|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
حسن بشير محمد نور
2018 / 3 / 7
المؤشرات الحمراء
أ.د.: حسن بشير محمد نور
انقضت سبع سنوات عجاف منذ انفصال الجنوب وها هي السنة الثامنة قد بدأت وشهدت بدايتها قمة التردي الاقتصادي وقمة المعاناة، بجميع التبعات علي الامن الاقتصادي والسلم الاجتماعي. سبع سنوات انقضت دون اعادة هيكلة للاقتصاد السوداني ودون ايجاد بدائل لتعويض ايرادات البترول، التي فقدت ودون وضع اي مسار للتنمية، وبفشل زريع لادارة الموارد التي يتغني بوفرتها العباد. البرامج التي تم وضعها الاسعافي منها والثلاثي والخماسي فشلت وتلاشت دون مردود، لكن الفشل الاعظم ليس فشل البرامج او الطاقم الاقتصادي فقط، وانما هو فشل النهج الاقتصادي الذي شكل العقيدة الاقتصادية للدولة، واقصد هنا المنهج الليبرالي الموغل في وحشيته والذي يُراجع حتي من اهله الاصليين، خاصة بعد الازمة المالية العالمية وتداعياتها. دول عظمي واقتصاديات كبري لم تتبع هذا النهج وها هي تسجل الانجاز بعد الاخر كما هو حاصل في الصين، روسيا، البرازيل وغيرها من دول البريكس وغير البريكس. لم ترهن تلك الدول حياة شعوبها لوصفات صندوق النقد الدولي ولم تتمادي في اتباع الخط الليبرالي والنيو ليبرالي في سياسات التحرير والخصخصة، دون معايير ودون توفر الشروط الاقتصادية، ودون اعداد البنية الاجتماعية التحتية لذلك النهج وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية.
هكذا سارت الامور في السودان الي ان وصلنا لموازنة العام 2018م والتي وصفناها منذ ايامها الاولي بانها الاسوأ في تاريخ السودان. لم يحدث ان وضعت موازنة عامة الاقتصاد علي حافة ان يخرج عن السيطرة تماما، بما احدثت من موجة غير مسبوقة من التضخم الي ان وصل معدل ارتفاع الاسعار الي اكثر من 127% علي الاقل في قياسات عالمية. ادي ذلك الي تهاوي سعر الصرف لدرجة جعلت المسؤولين عن السياسة النقدية يتخبطون ويتخذون قرارات مدمرة افقدت الجمهور الثقة في الجهاز المصرفي، واوقفت دوران عجلة الانتاج والاستهلاك المنهكة اصلا، بل وصل الحال الي حجب المرتبات عن اصحابها بتقييد السحب وتجفيف الصرافات الآلية، لدرجة جعلت البحث عن صراف الي عامل اصعب من البحث عن الماء والمأوي في وادي عبقر. لم يسلم حتي الخبز من بطش الموازنة التي بطشت باكياسه ايضا، ليتم رفع سعر رغيف الخبز ومن ثم تقلص وزنه مرة بعد اخري، الي ان وصل سعر رغيفة الخبز والواحدة بالوزن الذي حدد ابتداءا بسبعين جرام الي جنيهين (او اكثر بالسعر الحقيقي قياسا علي الوزن والقوة الشرائية للدخول عند رفع الدعم عن دقيق القمح) بسبب ضمور وزنها بشكل مستمر ومتفاوت من مخبز لاخر.
وصل الحال مع التردي الاقتصادي الي اشتعال جميع المؤشرات الاقتصادية الحيوية باللون الاحمر، ونقصد بذلك مؤشرات مثل مؤشر القوة الشرائية للجنيه السوداني، التي تهاوت مطيحة بالدخول النقدية الي حد الاجحاف والعوز، والنتيجة تراجع كبير في ذلك المؤشر مؤثرا بشكل خطير علي الاستهلاك العائلي وعلي مستويات المعيشة، وستكون لهذا التدهور عواقب وخيمة علي الامن الاجتماعي ومستوي الجريمة والامراض الاجتماعية. مؤشر القوة الشرائية لا يشتعل باللون الاحمر فحسب بل هو علي وشك الانفجار.
المؤشر الثاني الذي يشتعل بلون اللهب هو مؤشر النمو، فكيف لاقتصاد تتجاوز معدلات التضخم فيه نسبة المائة في المئة ان ينمو؟ وبدون توفر شروط للطاقة الانتاجية ان تعمل وبسيادة التضخم الركودي، الذي يرفع من تكاليف الانتاج ويقلل من الدخول بمتوالية هندسية. ستكون النتيجة ركود تام يتعزز بان العديد من مدخلات الانتاج في السودان تستورد من الخارج ومن اهمها مدخلات انتاج القطاع الزراعي الذي يقترب موسمه، وفي ظروف ازمة النقد الاجنبي وتجفيف مصادره واحجام قطاعات واسعة من المغتربين عن عمليات التحويل بسبب الاجراءات الامنية، في هذه الظروف من الذي يستورد وبماذا سيستورد؟ حتي امكانية استيراد دقيق القمح، الوقود والادوية اصبحت في مأزق كبير.
ما صاحب اجازة الموازنة العامة من تداعيات اشعل مؤشر الادخار الوطني باللون الاحمر مع اشارات الخطر، في اقتصاد تنعدم فيه القدرة علي الادخار لن يكون هناك تراكم رأسمالي ولا اصول تمويلية تغذي الاستثمار وسيبدأ الاقتصاد يتآكل، اي كما يقال بالعامية السودانية (يأكل من سنامه)، وفي الحقيقة ان هذا السنام قد قضت عليه او كادت السنوات العجاف السبعة. في هذه الحالة فان تراجع مكون الادخار الوطني سيلحق ضررا بليغا بالاستثمار المحلي الخاص الذي يعتبرا عنصرا انتاجيا اساسيا من مكونات الناتج المحلي الاجمالي (Ig)، والذي يؤشر لمساهمة القطاع الخاص في الانتاج.
من المؤشرات المشتعلة ايضا مؤشر الجوع والذي هو وفقا لبرنامج الغذاء العالمي ( WFP) يوجد في المنطقة الحرجة وفقا لمعايير قياس ذلك المؤشر ( Global Hunger Index)، وقد قام الصندوق فعلا بتلوين خارطة السودان باللون الاحمر.
جميع المؤشرات تشتعل باللون الاحمر ويمكنكم فقط النظر لحالة سعر صرف الجنيه السوداني مقابل النقد الاجنبي والرعب المصاحب له والاجراءات التي اتبعها بنك السودان للسيطرة علي تهاوي الجنيه، تلك الاجراءات التي وضعت مجمل الوضع الاقتصادي علي حافة الخروج عن السيطرة كما اشرنا انفا، الامر الذي ادي لتدخل الرئاسة لتغيير ذلك الوضع، في محاولة علي ما يبدو لتحرير بنك السودان المركزي من تبعات اطلاق السيولة وبالتالي تراجع جديد وربما لمستويات قياسية اعلي للسعر التبادلي للجنيه. لكن هل يقف الوضع في السودان عند هذا الحد، طبعا لا فمؤشرات السودان ونظرة العالم اليه في اسوأ حالاتها وليس ادل علي ذلك من تقرير منظمة الشفافية الدولية، التي وضعت السودان في المركز الخامس للدول الاكثر فسادا في العالم، وجميع الدول التي تأتي خلفه هي دول منكوبة بالحروب وهي سوريا، اليمن، جنوب السودان والصومال. هذا وضع مضر بمركز السودان ومؤشر سيئ فيما يتعلق بمناخ الاستثمار والمركز الاقتصادي والمالي للبلاد، ومجمل وضع السودان علي الخارطة الدولية.
المؤشرات حمراء والوضع الاقتصادي خطير والتداعيات الاقتصادية المتوقعة اكثر خطورة. كيف الخلاص من هذا المأزق؟ الحل صعب، وقد قدمنا رؤيتنا له في مقالنا السابق بعنوان (الجنيه السوداني، القاتل والمقتول والضحية)، الذي نشر بتاريخ 7 فبراير (شباط)، 2018م. اذا كانت هناك عين تري واذن تسمع فها هي الالوان الحمراء مشتعلة والاجراس تقرع لمن يهمه الامر من المكونات الحية لهذه البلاد التي طالت وتطاولت نكباتها.