|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
فالح الحمراني
2021 / 9 / 18
فالح الحمـراني
تزامنا مع مرور 30 عاما على انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، استعر في موسكو الجدل بين ممثلي التيارات والقوى السياسية والاجتماعية الاقتصادية المختلفة بصدد الأسباب الحقيقية التي أدت إلى انهيار الدولة العظمى. البعض عزاه إلى تآمر الدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة وأجهزة مخابراتها، وآخرون إلى طبيعة النظام السوفيتي، الموصوف بالشمولية، وحكم الحزب الواحد، وانتهاجه سياسة خنق الحريات بكافة أشكالها، وبناء شكل مشوهة للاشتراكية، واعتماده العنف غير المبرر في التعامل مع مختلف أشكال المعارضة حتى الحزبية البناءة، وحتى ارتكاب الجرائم والإبادة الجماعية وترحيل قوميات من مواطنها الأصلية وغزو الدول الأخرى التي تخرج عن الطاعة، ودعم الأنظمة الديكتاتورية، على غرار دعمه النظام الديكتاتوري المباد، في العراق.
ولم يكن انهيار الاتحاد السوفيتي كارثة تاريخية داخلية وحسب، وإنما كانت لها إسقاطات مؤلمة، بل مهلكة على بقاع شاسعة من العالم، وغير اصطفاف موازين القوى العالم، وتفكك دول، علاوة على أن الانهيار سبب إحباط تطلعات الشعوب إلى الاتحاد السوفيتي كتجربة اشتراكية بارزة، وراهنت عليه في بناء عالم جديد ينهي فعلا نظام الاستغلال الرأسمالي، ليحل بديله نظام إنساني قائم على العدل والمساواة، وتحرير الشعوب من مختلف أشكال الشعوب الاستعمار والتبعية، ومنحها خيار سبيل تطورها بنفسها.
وفي هذا السياق قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في رسالة إلى الجمعية الفيدرالية عام 2005، إن انهيار الاتحاد السوفيتي كان أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين، حيث وجد عشرات الملايين من الروس أنفسهم خارج الاتحاد الروسي. وهذا، بحسب الرئيس، أصبح "دراما حقيقية للشعب الروسي" وانتهكت سلامة البلاد بتدخل الإرهابيين و "وتوقيع اتفاقية خسافيورت الاستسلامية" في حرب الشيشان. وفي حزيران من هذا العام،، قال فلاديمير بوتين إن الحزب الشيوعي دمر الاتحاد السوفيتي. كما أشار إلى أن العودة إلى الاشتراكية في روسيا أمر "غير محتمل". كما قال بوتين في عام 2019 إن انهيار الاتحاد السوفيتي لم يكن مرتبطًا بنمو الميول القومية في دول البلطيق، ولكن كان بسبب السياسات الاقتصادية غير الفعالة. مشيرا إلى أنه بسببها كان هناك "انهيار في المجال الاجتماعي"، مما كان له "عواقب طويلة الأمد في المجال السياسي".
وقال آخر زعيم سوفيتي ميخائيل غورباتشوف إن العالم كان أكثر عدلاً وأمانًا لو استمر الاتحاد السوفيتي في الوجود. وبحسب قوله، ليست البيريسترويكا التي دشنها بنفسه، هي التي دمرت البلاد. ولكن تأخر تنفيذ الإصلاحات في الاتحاد السوفيتي، كما لعبت اللامركزية والسياسة الاقتصادية الضعيفة دورًا سَلْبِيًّا. وأضاف غورباتشوف أنه خلال فترة حكمه كانت هناك أيضًا نجاحات: انتهت الحرب الباردة، وأبرمت معاهدة نزع السلاح النووي مع الولايات المتحدة، وحصل المواطنون السوفييت على حرية التعبير- جلاسنوست- والحق في السفر بحرية خارج الاتحاد السوفيتي.
وَحَالِيًّا، لا يوجد تقييم موحد وتحليل شامل للأسباب التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي. ومن بين العديد من العوامل التي أثرت في هذه العملية يشير مختلف ممثلو التيارات السياسية والفكري إلى العديد من الأسباب من بينها: بناء دولة اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية تحت ستار "الاشتراكية المتطورة" ورأسمالية الدولة، وانحطاط النخب الحزبية من مختلف المستويات، نتيجة للرغبة في الإثراء الشخصي غير المقيد بأي إطار، إذ تمكن عدد كبير من القادة من مختلف المستويات من الوصول إلى قمة السلطة والتحكم بالأصول الاقتصادية؛ ويبرز البعض الحملة المناهضة للكحول عام 1985، والتي برأيهم أدت إلى تقليص دخل صناعة المواد الغذائية وتجارة التجزئة، أي عائدات ميزانية الاتحاد السوفيتي؛ وكذلك تخلي الدولة عن احتكار التجارة الخارجية، الأمر الذي ساهم بشكل كبير في ظهور ميزان تجارة خارجية سلبي، وقلل من إيرادات الموازنة وساهم في نمو الدين الخارجي؛ كما أفضى الإصلاح الاقتصادي في عام 1987 وما تلاه إلى انخفاض الإنتاج، وارتفاع التضخم، وتدهور الوضع الاقتصادي؛ وكانت هناك محاولات فاشلة لإصلاح الاقتصاد المخطط، مما أدى إلى ركوده، ثم الانهيار لاحقًا، مما قوض ثقة الجمهور في النظام الاقتصادي. وتُدرج ضمن الأسباب التي أدت انهيار أول اشتراكية في العالم، التخلي غير المدروس عن المواقف السياسية والأيديولوجية السابقة، وانتشار القيم الأيديولوجية الجديدة الغريبة إلى جانب نمو المعارضة، بما في ذلك ذات الميول القومية المتشددة، واتساع نفوذها، والاستيلاء التدريجي على السلطة المحلية من قبل القوى السياسية المعارضة؛ واندلاع النزاعات العرقية كما في ناغورنو كاراباخ، وترانسنيستريا في مولدوفا، وفي جورجيا بأوسيتيا الجنوبية، وأبخازيا. وعلي خلفية تلك التطورات ضعفت مركز الاتحاد وفقد تدريجيا السيطرة على الأحداث الجارية، ومن الأسباب أخرى إنشاء التعاونيات الخاصة، التي شكلت بداية خصخصة ممتلكات الدولة وإضفاء الشرعية على رأس المال المكتسب بطريقة غير مشروعة، مما أتاح إمكانية ضخ الأموال العامة في القطاع الخاص ومن خلاله في الخارج؛ ورفض تطوير النظام الآلي الوطني للمحاسبة ومعالجة المعلومات. كما كان للحرب الباردة وسباق التسلح؛ دوره في غروب الدولة السوفاتية، فالحرب الأفغانية سببت في إدانة المجتمع الدولي ولم تحظَ بشعبية بين سكان الاتحاد السوفيتي، والتزامات المساعدات المالية والعسكرية لدول المعسكر الاشتراكي وما يسمى ب "الثورات الفتية"؛ بما في ذلك الديكتاتورية التي طارت الأحزاب الشيوعية واليسارية. ولعبت الأنشطة التخريبية لأجهزة المخابرات الغربية، بما في ذلك من خلال إدخال "وكلاء النفوذ" في القيادة السياسية العليا للاتحاد السوفيتي دورها في إضعاف الاتحاد السوفيتي. وأكد جدية هذا العامل المسؤولون السابقون في الكي جي بي، وعدد من الصحفيين والباحثين، ومثل هذا التقييم موجود أيضاً في عدد من الوثائق الرسمية للحزب الشيوعي لروسيا الاتحادية.
كما أن تقلبات أسواق النفط في عام 1986، بعد عام من وصول ميخائيل غورباتشوف إلى السلطة، تسببت في زيادة العرض وانخفاض الطلب في السوق العالمية في انهيار أسعار النفط. وبسبب هذا، فقد الاتحاد السوفيتي حصة كبيرة من عائدات النقد الأجنبي اللازمة لدفع ثمن الواردات، بما في ذلك المواد الغذائية. ويشار أيضا إلى انفراد المركز في آلية صنع القرار. فقد تم اتخاذ جميع القرارات المهمة في "المركز الاتحادي"، مما أدى إلى عدم الكفاءة والبيروقراطية وضياع الوقت وعدم الرضا عن السلطات الإقليمية؛ ورغبة قادة الجمهوريات في التخلص من سيطرة المركز، وإحجامهم في السنوات الأخيرة عن متابعة الخط "نحو المزيد من دمقرطة المجتمع" الذي اتبعه غورباتشوف، إضافة إلى عدم التناسب في الاقتصاد الواسع، الذي تميز بها الاتحاد السوفيتي طلت وجوده، وأدى إلى نقص في السلع، علاوة على التخلف الفني المتزايد عن دول الغرب في بعض قطاعات الصناعات الغذائية والخفيفة والصناعات التحويلية، وفشل عملية الإصلاح التعليمي 1970-1977، مما أدى إلى انخفاض حاد في مستوى تدريب تلاميذ المدارس، إلى جانب نظام التوزيع، والتفاوت، والحصرية في تنظيم إمداد المراكز والمناطق بالأغذية والسلع الاستهلاكية، وكذلك تنامي إستياءاللسكان المرتبط بالانقطاع المستمر في الإمداد بالمواد الغذائية والسلع الأساسية الأخرى، ونظام البطاقات (الكوبونات)، الذي تم تقديمه على نطاق واسع بحلول نهاية الثمانينيات؛ وتقاليد الستار الحديدي: فرض القيود على حرية تنقل المواطنين (تأشيرات الخروج، إلخ)؛ ورقابة الدولة، بما في ذلك على وسائل الإعلام، واللجوء للقمع لحل المشاكل الداخلية، وإخفاء المعلومات الكاملة عن عدد من الكوارث التي من صنع الإنسان (حوادث الطيران، وحادث تشيرنوبيل، وتحطم سفينة "الأدميرال ناخيموف"، والكارثة بالقرب من أوفا، إلخ.)؛ وأخيرا تشكيل حزب شيوعي روسي مستقل عام 1990.