قوس فلسفي (3): الحرب بين السياسة والأخلاق

عبد المجيد السخيري
2022 / 4 / 27

للحرب "فلسفتها" الخاصة، أعني منطقها الذي يشمل الأسباب المولدة لها، وطرق خوضها ووسائل تصريف أفعالها، بما في ذلك ما يتعلق بالاستراتيجية والتكتيك العسكريين. كما للحرب "أخلاقها" الخاصة، أي كل ما يتصل بقواعد أو مبادئ الصراع والمواجهة على أرض المعركة، من الوسائل المشروعة لخوضها، واحترام أوقات الهدنة، ومعاملة وتبادل الأسرى، وغيرها من الشروط التي تكون أطراف حرب ما مدعوة لاحترامها في ظل القوانين أو الاتفاقيات الدولية، خاصة إذا كانت حربا كلاسيكية تجري بين دول معترف بها من قبل الأمم المتحدة، كما في عصرنا، رغم أن "أخلاق الحرب" تطورت عبر التاريخ دونما حاجة لوجود هيئات دولية منظمة، وهي التي أفضت، مع اجتهادات الفلاسفة والمنظرين، إلى إرساء المبادئ التي نعرفها اليوم في هذا المجال. وما يعنينا الإشارة إليه في عجالة ضمن هذا القوس، هو ما عمّدته الفلسفة السياسية منذ العصر الحديث بخصوص تفسير وتحليل طبيعة الحرب وأفرجت عنه من نظريات في هذا الباب.

الحرب بين السياسة والأخلاق

أثارت قضية الفصل القسري للسياسة عن الأخلاق نقاشا مستمرا في الفكر المعاصر. فهناك من وجد هذا الفصل ضروريا ومنسجما مع سيرورات العلمنة في المجتمعات الحديثة، الغربية منها على وجه الخصوص، وبالتالي رأى أن الفصل بين الفعل السياسي والمرجعيات والمنظومات الأخلاقية هو بالنتيجة استكمال للفصل بين الدين والسياسة/ أو الدولة، وأنه لا مجال للتراجع عن هذ المكسب التاريخي، بينما يعتقد آخرون أن الأمر يختلف تماما ما بين الفصل بين الدين والسياسة، والفصل بين هذه الأخيرة والأخلاق، إذ لا تحتكر الأديان منظومات الأخلاق، حيث ثمة أخلاق إنسانوية تأسّست على مبادئ وضعية أو علمانية، فسنّت تصورات للتعايش والتسامح بين الأفراد والجماعات والأمم، وهو ما يعني أن الفصل القسري بين السياسة والأخلاق يفتح الطريق للمقامرة بمصير الإنسانية ويشرعن للحروب إلى حد قد يبلغ مستوى من التهديد بالفناء الجماعي مع حرب نووية محتملة، مادام العقل السياسي لا يجد حرجا في تدبير الأزمات والخلافات بتجرّد من أي مبادئ أو قيم سامية أو مشتركة، ويكتفي بحسابات المصالح والقوة، وفي أحسن الأحوال يأخذ بعين الاعتبار السياقات الجيو- سياسية لتفادي توسيع نطاق المواجهات، كما يحدث اليوم مع الحرب الروسية -الأوكرانية. وإذا كان من المثالية بمكان أن نطالب بتجرّد العقل السياسي من حسابات المصالح والتناقضات والانتماءات الإيديولوجية، فإنه ليس من المثالية في شيء أن ندعو إلى التشبث بمبادئ ومُثل أخلاقية عُليا تحفظ كرامة الانسان، وتحمي النوع البشري من الانقراض والفناء، وتؤسس لقواعد التعايش السلمي. فليست وظيفة العقل السياسي أن يُشرّح ويقيس ويستنتج فقط، بل من واجبه أن يُسهم في وضع أسس أخلاقية للفعل والتدخل.
غير أن ما يثير حفيظة البعض أكثر هو الحديث عن "أخلاق الحرب" في حد ذاتها، إذ لا يتصور هؤلاء وجود شيء اسمه الأخلاق أصلا متى بدأ العد العكسي للهجوم على الغير وإطلاق العنان للعنف ولعلعة الرصاص والفتك بالأرواح الإنسانية، فبالأحرى أن تكون لحرب شاملة تطال الأخضر واليابس أخلاقا تحتاج لمناقشة. بينما يرى فريق آخر أنه إذا لم يكن من سبيل لتفادي الحرب، أي أنها شر لا بد منه، فإن ذلك يدعو للتفكير الجدي فيما إذا كان يجوز لأي نظرية أخلاقية أن تمسح باقتراف الفظاعات والأفعال الوحشية والتمادي في القتل والتدمير دون تمييز.

حرب عادلة وحرب جائرة

تبلورت في سياق تطور الفلسفة السياسة المعاصرة نظريات عدة حول الحرب، لعل من أبرزها نظرية الحرب العادلة والحرب غير العادلة. وفي إطار هذه النظرية بالتحديد أُعيد طرح النقاش حول المسائل الأخلاقية المتصلة بالصراعات والحروب، كما أُستأنف تقييم ما ورّثته الفلسفة السياسية الحديثة للمعاصرين في هذا الباب على ضوء ما تراكم من خبرات وتجارب تاريخية، وتطور للنظم السياسية والقانونية المحلية والدولية. فإذا لم يكن بُدّا من تصور الحرب إلا فعلا مُروّعا وفظيعا، إلا أنه في بعض الأحيان يصير ضروريا في السياسة، لذلك شاع القول بأن "الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى"، أي بطرق العنف والقوة المسلحة. والحال أنه ليس ثمة حرب تجري بعيدا عن المناقشات الأخلاقية، فيصبح من الضروري كذلك إخضاعها للمعايير الأخلاقية بحيث نحصل في إطار نظرية الحرب العادلة على حروب أكثر عدالة وأخرى أقل عدلاً. ففي إطار نظرية الحرب العادلة، كما سنتعرف عليها في القوس الرابع، يجري الحديث عن أخلاقيات استخدام القوة من خلال ما يسمى بقانون الحرب، وذلك عندما يكون من الضروري أو المقبول اللجوء إلى العنف أو القوة المسلحة، أو حين يتعلق الأمر بما هو مقبول في استخدام هذه القوة، وصولا إلى قانون ما بعد الحرب الذي يسعى لإقامة عدالة إنهاء الحرب، بما في ذلك من اتفاقيات السلام ومحاكمة مجرمي الحرب...إلخ.
وتتعلق القضية الأخلاقية للحرب بشكل مبسط بالأثمان الفادحة التي تؤديها، ليس فقط الكائنات البشرية، بل أيضا الحيوانات والبيئة. فالضحايا من البشر قد يصلون إلى الملايين، سواء باحتساب المدنيين أو الجنود فقط، كما حدث في الحرب العالمية الثانية، أو بالآلاف في أحسن الأحوال شاملة للمدنيين والعسكريين في حروب محدودة أو أهلية. لكن ما يتم تجاهله في الغالب في الدراسات حول الحرب هو مقدار الأضرار والتدمير الذي تلحقه كل حرب أو نزاع مسلح طويل الأمد بالبيئة، سواء من خلال الاستهلاك المفرط للطاقة والفيول من قبل القوات العسكرية، خاصة النظامية، أو تلويث البيئة والتدمير المباشر أو غير المباشر للموارد والثروات الطبيعية. وبشكل معقد يهتم الفلاسفة السياسيون بالتفكير فيما يجعل الحرب ضرورة أو عادلة وما يجعلها غير ذلك، ومن ثم أيضا التفكير فيما يخص مبدأ الحق في اللجوء إلى الحرب، والسلوك أثناء الحرب أو قانون الحرب، وقانون ما بعد الحرب، أو ما يسمى بقانون الخروج من الحرب، وهي جميعها أمور بالغة التعقيد وتنطوي على قدر كبير وحساس من المسائل الأخلاقية، من قبيل التفكير في إباحة الحرب في حد ذاتها، أو بالاستخدام المتاح للقوة خارجها، وتبرير القتل في الحرب أو في خارجها، إلى غير ذلك من القضايا التي تثيرها الحروب المعاصرة.
وهكذا انقسم الفلاسفة والمنظرون السياسيون في هذ الباب بين من يرى أن الحرب ضرورية مهما كانت فظاعتها والمآسي التي تخلفها، ومن ثم قد تكون الحرب عادلة تستوجب الدعم والرضى، أو قد تكون حرب أخرى أقل عدلا لا تحصل في الواقع سوى على دعم أقلية من الجمهور أو القيادات الوطنية والنخبة. بينما يرى فريق آخر أن مثل هذا التمييز لا أساس له وفاقد للمشروعية الأخلاقية، لأن الأصل في الموقف الأخلاقي هو معارضة الحرب بشكل جذري ومطلق، بصرف النظر عن دوافعها أو أهدافها، وأنه من العبث البحث لها عن تسويغ أخلاقي. وحتى داخل المعسكر الأول ثم من يوصفون بالاختزاليين Reductivists يرون أنه يجب تبرير القتل في الحرب بناء على نفس الخصائص التي يُبرر بها خارجها، ذلك أن الحروب المبررة هي في النهاية تحصيل "لتراكمات الدفاع عن النفس أو الآخر المبررة"، بينما يرى من يوصفون بالاستثنائيين exceptionalists أن بعض هذه الخصائص يمكنها أن تبرر القتل في الحرب لكنها لا تسمح بتبريره خارجها.
وعليه، ففي ضوء النقاش حول مشروعية الحرب وضرورتها تم تطوير نظريات عدة، لكن نظرية الحرب العادلة كانت الأكثر استجابة لبسط الحجج الأخلاقية التي تجعل الحرب مقبولة وقابلة للمناقشة، ومن ثم التشريع والتنظيم وسنّ القوانين التي بموجبها تكون حرب ما عادلة أو أكثر عدلا، وأخرى أقل عدلا أو غير عادلة. وعلى مدى قرون تم تطوير أسس هذه النظرية، حيث يمكن تعقّب مقدماتها في الفكر اليوناني والتقاليد الدينية المسيحية والهندوسية والإسلامية، مرورا بتقليد الفكر الحديث إلى غاية صياغة نظرية "متكاملة" في إطار الفلسفة السياسية المعاصرة.
(يتبع)

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي