|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
عماد عباس
2014 / 10 / 5
توقفت الحرب الطويلة بصورة باغتت الجميع حتى اولئك الذين كانوا يرفعون شعار ايقافها. كان هذا إيذاناً ببدء حصار من نوع جديد لا عهد للبيشمركة والانصار ولا لسكان المناطق المحرمة به من قبل. هكذا يأخذنا كريم كطافة مباشرة الى حكاية الفصل الأخير من سيرة الانصار الشيوعيين في منطقة سهل نينوى والجبال المطلة عايها. المنطقة التي كان الحصار فيها مطبقاً تماماً بسبب بعدها عن الحدود.
إلا ان حصارا من الداخل كان يضغط على الصدور حتى قبل ان يبدأ الجيش بلف خيوطه العنكبوتية بزمن يطول او يقصر، فيما يسميه الكاتب "احتصارا" وهي لفظة تتكرر كثيرا في الرواية.
فالمسوْول الاول ابو منيب محاصر برفض غير معلن من قبل الكوادر الحزبية والعسكرية للعمل معه. وآمر السرية حاتم يحاصره شعور بنضوب طاقته على المواصلة بعد ان شوشته اسئلة صديقه ومستشاره السياسي المثقف الذي هزته التغييرات الحاصلة في الاتحاد السوفيتي وجعلته يفقد الثقة بكل شئ وهو الشاب المترف فيقرر ترك المركب السائر الى الغرق والنجاة بنفسه.
وفوْاد الفنان الذي يبدو مهوماً في عالم بعيد يستمد منه الالهام للوحاته وتخطيطاته الجميلة فاذا به يلطق احجيات تلخص واقعهم بأقل الكلمات بما يشبه النبوءة. انه يحلم بالوصول الى البصرة وليس بالعودة الى ايطاليا فينتهي به الأمر الى الانتحار مرتين، مرة عندما يحرق لوحاته التي لم يعد قادراً على حملها وأخرى عندما يطلق النار على رأسه لكي لا يقع في ايدي الجنود.
وشيرين الجميلة المنافحة بشراسة عن كرامتها امام رجال السلطة تتلقى طعنة من أقرب الناس ويتحول الحمل الذي كان حلماً الى كابوس يسمم حياتها. وحسام وروزا الصغيران تحاصر حبهما الاديان والحرب وشكوك الكبار. وقبل هولاء جميعاً وبعدهم كانت محنة انسداد طريق الخلاص لما يقارب المئتين من أفراد عوائلهم وظل السوْال عمن يتحمل مسوْولية التأخير معلقاً وانتهت المحنة بفاجعة أليمة لن تمحو ذكراها السنين.
رغم الطابع الملحمي للرواية فان الكاتب لا يقدم ابطالاً ايجابيين يصارعون الشر الكلي كما هي العادة في النصوص الملحمية بل كان أمينا في سرده لسيرة الفرد-الجماعة الانصارية، وهي سيرة ما زالت مجهولة للناس الى حد كبير، فعرضها بكل أخطاءها وعثراتها وشكوكها مع انه حافظ على حبه لشخصياته دون ميل لتصفية الحسابات يقع فيه أحياناً من يسجلون التاريخ. فحتى إدانة مواقف الضعف او النفاق او الأنانية كان فيها كثير من محاولة الفهم ومن التسامح.
أنها حكاية شعب محب للحرية يختار طريق المقاومة من جديد رغم تزعزع ثقته بقيادات باعته اكثر من مرة، وهي حكاية الكتل البشرية المحاصرة التي تشعر ان كل العالم قد تخلى عنها، بحيث يخيل للقارئ احياناً ان الحديث يدور عما يحصل اليوم بعد أكثر من ربع قرن من زمن الرواية حيث مازالت المأساة تعيد انتاج نفسها ومازالت ذات الأسئلة الحارقة تتردد على الشفاه.
البطل في الرواية اولاً وأخيراً هو هذه الجماعة من الشباب والشابات المتحدرين من كل أطياف الشعب العراقي الذين تخلوا عن دعة الحياة في المدن او في اوروبا وأختاروا حياة بدائية في جبل قصي تحدوهم أحلام غامضة بعالم تسوده العدالة والحرية وعلاقات انسانية منزهة من الأغراض فحاولوا إقامة جمهوريتهم المثالية في المواقع الجبلية التي حلوا فيها حيث سقطت المقامات الاجتماعية الزائفة وقامت صداقات اكثر حميمية من الصداقة وكان النقد – حتى القاسي منه على طريقة رزوقي - فعلاً يومياً ضرورياً لضمان السلامة. أنها "مسيرتهم التي بدأوها بكثير من الحماس وقليل من التدبر قبل عقد من السنين". وحتى اذا بدت مثاليتهم ساذجة في عيون الفلاحين او البيشمركة الاخرين وربما حتى في عين القارئ الآن فإن مثالية دون كيشوت كانت ساذجة أيضاً وهنا بالذات تكمن أصالتها وسموها.
القصة أيضاً قطعة من حياة الكاتب الشخصية وربما وفرت له فرصة فريدة لمكاشفة الجماعة بحقيقة ما حصل آنذاك على لسان حاتم الذي يعذبه مجرد الشك بمسوْوليته عن النهاية المأساوية لصديقه الحميم. وليس هناك ما هو أكثر تعذيباً من عدم القدرة على الرد على شكوك لم تتم المجاهرة بها فقد تكون اطلقت خلف ظهرك كما هي العادة وقد تكون الأحداث تجاوزتها الآن الا اننا نرى ان جمرتها مازالت تحرق الكاتب وربما تقدم تفسيرا لقسوته بعض الشئ على حاتم آمر السرية المبادر والشجاع فيظهر في الرواية متردداً تعذبه الشكوك.
لقد نجح الكاتب في ان يقدم لنا شخصيات نابضة بالحياة مثل رزوقي وسهراب وشيرين وفوْاد وأبو منيب الا ان كثرة الشخصيات الثانوية (حوالي اربعين اسماً) والتوغل الطويل في دروب فرعية بعيدة عن المسار الرئيسي للحكاية قد يشتت انتباه القارئ. يمكن الافتراض ان رأس الكاتب، اي كاتب، ملئ بحكايات فريدة وأحياناً مسلية كل واحدة منها تمسك بتلابيبه عند الكتابة وتلح عليه "إحكيني، إحكيني". لكن السوْال هو هل يخدم ذلك سير الحكاية الرئيسية التي هي قلب القصة النابض. فقصة السجناء مثلاً ضعيفة المصداقية تماماً وهي تبدأ بمشهد درامي حيث يركع السجناء على ركبهم عارضين صدورهم للرصاص مما يخلق لدى القارئ توقعات بحصول شئ بنفس المستوى لكنها تنتهي بشكل غامض وعادي جداً مما يبعث على الاعتقاد بان هذه الحادثة لم تكن الا مدخلاً الى حكاية وافي والتحاقه وسجنه وهي قصة حقيقية كان يمكن للكاتب ان يعالجها في قصة قصيرة او بأي شكل آخر مستقل عن هذه الرواية لأنها لم تضف شيئاً سوى التطويل وتشتيت الانتباه عن مجرى الأحداث.
وعلى ذكر التصاعد الدرامي، فقد نجح كريم في ان يرسم لنا لوحة شاملة ومعبرة عن المأساة كان يمكن ببعض الضربات الاضافية بالريشة هنا او هناك ان تكون أكثر تأثيراً في النفوس. فمثلاً لحظة سماع الانصار قصة اللحظات الاخيرة لكمال وهاوار وبقية مفرزة عقرة. لا بد انها لحظة صدمة وحزن شامل للأنصار السامعين وللقاريْ أيضاً على الاعدام المأساوي للأبطال. انهم اصدقاء اعزاء للبعض لا بد ان تطوف صورهم وهم يتكومون امام الرصاص في الاذهان، ولا بد ان يفكر السامع بشكل غريزي: هكذا سيكون مصيرنا نحن ايضا قريبا. بدلا من هذا كله يجري الحديث عن شرب البول فيتبدد كل جلال اللحظة. والأمر نفسه ينطبق على مشهد حريق مراني، القاعدة الوحيدة للأنصار على ما أعلم التي صمدت ثماني سنوات دون تبديل. كانت تستحق وقفة أطول وتشييعها بما تستحقه من اهتمام واستغلالها كلحظة ممتازة لنوع من الفلاش باك عن القاعدة في أيام عزها لكن بدلاً عن ذلك يجري تكرار ما سبق الحديث عنه في مكان اخر حول مشاعر القلاحين تجاه قراهم المحروقة.
لغة الرواية بسيطة وسلسة يحسب لها انها لم تحاول اللجوء الى صياغات لغوية مفتعلة او حيل اسلوبية، ويحسب عليها كثرة الاخطاء. وعندما ارسل لي الصديق كريم المسودة الاخيرة المعدة للطبع فقد تبرعت لتصحيحها املائياً وقواعدياً وقدمت له بعض الملاحظات بشأن اسلوب صياغة الجملة الذي اتسم هنا وهناك بالركاكة كأن تقول مثلاً "لذا باتوا أمام الفلاحين ليسوا بذات القوة التي كانوا عليها" ثلاثة من أخوات كان في سطر واحد شئ قبيح. أو تكرار كلمة "الكائن" للتعبير عن المكان بمعنى يقع، وهي لفظة يمكن حذفها غالباً دون اخلال بالمعنى او التنويع عليها بأفعال من قبيل يقوم ويمتد وما اليها. او الملاحظة بشان كتابة كردستان كما يكتبها الاكراد بالواو بدل الضمة غير الموجودة في اللغة الكردية فاذا تقبلنا ذلك بإعتباره خطأً شائعاً لا يمكن ان نتقبل كتابة كلمة كوردي بهذا الشكل الذي يخدش العين والاذن. وهناك تكرار لنفس الفكرة مرات عديدة مثل الحديث عن المسير في الجبل الذي يحتم عليك اتباع مسالك ونياسم معينة تتكرر هذه الفكرة عشرين مرة بحيث تسقط صفة الامتاع والمعلومة الجديدة للقارئ. وملاحظات اخرى تفصيلية لا مكان لها هنا ماعدا خطأ جغرافي يستحق الاشارة لتعلقه بصلب القصة وهو القول ان امتداد جبل كاره من موقع كافيا الى طاجيكا لا يتجاوز عشرة كيلومترات وهو تقدير غريب لأن هذه المسافة لا تقل عن اربعين كيلومتراً حتى اذا اخذناها كخط مستقيم في الفضاء. لكن الكاتب على كل حال لم يكن في وارد إعادة النظر في نص منجز انتهى منه منذ زمن وهو شعور أتفهمه تماماً كما ان ملاحظاتي لا يمكن القياس عليها لأنني عشت التجربة حتى اللحظة ما قبل الاخيرة اي قبل اطباق الحصار وشاءت الظروف ان انسحب مع مجموعة اخرى بعد ان انقطع طريق العودة الى مراني. ولهذا فشلت كل محاولاتي لوضع نفسي في مكان القارئ العادي وتخيل كيف يكون تلقيه للرواية.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |