لا طغاة ولا عبيد

عبد المجيد السخيري
2022 / 3 / 27

قد تكون الحرب الروسية -الأوكرانية مجرد دفعة أخرى لمسلسل جديد من استعراض القوة يفتح الطريق نحو إعادة صياغة العلاقات الدولية إلى الوضع ما قبل انهيار المعسكر الاشتراكي وتفكّك الاتحاد السوفياتي، أي علاقات غير أحادية القطبية، وليست بالضرورة ثنائية القطبية، كما تكرّست بعد الحرب العالمية الثانية. ويمكن اعتبار التدخل الروسي في سوريا، والصعود المتنامي للقوة الصينية في الجانب الاقتصادي، من معالم هذا التحول المطروح على جدول أعمال القوتين الروسية والصينية في مواجهة تغوّل الهيمنة الأمريكية، وتحرّشات الحلف الأطلسي في مناطق نفوذ تقليدية للقوتين أو في مجالهما الحيوي، إن جاز معاملة علاقاتهما مع دول شرق أوروبا أو آسيا بنفس المعيار الذي تُعامل به علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها وأتباعها بالقارات الخمس.
ورغم كل الجهود المبذولة من قبل دول الحلف الأطلسي، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، للحفاظ على الوضع السابق بتأكيد ريادتها الاقتصادية والسياسية المنفردة للعالم، فإن ما يجري حاليا من مواجهات ساخنة على الحدود الروسية، أو حرب باردة على الحدود الصينية، يؤكد أن الأحادية القطبية تتجه لأن تصبح من ذكريات الماضي. وإذا كان من السابق لأوانه الحكم على تآكل رصيد القوة لدى القطب الامبريالي الأمريكو-أطلسي، فإن ما تُشير إليه العديد من المعطيات والوقائع يفيد بأن واقعا دوليا جديدا آخذا في التشكّل، وإن بصورة بطيئة ومتناقضة أحيانا، من أهم تجلياته حتى الآن فقدان قوة الجذب في القطب المذكور لهيبتها مع كل أزمة جديدة وعجز واضح في قوة الردع لديها، بينما يتقدم القطب الآخر، وخاصة روسيا التي تجرّعت الكثير من الإهانات بعد التفريط في الكيان "الامبراطوري" وتمزيق أوصاله وخسارة حلفاء شرق أوروبا، خطوات إلى الأمام لاستعادة مكانته على خريطة القوة الدولية.
ما يهمنا من هذا التمهيد هو فقط التذكير بأن علاقات القوة كانت وستظل على المستوى الدولي محكومة بتشابك المصالح والصراع من أجل البقاء أو الزيادة في القوة، دون أن ينفي ذلك وجود صراع حول القيم والرؤى. وإذا كان البعض يهيم عشقا في ليبرالية الغرب، ويُعد قيم الحرية وحقوق الانسان والديمقراطية من صميم حضارته المتفوقة على كل الحضارات، فإنه يحق لآخرين أن ينحازوا لقوى تمثل في نظرهم بديلا للوجه القبيح الذي يتخفّى وراء شعارات الحرية وحقوق الانسان بالذات، وهو الوجه الحقيقي الذي تصرّف به الغرب الرأسمالي منذ أزيد من قرن ونصف مع شعوب ضعيفة وأمم مغلوبة، مستخدما الغطرسة والعنصرية والسيطرة والعدوان وانتهاك سيادة الأمم والدول بالقوة العسكرية أو بالعقوبات الاقتصادية. وكم كانت جامعة وبليغة لافتات جمهور نادي "النجم الأحمر" لبلغراد المذيلة بعبارة من أغنية للفنان البريطاني جون لينون: ّ"كل ما نقوله هو أعطوا السلام فرصة!"، وقد جاءت تُذكّر العالم خلال مباراة في الدوري الأوروبي يوم 18 مارس 2022 بجرائم الولايات المتحدة، وبأسماء الدول التي قامت بغزوها عسكريا: كوريا 1950، غواتيمالا 1954، إندونيسيا 1958، كوبا 1961، فيتنام 1961، الكونغو 1964، لاوس 1964، البرازيل 1964، جمهورية الدومينيكان 1965، اليونان 1967، الأرجنتين 1976، نيكاراغوا 1981، غرينادا 1984، الفلبين 1989، بنما 1989، العراق 1991، 2003، جمهورية صرب البوسنة 1995، السودان 1998، يوغوسلافيا 1999، أفغانستان 2001، اليمن 2002، الصومال 2006، ليبيا 2011، سوريا 2011.
لكن هل معنى ذلك أننا نوافق هؤلاء على دعهم الأعمى للأنظمة الاستبدادية القائمة بأغلب دول القطب الشرقي نكاية في أمريكا والغرب المنافق ونخبته العنصرية والمتعجرفة؟ بالطبع لا. إنه من الغباء الشبعوي أن يفاضل المثقف النقدي أو المناضل اليساري النبيه بين:
-غرب رأسمالي امبريالي لا يتردّد في تهديد كل من ينافسه أو يصارعه بخوض حروب ومعارك ضارية وتوجيه ضربات قاصمة، كما فعل ولا يزال يفعل مع دول مختلفة لا تسير على خطاه أو اختارت نهج سياسات اقتصادية لا تخدم مصالح شركاته، مثل الصين أو إيران أو حتى تركيا، فضلا عن فرض حصار اقتصادي ظالم على دول أخرى، مثل كوبا وفينزويلا وغيرها، بدعوى معاداة حقوق الانسان وقمع الحريات، بينما تُدعّم علانية دول عريقة في الاستبداد وكيانات عنصرية واستعمارية لأنها توافقها في المذهب الأيديولوجي أو تدين لها بالولاء والتبعية المطلقة، وهي لا تُعد ولا تُحصى في القارات الخمس؛
-وبين أنظمة استبدادية أو شوفينية تمارس التسلّط على شعوبها وتنتهك أبسط حقوق الانسان، وتفرض الحجر على المجتمعات، وتصادر الحريات العامة والفردية بشكل علني، ولا تتورع في اللجوء إلى القمع الدموي في مواجهة الاحتجاجات الاجتماعية والانتفاضات الشعبية وسحق المعارضات الراديكالية، موظفة أحيانا الدين لتبرير أفعالها، أو الوطنية والقومية أحيانا أخرى لتخوين معارضيها، أو ما وقع تحت تصرفها من الموارد الرمزية لنزع الشرعية عن كل فعل لا يتوافق مع مصالحها واختياراتها وتوجهاتها. فلا يمكن أن نقبل تأييد نظام سلطوي مُتعفّن مثل النظام البعثي السوري، بدعوى أنه نظام وطني معادي لإسرائيل وللإمبريالية (على الورق)، أو لأن قوى رجعية تسلّطت على الثورة السورية وعاثت فاسدا فيها بدعم قوى إقليمية ومباركة أمريكية وأطلسية، فبالأحرى أن نصطف مع التدخّل الروسي الذي أنقذه من الغرق بحثا عن موطئ قدم في خريطة علاقات القوة الدولية.

العٌصاب الجماعي وغطرسة الغرب

لقد كشفت الحرب الحالية عن حقيقة أن العُصاب الجماعي لا يزال بوسعه أن يضرب في أكثر المعاقل تحضَرا ويطلق مارد العنصرية والاستعلاء العرقي من عقاله، كما يحدث اليوم في أوروبا، هذه القارة العجوز التي أغلقت بلداننا الأبواب في وجه كل لاجئ بغير اللون الأبيض، وطاردتهم على الحدود بلا شفقة ولا رحمة، هي نفسها من يفتح ذراعيها للأوكرانيين لأنهم لاجئون من نوع مختلف، "أوروبيون" وعيونهم زرقاء ولون بشرتهم أبيض"، "أذكياء ومتعلمون"! وهذا التعامل بمكيالين مع نفس القضية الإنسانية ونفس المعاناة، ليس فقط هو ما كشفت عنه تصريحات السياسيين والصحافيين، بل هو أيضا ما عرّته المواقف الشعبية من حفاوة استقبال اللاجئين الأوكرانيين وفتح أبواب المنازل في وجوههم، بينما هي نفسها الأبواب التي صُدّت في وجه اللاجئين من أفريقيا والشرق الأوسط لأمد طويل. الحقيقة أن النظرة العنصرية والاستعلائية التي فضحتها التصريحات النزقة حول المعاملة التفضيلية للأوكرانيين، وهذا التضامن الواسع مع مأساتهم، هي نتاج توطين طويل الأمد عبر وسائل الاعلام والتربية والأدب، فضلا عن أفعال الاستعمار والاستعباد التي أنتجت المئات من المآسي منذ زمن الحروب الصليبية، وليس انتهاء بالغزو الحديث لدول مستقلة وانتهاك سيادتها ونهب خيراتها وتدمير حضارتها وتشريد شعوبها بين الدول والمخيمات. وهذه الحقيقة الصادمة، التي نعرفها منذ زمن بعيد، يبدو أنها لم تكن كافية ليكفّ البكائيون الجُدد عن ذرف دموع التماسيح على معاناة الأوكرانيين، خاصة من بين بني جلدتنا، وانتهاك سيادة الدولة الأوروبية الديمقراطية جدا، متناسين السجل الاجرامي للغرب الرأسمالي في هذا الباب تحديدا، الذي يعتبر الكوكب الأرضي، إن لم يكن الفضاء الكوني كله، مجاله الحيوي، يجيز له التدخل أينما ومتى شاء وبجميع الوسائل حتى المحرم منها، واضعا القوانين الدولية وهيئات الأمم المتحدة في خدمته طوعا أو كرها، فالتغطية الإعلامية الكثيفة، التي أطلقتها وسائل إعلام مختلفة من القنوات التلفزيونية والإذاعات والمنصات الإلكترونية، ساعات قليلة على بعد بدء الاجتياح الروسي لأراضي أكرانيا، أظهرت الوجه القبيح والدميم للغرب الرأسمالي المتجبّر، بانحيازه السافر والعنصري للسردية القديمة لغرب متحضّر ديمقراطي حر يواجه حربا تشنها ضده "حسدا" قوى الشر والاستبداد الآتية من الشرق المتوحش. وليس الأمر مقتصرا على التسييس الفج والمفضوح للتغطية الإعلامية لحرب تجري في سياقات تاريخية وجيو-سياسية معلومة ينبغي أن وتوضع الأحداث في إطارها، والانحياز العلني لطرف دون آخر، فهذا أمر عهدناه في الاعلام الغربي منذ أزمنة بعيدة، وهو نهج قديم درجت من خلاله القوى الاستعمارية الأوروبية على توظيف الاعلام كذراع حربي وسلاح نفسي، بل هذه المرة أطلقت العنان لجنونها العنصري وفقدت السيطرة على ما ظلّت تتستّر عليه لسنين من خطابات الكراهية إزاء الآخر، غير الأبيض، فبدأت التصريحات والتلميحات العنصرية تخرج من أفواه الإعلاميين والسياسيين والمثقفين، سافرة تضع الجنس الأبيض فوق كل الأجناس، كما هي التحيزات العنصرية محفورة في اللاوعي الجمعي، تماما كما كانت حتى وقت غير بعيد معاداة السامة وكراهية اليهود بنفس الحدّة والانتشار قبل صدمة النازية. فالحقيقة أن تلك التحيزات العنصرية، التي تمتح من أساطير التفوق الجنسي والعرقي والتسامي الديني والحضاري، لم تتراجع يوما إلا على مستوى السطح وتحت ضغط المقاومات، وأيضا بفضل يقظة الأقلية النقدية الممثلة في المثقفين التقدميين، وما لبثت أن وجدت في الحرب الحالية الفرصة السانحة للخروج إلى الملأ والتحول إلى حالة من الهُياج والهستيريا من خلال تصريحات وتصريفات إعلامية، لم تقتصر على مواقع المتطرفين والعنصريين التقليديين، بل تجاوزته إلى النخبة الثقافية والسياسية المحسوبة على قطب التسامح والحرية المكذوب عليهما. ولعل سيل التصريحات والتعليقات المتشابهة والمكررة التي انطلقت مع أولى موجات نزوح المدنيين من أوكرانيا، حول "هؤلاء الذين يشبهوننا، بعيونهم الزرقاء ولون بشرتهم البيضاء، المسيحيون مثلنا، الذين يشاهدون "نتلفكس" ويقرأون الصحف وينتخبون، الأوروبيون....."، بما لا يقارن مع " أولئك الذين لا يشبهوننا من الأفارقة أو الشرق أوسطيين، السود واللاجئين من سوريا أو أفغانستان هربا من بطش الأنظمة الاستبدادية، ...."، لدليل صارخ على أن حالة العصاب الجماعي هذه كانت راقدة تنتظر الأسباب الطارئة لتخرج إلى العلن، مثلما حدث ذلك مع العصاب النازي والفاشي الذي كاد يحرق الغرب المتحضر بناره لولا صلابة المقاومة السوفياتية التي أوقفت المد النازي عند حده، ودفع بنات وأبناء جميع قوميات وأعراق جمهوريات الاتحاد السوفياتي ثمنا غاليا في سبيل ذلك ، بينما يبارك الغرب المنافق النازية الجديدة في أوكرانيا ويُتوجها بالسلطة الديمقراطية المباركة!

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي