|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
آصف ملحم
2018 / 6 / 14
عند انتقاء عنوان مقالتي، حاولتُ جعله قصيراً ومقنّناً، إلا أنه جاء طويلاً في كلماته وكثيفاً في أفكاره؛ فالعنوان بحد ذاته يطرح عدة مفاهيم صعبة التعريف والفهم والقياس؛ فلقد تم في عام 1952 وضع أكثر 164 تعريفاً للثقافة، كما أنه بالرغم من المحاولات المتواصلة للأنثربولوجيين على مدى قرن من الزمن في تعريف الثقافة، إلا أنه لا يوجد اتفاق بينهم حولها حتى هذه اللحظة. وبغية الابتعاد عن الجدل المتواصل حول مفهوم الثقافة ومستوياتها، سننطلق من المشتركات؛ إذ أنه لا خلاف بين الباحثين حول مكونات الثقافة، والتي يمكن إجمالها بالمعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والفلكلور. أما التآثر الثقافي، وهو المصطلح الذي اعتمدناه كترجمة لكلمة Interaction، أو التأثير والتأثير المتبادل، فهو عملية مستمرة انسيابية ناجمة عن مجمل النشاط البشري ونتيجة طبيعية للتواصل بين المجموعات البشرية على مدار التاريخ؛ فجميع شعوب العالم أثّرت في غيرها وتأثرت بها، من هنا يبرز السؤال الجوهري: لماذا الحديث إذاً عن الدور الروسي بالتحديد؟! والحقيقة أن هذه المقالة تهدف إلى الإجابة على هذا السؤال.
تُعتبَر السياسة الخارجية لأي دولة امتداداً لسياستها الداخلية؛ ومن هنا يمكننا فهم أثر الثقافة في العلاقات الخارجية و العلاقات الدولية؛ وبالنتيجة، فهم العلاقة بين الثقافة والسياسة؛ إذ يزعم الكثير من الباحثين أنه لا يمكن فهم عمق العلاقات الدولية وخفاياها بدون فهم الخلفيات الثقافية للمجتمعات؛ فأسس السياسة الخارجية لأي دولة تتشكل وفقاً لثوابت وطنية وإيديولوجية محددة؛ والإيديولوجيا بدورها تلعب دوراً حاسماً ومهماً في تماسك المجتمع، وهي أحد الأدوات الناجعة للسلطة أيضاً.
في ضوء ما تقدم، يمكننا أن نزعم أن الثقافة والسياسة يؤثران ببعضهما البعض؛ فالثقافة تؤثر في القرارات السياسية بوسائل مختلفة، كما أن القرارات والأوضاع والعلاقات السياسية تترك انعكاسات هامة في ثقافة المجتمع؛ لذلك لا غرابة في اعتبار الكثير من الباحثين أن الثقافة هي الدعامة الرابعة للدولة، بعد الاقتصاد والبيئة والفضاء الاجتماعي.
تأسيساً على الاعتبارات آنفة الذكر، تبرز أهمية (السياسة الثقافية) كأحد العناصر الرئيسية في تعزيز التآثر الثقافي في الفضاء متعدد الثقافات، وفي بلورة علاقة الدولة بالدول الأخرى؛ وذلك عبر احترام (التنوع الثقافي) باعتباره أحد عوامل وحدة المجتمع واستقراره، كما أن هذا (التنوع) هو الإرث الحضاري والروحي للإنسانية جمعاء، وليس ملكاً لمجموعة أو دولة دون أخرى.
قد يحلو للبعض ربط (السياسة الثقافية) بما يسمى (الغزو الثقافي)، إلا أن هذا الربط يتناقض مع تاريخ الجماعة البشرية وتاريخ العلاقة بين مختلف المجموعات الإثنية والدينية؛ فعند الحديث عن السياسة الثقافية فإن المسألة تؤول إلى دراسة العلاقة بين البنى الثلاث التالية: الدولة، منتجات الثقافة، الجمهور؛ فقد تستطيع أي دولة تقديم الدعم المادي لإنتاج أعمال فنية وأدبية، إلا أن المتلقي (الإنسان) هو الحكم النهائي في هذه الأعمال، باعتبار أن النفس الإنسانية هي البؤرة الحقيقة التي تجري فيها جميع التأثيرات.
في الحقيقة، لعب الاتحاد السوفيتي دوراً كبيراً في تعزيز التآثر الثقافي بين شعوب العالم، والإصدارات الفنية والأدبية، المطبوعة والمرئية والمسموعة بمختلف اللغات خير شاهد على ذلك، ولقد أدى انهياره إلى ترك فراغ كبير في هذا الجانب. وتعتبر السياسة الثقافية الروسية امتداداً للسوفيتية، بالرغم من محاولة بعض الباحثين فصل الحقبتين (ثقافياً)، إلا أن هذا الطرح يحتاج إلى مزيد من التدقيق والتمحيص والدراسة؛ فالاتحاد السوفيتي كان فضاءً جيوسياسياً متعدد الإثنيات والأديان، كذلك الأمر الآن في الاتحاد الروسي؛ فمواطنو الجمهوريات السوفيتية السابقة يتقنون اللغة الروسية، كما أن التواصل الاجتماعي بينها ما يزال مستمراً على الرغم من انفصالها سياسياً؛ لذلك لا يمكن بشكل من الأشكال الحديث عن السياسة الثقافية الروسية بمعزل عن السوفيتية.
على الصعيد السياسي، بدأت روسيا تستعيد مكانتها في العديد من الملفات الإقليمية والدولية، وخاصة ملفات منطقة الشرق الأوسط وعلى رأسها الأزمة السورية؛ ولقد لقيت هذه العودة ترحيباً كبيراً من قبل العديد من الدول العربية والشرق أوسطية، على الرغم من الخلافات السياسية حيال الأزمة السورية. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن روسيا عادت بحلةٍ قشيبةٍ، خاليةٍ من العيوب والشوائب، كالاتهام بالإلحاد الذي استثمرته الولايات المتحدة الأمريكية في تحريض الشعوب الإسلامية والعربية عليها.
لقد وضعت الأزمة السورية المنطقة والعالم كله أمام أخطار جسيمة وتحديات صعبة؛ لما رافقها من انتشار للإرهاب العابر للحدود والصراعات الإثنية والدينية؛ إذ تدفق (المجاهدون) من كافة دول العالم، وخاصة من آسيا الوسطى والقفقاز، إلى سوريا للقتال في صفوف الجماعات المسلحة، والعديد منهم جاء بناءً على قناعات دينية، وتلبية لنداءات وفتاوى أطلقها بعض الفقهاء لأسباب سياسية يعرفها الجميع؛ وهذا، في الواقع، يعكس أزمةً حقيقية في الحوار بين الثقافات، وجهلاً واضحاً للعديد من جوانب تاريخ المنطقة العربية.
استناداً لما تقدم من أسباب، واستكمالاً لدورها الحضاري، استشعرت العديد من المؤسسات الثقافية والأكاديمية والعلمية الروسية أهمية تعزيز الحوار بين الثقافات والحضارات، وتداعت إلى اتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة للحد من التوترات الإثنية والدينية، وتعزيز ثقافة الحوار وقبول الرأي الآخر.
ففي هذا العام، انطلق برنامج (الشرق الأوسط والقفقاز: خطوات نحو تعزيز الوئام والسلام بين الإثنيات والأديان)، برعاية مجموعة من المعاهد والجامعات والمؤسسات الحكومية والخاصة، ويهدف هذا البرنامج إلى:
-تعزيز الوئام والسلام بين الإثنيات والأديان في الاتحاد الروسي والشرق والأوسط؛
-تعزيز التواصل القومي والديني والإقليمي والدولي؛
-إنشاء منصات دائمة للحوار بين الإثنيات والأديان؛
-تقليص نزوع الشباب للتطرف والتعصب والإرهاب الإثني والديني؛
-تشكيل مجموعات خبيرة للمساعدة في تخفيف النزاعات العرقية والدينية؛
-حماية التنوع الثقافي في المناطق ذات التعددية القومية؛
-مراعاة حقوق المجموعات القومية-الدينية في الشرق الأوسط والقفقاز؛
-الاستفادة من النماذج الناجحة للتعايش السلمي بين المجموعات الدينية والإثنية في الشرق الأوسط والقفقاز.
في الواقع، لم يكن اختيار منطقة الشرق الأوسط والققفاز عنواناً للبرنامج عبثياً، بل هناك العديد من الأسباب التي تدعم رصانة هذا التحديد؛ أهمها:
-شهدت هذه المنطقة ولادة الحضارات البشرية الأولى والأديان الأولى؛
-منطقة تلاقي وتمازج معظم الحضارات الغربية والشرقية؛ ففي هذه المنطقة نجد آثاراً للحضارات الفارسية والإغريقية والرومانية، وآثاراً لمختلف أديان العالم؛
-منطقة هجرات متبادلة للقبائل التي استوطنتها منذ الأزمنة القديمة؛ إذ يؤكد العديد من المؤرخين أن الهجرة من القفقاز إلى شمال بلاد الرافدين وبالعكس تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد؛
-منطقة تنافس جيوسياسي بين مختلف دول العالم؛ فالقفقاز والشرق الأوسط هما جزء من فضاء البحار السبعة؛ وهي البحر المتوسط ، البحر الأسود، بحر البلطيق، بحر قزوين، الخليج العربي، بحر العرب والبحر الأحمر؛ ولهذا الفضاء أهمية جيوسياسية كبيرة لمعظم دول العالم.
وهكذا، تترابط وتتداخل مناطق الشرق الأوسط والقفقاز بالعديد من الخيوط المؤثرة على بعضها البعض؛ لذلك فإنه عند الحديث عن حدود الفضاء الإثنوسياسي لهذه المنطقة، فإننا سنجدها تختلف اختلافاً جذرياً عن الحدود السيادية للدول الحالية؛ إذ لا زالت العديد من العائلات تحتفظ بصلات القربى فيما بينها، كما لا تزال هذه الشعوب والإثنيات والطوائف تحتفظ بعاداتها وتقاليدها وتراثها رغم التباعد الزمني والجغرافي الكبيرين.
يتضمن هذا البرنامج مجموعة من النشاطات (مؤتمرات، حلقات حوارية، محاضرات)، ولقد تشرفتُ شخصياً بالاشتراك بالطاولة المستديرة التي انعقدت في معهد التراث الموسكوي في أواخر آذار الماضي، و كذلك المؤتمر الدولي حول وضع الأقليات الدينية والعرقية في المناطق متعددة القوميات في أواخر أيار الماضي؛ وسنتناول موضوع المؤتمر في بحث مستقل.
قبل الختام، ثمة ملاحظة ضرورية، لا بد من إثارتها حول جدوى مثل هذا النشاطات في عصر الإنترنت و وسائل الاتصال المتطورة؛ حيث يستطيع الجميع الاطلاع على ثقافات الآخرين من منزله! فبالرغم من أهمية هذه الملاحظة، إلا أن التواصل المباشر بين الناس يترك أثراً أكبر من التواصل عبر العالم الافتراضي، خاصة في ظل هذه الفوضى الإعلامية الكبيرة!
ختاماً؛ ينسجم هذا البرنامج مع الدور الحضاري والتاريخي الذي لعبته روسيا دائماً في تعزيز قيم الصداقة والسلام بين شعوب العالم، ونعتقد أنه سيلقى ترحيباً كبيراً من قبل الكثير من المؤسسات الثقافية والعلمية والتربوية والمنظمات الإقليمية والدولية المعنية بالتربية والثقافة والتراث؛ إذ أن التعاون في هذا الجانب الاجتماعي-الثقافي الهام سيجلب السلام والاستقرار للجميع، وليس فقط لمناطق القفقاز والشرق الأوسط.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |