|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
عثمان بوتات
2022 / 3 / 22
من الجلي أنه في وقتنا الراهن قد تم نقد القيم الأخلاقية في الكثير من السياقات، باعتبارها قيم زائفة لا تمثل الفضيلة بأي شكل من الأشكال. يمكن تعريف هذه القيم على أنها تراكمات اختارتها التجربة البشرية وفرضت عليها في الوقت ذاته، لتتوافق مع البيئة المحيطة. وهي قيم عرفت في غالب الثقافات على أنها إرادة إلهية تحدد ما يجب أن يكون ولا يكون، أو هي إرادة الدولة والقانون ( منطق الأغلبية ).
وما نحن بصدد الشروع في طرحه الآن هو فصل المفاهيم الدخيلة على الفضيلة. وغاية فكرة الفصل هو ليس تقديم منهج للتصرف الدقيق وفق المبادئ الفضيلة؛ بل غاية شك في المعايير المسَلمة كبداية لملامسة هذه الفضيلة، وفقط بعد ذلك فتح السبيل لإنتقاء معايير ومبادئ أخلاقية مستقلة. إذن فالغاية الأساسية من هذا الشك هي تكوين الإنسان لمبادئه الخاصة في رحلة شك نحو الإرتقاء بذاته العقلانية وفصلها عن ذاته الحسية والخاضعة.
كمدخل لفصل الأخلاق الزائفة عن الفضيلة.. سنفترض أنه هناك حالة: " يقوم فيها شخص بإطعام قط جائع من قطعة لحم حيوان آخر ". والآن نتساءل؛ هل سلوكه قائم على مبدأ أخلاقي؟
إذا نظرنا في حدود سلوك إطعام القط يمككنا الإفتراض أنه سلوك قائم على مبدأ معاملة الآخر ( الحيوان ) بلطف. لكن ما يدحض هذا المبدأ على أنه زائف هو سلوكه إتجاه الحيوان الذي سبقه؛ وهو المساهمة بشكل ما في معاناته لغاية ما؛ أي لو كان المبدأ الأخلاقي لهذا الشخص يقول أنه يجب معاملة الأخر بلطف، فهو لن يقبل بأذيته بأي شكل وفي أي ظرف. إذن ما الدافع ما الذي يدفع الشخص لسلوكات أخلاقية متناقضة؟ وممارستها بنسبية بزمان ومكان وآخر لا؟
يذهب ديفيد هيوم في هذا السياق بقول " إن ساعة واحدة بل لحظة واحدة كفيلة بأن تجعل سلوك الشخص يتغير من النقيض إلى النقيض ". ويعني بهذا أن سلوكات الناس ذات طبيعة إنفعالية في الجوهر، أي أن تصرف الشخص بسلوك معين -والذي قد يعتبره تصرف أخلاقي- هو قائم على دوافع تخدم الذات والمنفعة وتتجنب أي شكل من المعاناة النفسية-الجسدية. وهذا حال الطبيعة البشرية أساساً، فالكل لدية رغبة في خدمة ذاته الحسية وتجنب المعاناة، ثم إن هذه الرغبات البشرية هي في تغير وتقلب مستمر حسب الظرف والزمان والمكان المختلف. وهو الأمر الذي يولد إنفعالات مختلفة نسبية وسببية يتصرف الشخص على نمطها.
ومن جهة أخرى فالإنسان هو كائن إجتماعي-ثقافي. فمنذ نعومة أظافر الطفل وهو في تلقين مستمر من الخارج ( الأسرة-المجتمع-الدين ) لمعايير أخلاقية تفرض ما هو الصواب والخطأ. وهذا يعني أن شخوصنا الحالية وضمائرنا قد تم تشكيلها بمسَلمات عدة، داخل لاوعينا، تأمرنا بما يجب أن نفعل ومتى نفعله وأين نفعله، وتجعلنا نتجنب أفعال أخرى.
وهذا ما يحيلنا في الأخير، على أن هذه المعايير الأخلاقية هي ليست بشئ عقلاني ولا بِحر ومستقل؛ بل هي معايير قائمة على قوانين حسية-تجريبية-خارجية. ومنه فهي سلوكات أخلاقية إنفعالية وزائفة تحترم وتتماشى مع ما يفرضه الضمير، ونظرة المجتمع ، والقانون، والتشريع. فمتى تكون الأخلاق فضيلة وقائمة على مبادئ عقلانية؟
إن هذا التضارب بين الفعل الأخلاقي العقلاني والآخر الحسي، هو الأمر الذي يضع الإنسان في مأزق وصراع على مستوى السلوك، فنحن لسنا بملائكة ولا بشياطين. الكيان الإنساني هو عبارة عن صراع كونه مزيج بين كيان بشري خاضع لدوافع حسية توجهه نحو إرادة شريرة، وكيان عقلاني يوجهه نحو إرادة خيرة.
والآن يصير مفهوم الأخلاق الفضيلة واضحاً، والعمل بمبادئه، أي وفق إرادة خيرة، يشترط فيه التصرف بعقلانية وحرية واستقلالية، دون الخضوع لأي دوافع حسية، أو قوانين وأفكار جاهزة، أو حتّى الضمير. ما معنى ذلك؟
إن أول المبادئ الذي يجب وضعها تحت مجهر الشك غاية الوصول للفضيلة، هي تلك القائمة على دوافع منفعية حسية وجاهزة، تحرّك سلوكنا " الأخلاقي "؛ لأن الخضوع لها هو من يكوّن اختيارات أفعالنا لغاية ما. في المقابل، فإن التصرف ببراءة ووفق الفضيلة هو سلوك ينتج عن التأمل بعقلانية بالعقل. وهو أمر منفصل عن أي نزعة تجريبية، أي هو انسجام مع العقل الإلهي. الفضيلة التي نقصد هي موجودة منذ الأزل، لايمكن الإبداع فيها أو وصفها بالنسبية. ومن هذ، فأن تكون للشخص مبادئ أخلاقية يعني أنه جعل من عقله وسيلة للإتصال مع العقل الإلهي ومع عالم أفلاطون ( عالم المثل )، أي الخير المطلق. الصوت الإلهي هو من يزرع بنا الواجب الأخلاقي، ويجعلنا نتعامل مع الآخر كغاية في ذاته. وهذا في نطاق إستقلالي يعني الفرد، أي دون تعميم المبادئ. كيف ذلك؟
يقصد بالمبادئ الأخلاقية المستقلة أنها مبادئ تعني الفرد بصورة كاملة، لا يمكن تعميمها، وإلّا فقدت معناها. وبلغة إمانويل كانط فإن تعميم المبدأ يستحيل أن يكون منطقياً؛ لأنه يؤدي إلى تناقض في المفهوم، أي أن المبدأ يفقد معناه بالضرورة ويتحول لنقيضه. مثلاً تعميم المبدأ القائل " الكذب فعل لا أخلاقي " يكون مبدأ دون معنى أو قيمة في عالم إفتراضي لا يكذب فيه أحد.
في النهاية، لا يمكننا إقصاء تصرفات الشخص التي يمكن تسميتها " أخلاقية " -بتحفظ- من دائرة الخير، لازالت تستحق التشجيع في الممارسة وتفهمها، لكن لا يمكن وصفها بالفضيلة. فالشخص الفاضل، النقي، والبريئ هو شخص بسيط في نهاية الأمر، ويتصرف بعفوية تامة، أفعاله حرّة وليست لها غاية، بل هي غاية في ذاتها.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |