا مبررا أخلاقياً في ظل ظروف معينة، ولذلك سعى منظروها إلى وضع معايير من شأنها أن تجعل الحرب عادلة من بدايتها إلى ما بعد انتهاء أعمالها، مرورا بتحديد السلوك الصحيح العادل أثناء الحرب وفي بعض حالاتها كاحتلال الأراضي بعد إعلان الحرب.

شيء من تاريخ "تقليد الحرب العادلة"

عبر مختلف العصور طُرحت أفكار ساهمت في تبلور معالم نظرية "الحرب العادلة"، والتي أضحت الأرضية الأساسية التي يجري النقاش على أساسها، بين من يعارض بشدة الحرب ولا يجد لها أي مبررا أو تسويغا أخلاقيا (السلاميين les pacifistes) وبين من يبحث لها عن مبررات في المصالح القومية أو إقامة العدالة أو ردّ العدوان ...إلخ. ففي شكل متقدم، كانت "الحرب العادلة" في الفلسفة اليونانية قد عرفت أولى محاولات المفهمة، كما حدث على يد أرسطو الذي عُرف عنه تأييده للحرب كدفاع عن النفس ومنع استبعاد الآخرين، بالرغم من أنه ظل نصيرا للعبودية "الطبيعية"، على نحو يسمح للحرب العادلة باستعباد "العبيد بطبيعتهم" لحماية الحرية المدنية. بل إن بعض الدراسات اقتفت آثار تقليد "الحرب العادلة" في الحضارة المصرية القديمة وفي الفلسفة الصينية، وبشكل خاص في الأخلاقية الكونفونشيوسية، كما يمكن تلمس بعض مبادئها وأخلاقياتها في الفكر الديني الهندي، سوء في الهندوسية أو في تقليد السيخ. وفي إطار الفكر المسيحي اشتهر كل من القديس أوغسطين وتوما الأكويني بدفاعهما عن "الحرب العادلة" في سياق الاجماع السائد في أوروبا في العصر الوسيط حولها، واجتهدا في بيان شروطها وقواعدها استلهاما لما جاءت به المسيحية وأفكار الفلاسفة الإغريق. فقد وجد تقليد الحرب العادلة منذ زمن أوغطسين وأمبروز في عصر الإمبراطورية الرومانية مع انضمام الكنيسة إليها، وبقدر ما دافع أوغسطين على الحرب دافع أيضا عن العبودية انطلاقا من فهمه الخاص ل"الخطيئة الأصلية"، إذ كان يعتقد أن القتل يساعد الانسان على بلوغ مراتب أفضل وأنه من الحماقة الدفاع عن النفس في هذه الحالة. ونفس الشيء ذهب إليه الأكويني مؤكدا على تولي الدولة عملية القتل، خاصة للزنادقة.

معايير الحرب العادلة

تروم نظرية الحرب العادلة من الناحية الفلسفية التأسيس لما يمكن أن يبرر الحرب وفق مبادئ مقبولة أخلاقيا. وعموما فهي تنشغل بالبحث في معايير تسمح بالتمييز بين الاستخدامات المبررة وتلك غير المقبولة للقوة المسلحة، المنظمة بشكل أساسي، كما أنها تهتم بما يجعل من اللجوء إلى القوة المسلحة أمرا مباحا أخلاقيا. ومن ثم غالبا ما يسعى منظرو الحرب العادلة إلى التوفيق بين الرفض الأخلاقي للحرب أو كراهتها، وبين قبولها حين تكون ضرورية في بعض الحالات. ومن ثم يفترضون أن ثمة معايير أساسية يستند إليها أولئك الذين يخوضون حربا يعتبرونها عادلة، وهي: النية السليمة أو القصد الحق، السب العادل أو القضية العادلة، السلطة العادلة أو السلطة الشرعية، التناسبية ثم الضرورة أو الملاذ الأخير. والحال أنها جميعا غير قابلة للقياس، أي أنها معايير أخلاقية مجردة تتوقف على التصديق القبلي، وكذلك بالنسبة لمعايير عملية أخرى، كتلك التي ترتبط بقانون الحرب وقانون ما بعد الحرب، تبدو أنها غير ممكنة، فضلا عن أنها المعايير تلك تعتبر في حد ذاتها عوامل غير أخلاقي. ومن هنا بقدر ما تظل مساهمة الفلاسفة السياسيين مهمة وضرورية في الجواب على عدد من الأسئلة المتصلة بنظرية الحرب العادلة، خاصة ما يرتبط بفعالية مؤسسات القانون الدولي، وأخلاقيات جماعة الحرب، فإن دور المنظرين في العلوم السياسية لا يقل أهمية في تسليط الضوء على الأبعاد العملية لفعل الحرب ونتائجه وتداخلاته مع الأخلاقيات وأسئلة السلطة الشرعية وميراث الدولة-الأمة في عصرنا. وقد أسفر الاجتهاد في هذا على تطوير بعض من تلك المعايير أو المبادئ وإعادة توزيعها استنادا إلى الأسس التقليدية لنظرية الحرب العدلة، منها ما يتعلق بحق اللجوء إلى الحرب مثل: السبب العادل، أي أن ثم سبب أو مبرر للحرب لأنها الرد المناسب والضروري، حتى أنه إذا كان من الممكن تجنب الحرب فينبغي تحديد ذلك أولًا؛ ثم القصد السليم، وذلك لأن خوض الحرب يستوجب أن تكون النوايا سليمة من زاوية الأخلاق، بحيث يجب تحديد ما إذا كانت استجابة الحرب قابلة للقياس نسبة للنزاع الذي يتم التعامل أم لا، فالسلطة العادلة أو الصلاحية الشرعية، حيث الاهتمام يتركز حول شرعية القرار أو اعتزام شن الحرب وما إذا كان السعي وراء الحرب مبرر قانونيا؛ ثم الضرورة أو "الملاذ الأخير"، أي أن الحرب هي الملاذ الأخير، بحيث يجب البحث عن حلول بديلة قبل اللجوء إلى الحرب في حال وجود نزاع بين أطراف متعارضة. ومن تلك المعايير أو المبادئ ما يرتبط بقانون الحرب مثل: التناسبية والتمايز ثم الضرورة.
لكن التصنيف المنهجي أعتاد أن يقسم معاير الحرب العادلة إلى مجموعتين: أساسيتين: تتعلق الأولى بالحق في اللجوء إلى الحرب، وتضم كل ما يتعلق بأخلاق شن الحرب، أما الثانية فتتعلق بقانون الحرب، أي بكل ما يخص تحديد السلوك السليم أثناء الحرب، أو السلوك الأخلاقي في الحرب. وبرزت دعوات تطالب بإدراج معايير مجموعة ثالثة تهم أخلاقيات ما بعد الحرب أو قانون ما بعد الحرب، أي كل يخص قضايا التسوية وإعادة الإعمار بعد الحرب وغيرها.

من نظرية الحرب العادلة إلى القانون الدولي

لا شك أن فلسفة القانون الدولي تضرب بجذورها إلى البواكير الأولى لتبلور مفاهيم العدالة والحرية والديمقراطية، وتستلهم بشكل أساسي ما جادت به قريحة فلاسفة العصر الحديث من نظريات ذات الصلة بإقامة العدل وإرساء السلام في العلاقات بين الشعوب والأمم، لكن أيضا نجد لنظرية الحرب العادلة كما طورها مفكرو المسيحية، أمثال الأكويني وأغسطين، بالغ الأثر في تطوير القانون الدولي على النحو الذي نعرفه اليوم. فقد كان تقليد الحرب العدلة قائما في القرن التاسع عشر، ووجد طريقه إلى التطبيق العملي إطار مؤتمرات لاهاي للسلام وإنشاء عصبة الأمم، سلف الأمم المتحدة، في بدايات القرن الماضي. وفي سياق ترسيخ هذا التقليد سيتم إرساء نظرية القانون الدولي كمجموعة قواعد ثابتة ومتوافق عليها بين الدول المؤسسة لهيئة الأمم المتحدة، بدل نظرية الحرب العادلة. وينص ميثاق الأمم المتحدة على حماية الأجيال القادمة من الحروب من خلال حظر استخدام القوة في فض النزاعات بين الدول، وعلى التدابير الكفيلة بالحفاظ على السلام في حالات مختلفة، ويضع في المقابل شروطا واضحة تسمح بتبرير اللجوء إلى خيار الحرب للدفاع المشروع بما لا يخرج عن الحدود التقليدية للضرورة والتناسب، كما أنه يقيد اللجوء إلى حرب وقائية بوجود دليل ملموس إلى وجود تهديد وشيك أو هجوم، بحيث لا يمكن بأي حال من الأحوال التذرّع بالشرعية الدولية لاستخدام القوة المسلحة في غياب تقيين دقيق للأوضاع والدوافع، فضلا عن أن قرارا مثل خوض حرب وقائية يتوقف على قراران الهيئات المختصة.
يتزود القانون الدولي، وبخاصة قانون النزاعات المسلحة، بالأسس الأخلاقية التي يوفرها المنظرون التقليديون للحرب العادلة، أمثال مايكل وولتزر، بما يسمح فقط للدول بخوض الحرب الدفاعية أو لحماية دول أخرى أو التدخل لأجل تجنب وقوع جرائم حرب يهتز لها الضمير الإنساني. وكان لكتاب وولتزر الموسوم ب" حروب عادلة وغير عادلة"(1977) تأثير كبير بين فلاسفة السياسة والمشرعين الدوليين وعلماء السياسة، وشغلت مفاهيمه الأساسية، حول التدخل الإنساني، والدفاع الوطني والمساواة بين المقاتلين وغيرها، حيزا هاما من النقاشات الفقهية والسياسية، بينما ظهر جيل جديد من الفلاسفة والمنظرين بدأ بسحب النقاش إلى أبعد الحدود التقليدية لنظرية الحرب العادلة المعاصرة.

نظريات بديلة

من وجهة تقليد الحرب العادلة، توجد حروب عديدة، أدرجنا بعضها ضمن القوس السابق كأشكال وأنواع من الحرب، لا تعتبر عادلة، وذلك أن أي حرب لا تشنها سلطة شرعية، أو حكومة يعترف لها بالشرعية، تقع خارج إطار نظرية الحرب العادلة. فمثل الحرب الأهلية أو الحرب الثورية تقع خارج مساحة الحرب العادلة حتى وإن كانت تشملها المعايير الموصوفة للحرب العادلة، إذ يكفي أن تعلنها هيئة ما بأنا غير شرعية لتكون الحرب غير عادلة أو فاقدة للشرعية. لكن أنصار الحرب الثورية يعتبرون أن عدالة الثورة لا تطابق معايير العدالة الحربية بالمفهوم التقليدي، بل هي تقوم على مشروعية القضية التي تقوم من أجلها الثورة، وهيئاتها تعمل وفق أخلاقية بديلة لأخلاقيات الحرب العسكرية. والنزعة الاستبدادية بوصفها نقيضا للنزعة الثورية، ترى أن ثمة قواعد أخلاقية مطلقة لا يسمح بخرقها أبدا ولا بتبرير، كما تفعل الحرب الثورية أو التحررية مثلا. أما النظرية العسكرية للحرب فلا ترى أن الحرب سيئة بطبيعتها أو من حيث المبدأ، ذلك أن ثم جانب مفيد للمجتمع يمكن أن يتحقق من وراء الحرب. في حين أن النزعة الواقعية تشكك في إمكانية تطبيق المفاهيم الأخلاقية كالعدالة في مجال العلاقات الدولية، مثلما أنها لا تصلح لتحديد وتقييد سلوك الدولة، لأن هذه الأخيرة يجب أن تنشغل بأمنها وبالمصلحة الذاتية، ولذلك من الوارد أن تنتهك الحروب العادلة مبادئ الحرب العادلة في الواقع. وتقترب حرب الدفاع عن النفس من معايير الحرب العادلة من حيث أنها تعتبر من الضروري أخلاقيا أن تقوم دولة حرة بصد العدوان الأجنبي، مثلما يجوز لأي طرف استخدام القوة للرد على أي انتهاك لمبدأ عدم الاعتداء، وأيضا في مواجهة الدولة القمعية. لكن تظل النزعة السلمية أو السلامية أقوى نظرية بديلة للحرب العادلة، إذ يرى "السلاميون" أن أي حرب غير مقبولة أو مبررة أخلاقيا، وأن كل الحروب في النهاية غير عادلة، وهي لا تستحق أن يُبذل لها أي تضحية مهما سمت قضيتها. وليست فقط المدنيون هم من يثير اهتمام دعاة وأنصار السلام، بل وحتى العسكريون والمقاتلون، خاصة المجندين منهم.


بعض المراجع والمصادر التي وظفت لتحرير مادة أجزاء ("قوس فلسفي")

-الأجنبية

-Adler A., 2002, « Vers une nouvelle théorie de la guerre », Études, 1(396) : 9-16
DOI 10.3917/etu.961.0016
-ARON, R., 1976, Penser la guerre, Clausewitz, I et II, Paris, Gallimard.
-Buton François, Loez André, Mariot Nicolas, Olivera Philippe éd., 2014, « L’ordinaire de la guerre », no 53 d’Agone.
-Clausewitz, Carl von, 1989, De la guerre, trad. Colonel de Vatry, Paris, Éditions Gérard
Lebovici.
-Cumin, D., « Le droit militaire à l’épreuve de la « guerre au terrorisme » », Outre-Terre 2017/2 (N° 51), .215 -2 21. https://doi.org/10.3917/oute1.051.0215
-Doppelt, G., 1978, « Walzer’s Theory of Morality in International Relations », Philosophy & Public Affairs, 8(1): 3–26.
-Derrida J., Habermas J., 2003, Le concept du 11 septembre, Paris, Galilée.
-Finlay, C.J., 2010, « Legitimacy and Non-State Political Violence », Journal of Political Philosophy, 18(3): 287–312
-Grangé, N., (sous la -dir-ection) 2012, Penser la guerre au XVIIe siècle, Presses universitaires de Vincennes.
-Hobbes, T., 2003, Éléments de la loi naturelle et politique, trad. Dominique Weber, Le
livre de poche, Paris, Librairie générale Française.
-Hobbes, T., 1971, Léviathan, trad. Tricaud, Paris, Éd. Sirey.
-Hurka, T., 2005, « Proportionality in the Morality of War », Philosophy & Public Affairs, 33(1) :34–66.
-Luban, D.,1980, « Just War and Human Rights », Philosophy and Public Affairs, 9(2) :160–81.
-Kalmanovitz, P., 2016, « Early Modern Sources of the Regular War Tradition », in Lazar and Frowe 2016. doi:10.1093/oxfordhb/9780199943418.013.2
-Kant, E., 2002, Vers la paix perpétuelle, Paris, le livre de poche,
-McMahan, J., 2008, « The Morality of War and the Law of War », Rodin and Shue: 19–43.
-Thivet, D., 2010, Une pensée hétérodoxe de la guerre, de Hobbes à Clausewitz, Paris, PUF.
-Walzer, M., 1999, Guerres justes et injustes : argumentation morale avec exemples historiques. trad. Simone Chambon et Anne Wicke, Paris, Belin.
-Walzer, M.,2004, De la guerre et du terrorisme, Traduit de l’anglais par Camille Fort, Paris, Bayard.
-Wasinski C., 2010, Rendre la guerre possible. La construction du sens commun stratégique, Bruxelles, Peter Lang.
-بالعربية

-السيار، جميل، 2007، "الحرب ظاهرة تاريخية"، عالم الفكر، المجلد 36، العدد 2، الكويت.
-الفارابي، أبو نصر محمد بن محمد، 1986، آراء أهل المدينة الفاضلة، تحقيق ألبير نصري نادر، بيروت.
-أفلاطون، 1974، الجمهورية، ت. فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
-أرسطو، 2008، السياسة، ت. أحمد لطفي السيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة
-هيراقليطس، 2008، جدل الحب والحرب، ت. مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي