عن انتفاضة تشرين المجيدة: ماذا بعد؟

عماد عباس
2020 / 4 / 20

المجتمعون في غرفة رئيس الجمهورية في يوم التكليف كانوا فرحين بإنحسار الانتفاضة الشعبية ولهذا تخلوا عن الاقنعة التي اضطروا لارتدائها فترة من الزمن فعادوا ليعلنوا بوضوح عن تمسكهم بنظام المحاصصة وعن دعم خيار "البيت الشيعي" وهو أمر لم يفاجئ أحدا لأن هذه الزمرة لن تتخلى عن السلطة طواعية. لكن عرس الواوية لن يدوم طويلا لأن أسباب الغضب مازالت موجودة بل هي في ازدياد وتعمق. وستعود الانتفاضة البطولية بعد انجلاء وباء كورونا بشكل أقوى وأفضل تنظيماً من السابق. وهذا هو الامل الوحيد للعراق للخروج من الهاوية. لهذا يجب على كل وطني دعم الانتفاضة بكل ما يستطيع ويملك دون منة أو تفضل. من هنا يأتي الحرص على طرح الرأي الذي قد يساهم في النقاش الدائر لتعزيز وتصويب وتدعيم المسار نحو تحقيق الأهداف السامية. ولا بد ان أوْكد من جديد كما فعلت في مرات سابقة انني إذ اقدم ملاحظات أتمنى ان تصل الى المعنيين الذين يلعبون أدوارا قيادية في الانتفاضة لإفادتهم في رأي لعله يكون نافعا في تحريك النقاش وإثارة الأسئلة المفيدة فانني لا افعل ذلك من منطلق الاستاذية او ادعاء المعرفة الأفضل ولا للتعبير عن اي طموح لدور ما غير دور المشارك الحريص.

لقد استمعت مثل غيري الى البيان الأخير الذي القي في ساحة التحرير بإسم المنتفضين المرابطين في جميع الساحات وهوْلاء يستحقون الإشادة والاعتزاز كما يستحق ذلك بيانهم الذي أكد على وحدة الموقف لناحية الإصرار على مواصلة الاعتصام والاحتجاج ورفض تكليف مصطفى الكاظمي بالأسلوب الذي جرى فيه وإدانة مشاركة ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في هذه المهزلة.
لكن فيما عدا الكلام العاطفي المخلص والجميل لم يأت البيان بصراحة بأي جديد ولا حاول الإجابة على الأسئلة القديمة التي طرحت نفسها خلال الشهور الأخيرة، ماذا بعد وما العمل؟
السبب يعود في رأيي الى وجود خلافات في الروْية وحول اسلوب تحقيق الهدف وهذا لم يعد سراً. والخلاف امر طبيعي في حركة واسعة تشارك فيها فئات مختلفة في الانتماء الطبقي والتوجه الفكري والتجربة السياسية والتنظيمية والعمر وهذه الحقيقة يجب ان لا تعيق التوصل الى الاتفاق على روْية موحدة في حدها الأدنى على الاقل كقاسم مشترك للقوى الرئيسية للانتفاضة. ان وحدة الروْية أمر لابد منه لتحقيق وحدة التنظيم بمعنى قيادة مركزية ترتفع بمستوى التنسيق الذي رأيناه حتى الآن والذي لم يصل أبداً الى مستوى الطموح. والقيادة ليس المقصود بها الشخصيات التي ارتأى البعض ترشيحها من الساحات لرئاسة الوزراء فهذا أمر مختلف وقد اهدر فيه للأسف وقت وطاقات كثيرة وادى الى خلافات وتشتت دون جدوى. من الممكن بالطبع ان تكون هذه الشخصيات المحترمة جزءا من قيادة تضم على سبيل المثال ممثلين للطلبة والمحامين والنساء والمعلمين وغيرها من النقابات والجهات التي كان لها دور مشهود في الانتفاضة وكذلك شخصيات تميزت خلال مشاركتها في الشهور الماضية بثباتها وبوعيها وتجربتها الفكرية والسياسية.

لقد تأخرت عملية مراجعة التجربة وكانت فترة انحسار النشاطات فرصة جيدة ينبغي استغلالها بشكل أفضل وفتح النقاش بشكل أوسع وادارته بمنهجية وان يكون هناك استعداد للاستماع والاستفادة من كل صوت مخلص.

لنتفق على اننا نريد في النهاية تحقيق تغيير جذري بوسائل سلمية للوضع القائم وليس مجرد إصلاحات شكلية أو سطحية. وبما اننا لا نمتلك القوة لتحقيق ذلك في اللحظة الحالية فلابد من اتباع سياسة طويلة الأمد فيها مرونة وتقوم على التدرج في المطالب. البعض يترجم هذه الواقعية والبراغماتية الى دعوات هزيلة وقصيرة النظر تعيدنا للأسف الى نقطة الصفر بأفكار من قبيل لماذا لا نعطي فرصة لرئيس الوزراء المكلف ونرى بعدها ما يكون، لماذا لا نشارك بوزير او مدير أو محافظ هنا أو هناك. ان كلمة انتهازية تبدو مثل شتيمة لكن لا يوجد أحسن منها للتعبير عن دعوات اقتناص الفرص السانحة ونسيان الهدف البعيد الذي من أجله قدم الأبطال أرواحهم أو جازفوا بحرياتهم وبما يملكون.

النقاش والمراجعة لتجربة الشهور الماضية تهدف الى الخروج بورقة تكون هي البرنامج الوطني للإنتفاضة الذي يشكل إطاراً عاما لحركتها القادمة. ويمكن بعدها للقيادة الموحدة المناورة وتغيير الستراتيجيات والتكتيكات تصعيداً أوتقليصاً ضمن حدود هذه الروْية وليس خارجها او بتعارض معها. كما تتبناها القوة التي يجري الحديث عن تشكيلها لخوض الانتخابات القادمة سواء كانت حزباً او حركة او بأي تسمية اخرى. أما من يطرحون أشياء اخرى ويحاولون استغلال الانتفاضة لغايات ذاتية او حزبية مختلفة فهذا شأنهم وسيكون توضيح الحدود معهم مفيداً جداً وليس خسارة.

هذه الورقة او البيان التأسيسي تصاغ بلغة واضحة لا تقبل التأويل مثل لغة القانون وليس بعبارات عامة فضفاضة وعاطفية.
أقترح أن تبدأ الورقة أولاً بنزع الشرعية عن النظام القائم بسبب:
• ثبت بطلان وكذب الاسس التي قام عليها من عدالة انتقالية ووتوافق سياسي ومصالحة وطنية كان يجب ان تحققها ما سميت بعملية سياسية تدوم فترة زمنية زمنية معقولة توصل البلاد خلالها الى بر الأمان في حين ان الناتج كان تعميق الانقسام المجتمعي وشرعنة الطائفية والولاءات الفرعية والتبعية للخارج الى آخره الى آخره.
• الدستور الذي وضعوه وضمنوه بشكل مقصود ألغاماً وفيه أكثر من مطعن قانوني، دستورهم هذا جرى التلاعب به وتطبيقه بشكل اختياري والتجاوز عليه في أكثر من مناسبة وسط صمت او تواطوْ القضاء وإدامة العمل بإتفاقات التقاسم الطائفي والإثني غير الدستوري للسلطات الرئاسية الثلاث والمحاصصة البغيضة لكل ما دونها من مناصب. الى آخره.
• الانتخابات الاخيرة كانت نسبة المشاركة فيها قليلة جدا وجرى تزويرها على نطاق واسع وموثق واحرقت صناديق وبيعت مناصب الى آخره.
• مواجهة التظاهرات الاحتجاجية بسياسة القتل والاختطاف والاغتيال لمئات وآلاف الوطنيين المخلصين بأوامر كانت تصدر من مكتب رئيس الوزراء حسب شهادات موثقة.
• شرعنتهم الفساد والنهب الى آخره

هذه المقدمة تبرر الفقرة التي بعدها وهي ثانياً الدعوة الى نظام وطني بديل تحدد ملامحه الرئيسية.
فما هي أسس البديل الذي نريده؟ هنا أيضا نقاط مقترحة تقبل النقاش وليست جديدة لكنها ما زالت تثير بعض الخلاف:
العراق وطن واحد يتمتع أبناوْه بالمساواة بغض النظر عن العرق والدين والطائفة والجنس وغيرها من الانتماءات الفرعية. الثروات الوطنية ومنها النفطية تعود ملكيتها الى كل الشعب العراقي وتدار بإسمه من قبل الحكومة المركزية تعاقدا وانتاجا وتسويقا وتوزع عوائدها بالتساوي من خلال الموازنة المركزية حسب عدد نفوس المحافظات دون مراعاة لأية اعتبارات من قبيل المظلوميات الحقيقية او المزعومة أو أي امتيازات اخرى غير قانونية.
تحريم الطائفية وتجريم إثارة نعرات التعصب الطائفي والعرقي ودعوات المحاصصة والتقسيم وتعديل الدستور والقوانين بما يضمن ذلك.
جيش واحد للعراق مهمته حماية البلاد وحدودها في كل الجهات ويكون ولاءه للوطن فقط وهذا ينطبق على القوات الامنية الاخرى ويجب ان تحل اية تشكيلات خارجها.
وضع قانون من اين لك هذا وملاحقة كبار روْوس الفساد وتجفيف الموارد غير القانونية للاحزاب واسترداد الاموال المنهوبة.
المباشرة بعملية تنمية حقيقية توفر تشغيل العاطلين وتراعي قواعد العدالة الاجتماعية.
مكانة ودور رجل الدين محترمة في الجامع والمدرسة الدينية ومن يريد ان يشارك في الحياة السياسية يخلع العمامة ولا يعود له أي امتياز. الى آخره الى آخره من نقاط لروْية مستقبلية.

ثم تأتي ثالثاً المطالب الآنية والشعارات الرئيسية، وهذه يجب صياغتها ايضا بعناية والتمسك بها بعد ذلك في كل بيان او موقف يصدر عن القيادة الموحدة وليس مثلما جرى في الفترة السابقة حيث يختلف الكلام بين مدينة واخرو او بين وقت وآخر فتسقط بعض الاهداف سهوا او تتبدل الاولويات جزافاً بعض الاحيان.
من هذه النقاط استكمال قانون الانتخابات والمفوضية، اطلاق سراح الاسرى والمختطفين، ملاحقة قتلة المتظاهرين ومحاكمتهم، المباشرة من الآن بالحد من تغول الاحزاب وتجفيف مواردها وسحب سلاحها وسلاح المليشيات الولائية والا فلن تكون الانتخابات ديموقراطية ولن نشارك فيها وسندعو الى مقاطعتها.

عندما يحصل خلال النقاش خلاف على الروْية والاهداف المطلوبة فقد يكون من المناسب البدء من الأخير مثلما تحل بعض المسائل الرياضية بالمقلوب، بمعنى ما هي الاشياء التي لا نريدها ولا تعبر عن روْية الانتفاضة؟
مثلا، وهذه أيضا نقاط للنقاش ليست جديدة لكن لابد من توفر اتفاق عليها بالحد الأدنى:
لا نريد عودة نظام البعث، لا نريد التبعية لايران وتدخلاتها، ولا التبعية لامريكا.
لن نستجيب لخطاب منافق يدعو الى فتح معركة مع القواعد الاجنبية التي جاء بها نظامهم وأحزابهم ولن نخضع للابتزاز من قبل خطاب متياسر يرهق الانتفاضة بهذه المهمات التي هي ليست من اولوياتها في الوقت الحاضر بدعوى تأييد المقاومة المزعومة التي تتبناها مليشيات ولائية طائفية رجعية متورطة بجرائم القتل والاختطاف وحماية الفساد ونهب ثروات الشعب والوطن.
لن نحرم على انفسنا الاستفادة من تناقضات اركان النظام (جماعة العبادي أو الزرفي او أياد علاوي او رئيس الجمهورية او سواهم) دون ان نقدم تزكية سياسية مجانية لأي جهة منهم.
وهكذا كلما تستبعد شيئا فسيساعدك ذلك في التوصل الى مواقف مشتركة. ويمكن ترك المختلف عليه مما هو غير ملح الى المستقبل.

ملاحظة اخرى تتعلق بالموقف من المرجعية الشيعية المتمثلة بالسيد علي السيستاني بالذات. فهي تتمتع بنفوذ كبير وقد اعلنت تأييدها بشكل عام للانتفاضة السلمية بخطاب تفاوتت نبرته ومستواه حسب الصعود او الانحسار النسبي لحركة الاحتجاج وهذا يعني بوضوح ان الانتفاضة وتضحياتها هي الاساس ولا يجوز نسيان ذلك. ثبت ان دعم المرجعية مهم ويجب الاستفادة منه لكن دون حرق البخور لها أو إعلان التبعية لخطابها وتنفيذ أوامرها مثلما ورد للاسف على لسان بعض الوجوه البارزة التي أفرزتها ساحات التظاهر وأحيانا وسط تكبيرات وصلوات يزيد عليها البعض هتافات عجل فرجه وما اليها من معاني ذات صبغة دينية وطائفية ضارة جدا بالطابع الموحد للانتفاضة الشعبية. مرجعيتنا الوحيدة هي أهداف الانتفاضة التي قدم الشهداء ارواحهم الغالية من أجلها والتي تضمها الورقة أو البرنامج الموحد الذي يجري الحديث عنه.

أقترح ان تكون هناك فقرة تعالج الوضع في الموصل والمحافظات الغربية. فليس من المعقول ان يستمر الى ما لانهاية تجريم مساهمة المواطنين هناك في اي نشاط احتجاجي وتحريمه بشكل مطلق بحجة التباس الاوضاع. نوْيد جهود محاصرة القوى الارهابية لكن نطالب باطلاق الحريات لطلبة الجامعات وسواهم من المواطنين بالتظاهر السلمي بل وندعوهم الى ذلك والى تحدي القمع وابتكار أشكال ممكنة للتحرك والمساهمة في مناطقهم وليس فقط في ساحة التحرير بالانتفاضة الوطنية التي لا تقتصر على جهة أو منطقة.

ومن المهم بكل تأكيد تخصيص فقرة لتطمين مخاوف بعض المواطنين في اقليم كردستان من أن الانتفاضة تعادي طموحاتهم القومية المشروعة او تستهدف الغاء شكل الحكم الفدرالي وهو ما تروجه قيادات الاحزاب القومية الاقطاعية المهيمنة هناك. هذه القيادات شاركت بنشاط في وضع الدستور المزروع بالألغام وتأسيس وإدامة النظام الفاسد وفي عمليات النهب ودعت في وقتها الى التصويت عليه بالقبول بنسبة عالية جداوهذا يعتبر ممارسة لحق تقرير المصير والبقاء في إطار وطن واحد لكنهم ظلوا يتلاعبون بشعار تقرير المصير ويستخدمونه ورقة للتهديد حسب أهوائهم كوسيلة للابتزاز لا غير حيث لا توجد اي ظروف موضوعية ولا ذاتية لتأسيس دولة قومية للكرد وهو شيء مازال في رحم الغيب لسنا ضده ولا ضد مشاعر اخوتنا الكرد لكننا ضد هذا التلاعب والنفاق والإضرار بمصالح الوطن وتقسيم الشعب. والصياغة تكون دقيقة وبدون أي مجاملة فنحن نريد الغاء اي امتيازات غير شرعية وبحيث يكون يكون وطن واحد لكل أبنائه حقيقة وليس دولة داخل الدولة. وقد كانت هناك أصوات كردية حرة وصدرت مواقف وبيانات وطنية ساندت الانتفاضة ومهما كانت هذه المجموعة صغيرة لكنها تعبر عن غضب حقيقي من الاوضاع في الاقليم وعن جمهور آخذ في الاتساع وكان المفروض الاهتمام بشكل أكبر بمد الجسور معها وتوحيد الروْى والعمل المشترك.

ولدي بالاخير عدد من الملاحظات والنقاط العملية:
الاولى تتعلق بالتعامل مع رئيس الوزراء المكلف وحكومته اذا نجح في تشكيلها وتمريرها. فإن رفض هذا التكليف من حيث المبدأ لا يجب ان يعني تحريم التعامل مع هذه الحكومة. لقد استمعت الى كلمة للأستاذ مهند نعيم تقترح المطالبة بتبني ملفات معينة من قبل ممثلين للانتفاضة وهي فكرة جيدة وفي حال تحققت ولو جزئيا فلا بد من الحذر من تقديم تزكية سياسية او إشاعة أوهام وتعليق آمال على وزراء خرجوا من رحم نظام الطائفية والتبعية والفساد ولا يتمتعون حتى بالحد الادنى من مواصفات القادة.

وفي الخارج كانت هناك جهود كبيرة ومبادرات رائعة لكن فشلت الانتفاضة حتى الان للأسف في ان يكون لها جهة تمثلها وتكون صوتها الناطق باسمها رسمياً. الإعلام شئ مهم ولا بد ان يكون هناك صوت موحد بسياسة وطنية واضحة تخاطب الرأي العام والمنظمات والحكومات من موقع فضح الجرائم المرتكبة بحق المنتفضين والمطالبة بالتضامن وادانة الصمت والتواطوْ وليس من موقع الاستجداء بل تذكير هذه الجهات بمسوْولياتها وخاصة منها من كانت له مساهمة في احتلال العراق وتدميره وتسليمه بيد حكام الطوائف من شذاذ الافاق. ولا يجوز ترك الامور سائبة لكل من يريد ان يدعو الى التدخل الاجنبي او توقيع عرائض للبيت الابيض "لانقاذ الشعب العراقي" حتى وان كان ذلك بنية حسنة. ولا بد من محاولة توحيد جهود التحرك القانوني الدولي من قبل المحامين والمختصين بالقانون من العراقيين أو الاصدقاء لفضح الجرائم وإطلاق تحرك واسع لشل أيدي القتلة والمطالبة بمحاكمتهم.

وكذلك العمل على تنظيم عملية الدعم المادي واللوجستي بشكل أفضل سواء في الداخل او ما يأتي من الخارج. كأن تتوفر أرقام حساب موثوقة لتلقي التبرعات من الخارج وتوزيعها بشكل نزيه وعادل على الساحات.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي