الناس*

محمد علي الشبيبي
2019 / 5 / 21

(الناس) من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
سالكو سبيل هذه الحياة، وملتمسو النجاة من الزلات والآفات، قد ساروا الى مصير بين الشك واليقين يحفهم الشوك والريحان، وتطلع عليهم الشمس تارة، ويظلهم عنها تارة الغمام، وتعصف بهم هوج الرياح، شرابهم رتق زلال.
قد يسرعون الخطى نحو النهاية والمصير في سبيل وهم عرفوا اسمه وما وُلد، وحلموا بظله ولم يُمَدَّ!
مصارع بعضهم تحت الأقدام. وآخرون تاه عنهم القدر، فتبعوه حتى وجدوه، وتعلقوا به فنبذهم، ثم كرّ عليهم بلهفة وصرّ عليهم بأسنانه.
قلت لنفسي مرةً، أمامكِ الناس فأقرئي سر الحياة بأوجههم، وخذي العبر من سَيرهم. ورحت أمعن النظر. وأرهف السمع، في ضحك الطفل وبكاه، بما يؤلمه، ويهمه ويشغله، بمرحه عند يقظته، واستسلامه عند هجعته فوددت لو أني بقيت طفلاً!
وصدفت إلى الشباب، فتأملته، في أمانيه وأحلامه، في غروره وطيشه، في شقوته وسعادته، في أمله وخيبته، في حبه وضغنه، وهُداه وحيرته، وريّه وضماه، في أمسه وغده، فوجدت حرارة الشباب قد الهبت فيه غُلّة العواطف، فلا تطفيها غير الشيخوخة!
وعرجت على الكهول والشيوخ، فيما حصلوا وأضاعوا، وآمنوا وجحدوا، وقدّموا وأخّروا، وضحكوا له وبكوا عليه، وسعدوا به وأشقوا لأجله. في الشيب اللامع وما بعثه، والظهور المحنية بما أنذرت، والرؤوس المرتجفة بما حملت. والعيون الذابلة في نظراتها. فعرفت أن المنتهى قريب، وكل ما بقى فيهم حسرة في الروح إن عجزت عن سحب هذا الجسم حيث تشاء، وظل لا يملك غير الذكريات في نفسه، والاستغفار منها على لسانه.
ثم انغمست بين أجناس من الناس. بين الفقير والغني، والخامل والنابه، والمعافى والسقيم، والقبيح والجميل، والخلي والشجي، والمجرم والبريء، وساكني الأكواخ والقصور.
فوجدت كُلا ً يحوز النار الى قرصه، ويحول الباطل حقاً لنفسه. يلين بلسانه ويحكم بسره كي ينال العنقود، فإذا ما ناله بنى حوله من الأنانية سياجاً، وأسدل عليه من الاستغلال ستاراً، لا يكتفي بالقليل، ولا يقنع بالكثير.
وعدت بعد هذه السياحة والاستكشاف أساءل نفسي عما عرفت وجربت؟ فنويت أن اباعد الناس، وألزم الوحدة، ولكن نفسي لم ترض من ذلك! كيف؟ ومن الناس أتعلم كل علم. وأفهم كل سر. وأحصل كل عظة ... فإن وجدت السقيم حرصت على الصحة. وإن وجدت المجرم تعلمت النزاهة والفضيلة. وإن رأيت الجاهل طلبت العلم. وإذا ما لاحظت الغني والفقير، تعلمت الرحمة وفائدة الثراء، وتعلمت الصبر من الجزوع. والحلم من الأحمق. والهدوء والسكينة بظل الصخب والضوضاء. ولذة الصمت من المهذار.
ولُقنتُ من كل صور الحياة المرح والسرور، لأن (ثروة الدنيا رغيف ورداء[1]). ونهاية الجميع موت وفناء. فلا يحملون معهم ما ملكوا، ولا يملكون أن يرقبوه أو يتمتعوا بشيء في المسكن الأخير!
وعرفت أن لابد أن أكون بعد هذه الحياة أنشودة حمد وثناء على ألسِنة بعض، ولعنةً ونقمة عند آخرين.

المربي الراحل
علي محمد الشبيبي
1913 - 1997
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*- نشرت في جريدة الهاتف عدد 210 صفحة 9 عام 1939.
1- من شعر جبران خليل جبران في قصيدته (ماذا تقول الساقية) ومطلع القصيدة: سرت في الوادي وقد جاء الصباح معلنا سر وجود لا يزول ... ثم يقول: ما الفقير بالحقير ... ثروة الدنيا رغيف ورداء./ الناشر محمد علي الشبيبي

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي