![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
محمد فُتوح
2022 / 5 / 1
---------------------------
لقد جرت العادة ، على أن نطلق مصطلح " الأخلاقيات " ، مرتبطاً بالمهن ، التى يقوم بها الإنسان فى كافة مجالات الحياة .
نقول مثلاً أخلاقيات الصحافة .. أخلاقيات المحاماة .. أخلاقيات البحث العلمى .. أخلاقيات مهنة الطب .. أخلاقيات مهنة التدريس ..أخلاقيات مهنة التجارة .. وغيرها من الممارسات المهنية .
وفى أى مجال ، نتطرق إليه ، فإن مصطلح " الأخلاقيات " ، يشير إلى مجموعة من الالتزامات ، والضوابط ، والمعايير ، التى لا بد أن تسود المجال المهنى ، الذى نقصده ، والتى إذا غابت ، أو تشوهت ، أو فسدت ، باعتبارات المحسوبية ، أو الغش ، أو التربح على حساب مصالح ، أو أرواح الناس ، فسدت المهنة.
إن فساد بعض المهن ، نتيجة غياب " أخلاقيات " العمل بها ، والانتماء إليها ، يمتد إلى مهن أخرى ، ومجالات عمل أخرى . إن الفساد ، مرض معد ، يصيب القريب ، والبعيد عنه . والفساد مرض خبيث ، إذا لم يكتشف مبكراً ، ويتم بتره نهائياً من العضو ، أو المكان المريض ، فإنه يستشرى فى باقى الأعضاء السليمة ، ويخترق أبعد الأماكن صحة ، ومناعة . لكننى دائماً ما أتساءل ، لماذا لا نسمع عن " أخلاقيات التقدم " ؟.
إذا كانت " الأخلاقيات " أو ما يطلق عليه بالإنجليزية Ethics .. حيث يقال " أخلاقيات البحث العلمى " ، مثلاً ، أى Ethics of scientific Researh ، تعبير شائع فى المهن التى يعمل بها الإنسان ، فمن المنطقى ، أن نطلقه أيضاً ، على " المناخ " الكلى ، أو "المجتمع"، الذى يشهد عمل الإنسان فى تلك المهن .
وبالتالى ، لا أعتقد أن الأمر غريب أو ليس منطقبا ، إذا تكلمنا عن " أخلاقيات التقدم " ، أو " أخلاقيات المجتمعات المتقدمة " .. والتى هى بطبيعة الحال ، تغيب ، أو تشوه أو تفسد ، فى المجتمعات المتخلفة .
لقد كنت محظوظاً ، إلى درجة لا بأس بها ، حيث زرت بعضاً من المجتمعات المتقدمة. وحيث كانت إقامتى لفترة طالت أو قصرت ، فى إحدى المدن المتقدمة .
بالطبع ، بهرنى الاقتصاد المنتعش ، والتعليم المتطور للقدرات الفكرية ، والملكات الإبداعية .. وكم أذهلتنى التكنولوجيا ، التى اخترقت حياة البشر من الألف إلى الياء ، والعلم الذى يؤمن أنه لا يوجد مستحيل .. وأن كل ما فى الكون ، مُسخر لخدمة الناس .
وكانت لى وقفة ، مع الإيقاع السريع ، فى المدن المتقدمة . لأول وهلة ، شعرت معها بالانزعاج ، والتوتر ، وعدم التكيف . لكننى بعد عدة أيام ، أصابتنى العدوى ، وأصبحت متألقاً تماماً ، مع ذلك الإيقاع اللاهث ، الذى يجعل الإنسان دائماً مشدود الحماس ، متحفز الطموح .. دائم الحركة . حركة العقل ، حركة الجسد . وحركة التجديد والتغير ، والابتكار، والإبداع .. وكراهية الكسل الفكرى ..والخمول العقلى والركود الجسدى .
إيقاع سريع .. يشعرنا أننا فى سباق لا يهدأ .. لا يتوقف ، مع " الآخر" .. مع " الحياة " .. وأهم شىء ، مع " النفس " .
ولهذا فإنه إيقاع رغم لهاثه وسرعته ، إلا أنه إيجابى .. ومثمر ..ومنشط .. وصحى . واذا كان هناك سلبيات للايقاع السريع اللاهث ، فان ايجابياته أكثر بكثير من سلبياته ، ويستحق أن نتحمل عثراته ، لكى نحصد ثماره المفيدة .
لا أنكر ، أن كل هذه الأشياء ، فى المجتمعات المتقدمة ، أو المدن المتقدمة ، قد استولت على إعجابى .
لكن أكثر ما بهرنى .. وأعجبنى ، هى ما أسميها " أخلاقيات التقدم " .. أو Ethics of Progress
وأقصد بها ، الطريقة ، أو الأسلوب ، الذى يسود التعامل فى الحياة اليومية .
وجدت إناساً ، يمتلئون بالود ، والمحبة والتعاطف الحقيقى ، مع غيرهم الذين لا يعرفونهم ، ولا يرتبطون بهم بأى صلة ، إلا صلة التواجد معاً مثلاً ، فى سوبر ماركت ، أو حديقة ، أو أى مكان عام .
فى الشوارع ، يلقون تحية الصباح على بعضهم البعض ، فى محبة ولطف ، والتفاؤل بيوم دافىء .
حين يجىء موعد عيد الميلاد أخر ديسمبر ، أو أول يوم فى السنة الجديدة ، رأيت الناس يهنئون بعضهم البعض ، بابتسامات تشع بالخير ، والسلام ، والتآخى .
من أخلاقيات التقدم ، الراسخة ، " الهدوء " .. " احترام الخصوصية " .. "احترام الوقت" .. " الحرص على نظافة الأماكن العامة " .. " الوفاء بالكلمة " .. "عدم الخيانة".. " الوضوح " .. " الصدق " .. " كراهية النفور من التقليد " .. " نبذ المعايير المزدوجة .. " المواطنة " .. " القانون فوق الجميع " .. " الدين فى البيت ودور العبادة فقط " .. " عدم التمييز بين البشر الا وفقا للموهبة والعمل المتقن " ...
" تقدير الجهد الإنسانى ولو بسيط " .. " إعلاء الجوهر على المظاهر" .. الحكم على الناس بالعمل والصدق " .. " احترام الدور فى كل طابور " .. " العداء للفوضى " .. " حب الدقة والتنظيم والتخطيط " .. " لا مبرر للإهمال " .. وغيرها الكثير من القيم التى تحبب الناس فى أوطانهم ومجتمعاتهم . أوطان ومجتمعات ليست طاردة لسكانها ، بل يفتخرون بها ، ويتفنون فى كيفية وصولها الى أعلى المراتب على جميع الأصعدة .
هذه هى بعض من " أخلاقيات التقدم " ، التى رأيتها بعينى ، وتعاملت معها ، وأشعرتنى بالراحة ، والاطمئنان ، والألفة .
وهى نفسها ، الأخلاقيات ، التى افتقدتها فى بلدى ، عند غالبية الناس ، كثقافة عامة .
إن " أخلاقيات التقدم " ، تؤدى مع مرور الزمن ، إلى المزيد ، والمزيد ، من ثمار التقدم العلمى والطبى ، والفنى والتكنولوجى . كما أن المزيد من التقدم العلمى ، والطبى ، والفنى، والتكنولوجى ، مع الزمن ، يمكنه إضافة أخلاقيات تقدم ، جديدة ، إلى ما هو موجود بالفعل ، فى السلوك والوجدان ، والتعاملات الحياتية اليومية .
من كتاب " استلاب الحرية باسم الدين والأخلاق " 2009
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |