|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
حسن بشير محمد نور
2013 / 5 / 21
كلما تطورت المجتمعات أصبحت أكثر تعقيدا، حيث يرتفع الوعي الاجتماعي ومعه الطلب علي المعرفة والخدمات الأكثر رقيا واعلي جودة. نجد المجتمعات المتقدمة اقتصاديا واجتماعيا أكثر إدراكا للمعرفة والمجهود الذهني والإنتاج الفكري وبالتالي يتم تقييم تلك الأعمال بما تستحق. المعرفة تراكمية فهي لا تنتج عن فراغ ولا يولد بها الشخص ولا تورث. لتحقيق الأهداف الخاصة بالمعرفة والإنتاج الفكري تقام المدارس والجامعات وتنشأ المعاهد ومراكز التدريب ورفع القدرات وغيرها من وسائل وأدوات المعارف وتطوير الإنتاج الفكري والإبداعي في إي مجال من مجالات العمل والإنتاج. من هنا نجد ان مفهوم العمل نفسه يتغير ويتطور مع تطور المجتمعات.
من نوعية الجدل أعلاه يمكن الخروج بعدة أسئلة حول جدوى التعليم وعلاقته بالعمل وهل الاستثمار في التعليم مجدي ماديا واجتماعيا؟ بالطبع المقصود ليس إقامة المدارس والجامعات الخاصة وجعل أولياء الأمور او الدارسين يتحملون تكلفة التعليم، إنما المقصود هو الإنفاق العام علي الاستثمار في التعليم وفي رأس المال البشري قياسا علي التكاليف والأرباح الاجتماعية لعنصر العمل، آذ أن الانتفاع بالتعليم لا يخص الشخص المتعلم وحده وإنما يطال المجتمع كله، وكذلك التكاليف الناتجة عن عدم التعليم او نقص الكفاءة باعتبارها تكاليف اجتماعية. إذن هل الاستثمار في التعليم مجدي للأفراد أم للمجتمع؟ هل الأنفاق علي التعليم من قبل الأفراد يحقق لهم عائدا مجزيا في المستقبل؟
يورد "رونالد ايرنبرج و روبرت سميث" في مؤلفهما اقتصاد العمل الحديث، النظرية والسياسة العامة" ( Modern Labor Economics: Theory & Public Policy, Addison Wesley Higher Education, 2000 )، يوردان مقاربة تبدو غريبة ، عند تعرضهما للاستثمار في رأس المالي البشري (Investments in Human Capital: Education and Training )، يناقشان هنا التعليم وكسب العمل و(التعويض في حالة القتل الخطأ)، قد يتبادر إلي الذهن سؤال مثل : ما علاقة القتل بالعمل؟ الإجابة عند المؤلفان تتلخص في (كيف تحدد المحكمة حجم التعويض اللازم في خالة القتل الخطأ؟) يقول الكاتبان بالاستناد الي الواقع الأمريكي .. (في حالات كثيرة تسمح الولاية لآسرة المتوفى بتغريم الجاني مبلغ يساوي القيمة الحالية (لاحظوا الحالية فقط) للكسب الناتج عن عمل الشخص المتوفى للسنوات التي كان من المفترض ان يقضيها في العمل. تعتمد الإجراءات المتبعة في تحديد قيمة التعويض اعتمادا مباشرا علي المستوي التعليمي للشخص المتوفى والتنبؤ بالدخل الذي كان من المفترض ان يحصل عليه في المستقبل..) بعد ذلك يتم توضيح هذه الحالة بمثال عملي كان احد المؤلفين طرفا فيه وهي حالة طالب متخرج من الثانوية صدمه سائق مخمور.
السبب في الرجوع إلي ذلك المصدر المحترم (وهو بالمناسبة قد ترجم إلي العربية من دار المريخ بواسطة د. سلطان بن محمد السلطان، جامعة الملك سعود ، في طبعة سابقة للكتاب،بعنوان "اقتصاديات العمل"، غير التي اشرنا اليها باللغة الانجليزية)، يرجع ذلك إلي التدليل علي أهمية التعليم والاستثمار في المعرفة والأهمية التراكمية لرأس المال البشري. نريد الوصول إلي انه كلما تطورت المجتمعات كلما زاد اهتمامها بمثل ذلك الاستثمار وكلما ارتفع تقييمها له "حتى في حالة الكسب الرأسمالي البحت الذي يضع الربح فوق كل اعتبار"، وبالعكس فان المجتمعات التي لا تعير التعليم والمعرفة والتأهيل اهتماما هي مجتمعات متخلفة تعيش في عصر انحطاطها الخاص، بل نجد بعض تلك المجتمعات تستمتع بانحطاطها ذاك، ترقص علي نغماته وتحوله إلي إنتاج يروج له ويدر الملايين من الأرباح، كما هو الحال في الإنتاج الفني الهابط والبرامج المنحطة التي تعود بالثراء علي منتجيها والمروجين لها.
الوضع يزداد تعقيدا عندما تساهم مؤسسات علمية مثل المؤسسات الأكاديمية أو ما تسمي بمراكز ومعاهد البحوث والدراسات في ازدراء التعليم والعمل الذهني وعندما تظهر ذلك الازدراء في مكافآت الأعمال الفكرية والبحثية وللتأكد مما نقول راجعوا استحقاقات الأعمال البحثية والمساهمات الفكرية ومردود الإشراف علي الدراسات العليا وتحكيمها ومناقشتها للتأكد عن إي درجات من الازدراء نتحدث. من المعروف أن بعض البلدان تتعمد إفقار الفئات المتعلمة عالية التأهيل التي لا تنتمي لبيوت الطاعة وجوقات المروجين ومهندسي الديكور السياسي وهي مدركة أن أفضل وسيلة للازدراء وامتهان الكرامة هي الإفقار المتعمد وجعل مثل أولئك الناس من أكاديميين ومفكرين وعلماء يتسولون حقوقهم أو ينتظرونها، علي قلتها بالأسابيع والشهور، منها الذي يأتي وكثير منها يضيع. ومن أفضل البلدان التي يمكن أن تأخذ كمثال لهذه الحالة هي السودان. ومن اكبر الكوارث غياب الأداة التي تمكن من الدفاع الجماعي عن تلك الحقوق.
جانب أخر من الازدراء هو تولي المناصب الإدارية، في حالات كثيرة بغير كفاءة او استحقاق وتجري الأموال والامتيازات بين أيدي اولئك الإداريين بدون حساب وهم بالتالي يزدرون تلك المبالغ الزهيدة التي تعطي لأصحاب الاستحقاق الأصيل الناتج عن جهد وكد وراءه معارف تمت مراكمتها علي مدار السنين وصرفت فيها أمولا من خزينة الشعب الذي يدفع من قوته اليومي وعلي حساب تعليم أبنائه الآخرين علي هامش التعليم.
يشترك في ذلك الازدراء كثير من المؤسسات الإعلامية بمختلف أنواعها ونوعية مالكيها ورؤوس أموالها (عامة وخاصة ومزدوجة)، فكثير منها لا تكتفي بهضم حقوق العاملين فيها او المتعاونين معها بل تخل بشروط التعاقد والتعامل مع الخبراء والمستضافين وتستخدم ازدواجية المعايير ومناهج (الخيار والفقوس). يضاف لذلك - وفي حالات لا يستهان بها – سوء اختيار غالبية القنوات الفضائية الأجنبية "العربية وغير العربية" لمراسليها، الذين لا يهتمون بنوعية وتخصصية قاعدة عملائهم وخبرائهم "أو لا يعرفون"، لدرجة جعلت تلك القنوات تستعين بالأجانب للحديث عن السودان في كل صغيرة وكبيرة، حتى عن إنتاجية موسم البصل وارتفاع درجات الحرارة في شهر رمضان.
من هنا تأتي ضرورة أن يلتفت أهل المهنة و(الذين يعملون) في الإعلام إلي الجوانب المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية في جميع جوانبها وان يهتموا ويطالبوا بالتدريب والتأهيل المهني ورفع قدراتهم كحق لهم وليس منحة، لان تلك الحقوق والواجبات تلزم المؤسسات الإعلامية ووسائط الميديا بالتقيد بها بحكم القانون. والحلقة هنا مفرغة بالطبع إذ أن الكثير من المؤسسات الإعلامية المحترمة التي تراعي الجوانب المهنية تحارب وتقيد ويتم التضييق عليها إلي أن تصبح مهددة في وجودها.لمراجعة مثل هذا الموضوع تجدر الاشارة إلي تجربة ال (B.B.C)، كيف نمت وكيف تطورت؟ وهي الآن لديها أكاديمية ومعهد للصحافة خاصان بها يمكن الوصول إليهما عبر (http://www.bbc.co.uk/academy/college)، للذين لا يعرفون هذه المعلومة، خاصة من صغار الصحفيين والإعلاميين المتدربين، مع العلم ان كثيرين منهم يأتون من خارج كليات الإعلام.
مع (أمركة أو دولرة) الأسعار في السودان كنا نأمل أن تتم (أمركة) أسعار العمل الذهني والمجهود العلمي الأكاديمي بالتحديد (أسوة، مثلا بأسعار البيض)، إلا أن ذلك لم ولن يحدث، إذ ظلت أسعار عمل الباحثين والأساتذة الجامعيين كما هي قبل تدهور قيمة الجنيه السوداني. مثلا هناك اجر يقدر ب 5000 جنيه عندما كان الدولار الأمريكي يعادل 2 جنيه سوداني وظل هذا الأجر ثابتا كما هو بعد أن أصبح الدولار يقارب ال 7 جنيهات سودانية، إي لم تطاله (أمركة) الأسعار التي شملت جميع السلع والخدمات تقريبا بما فيها عدادات الفنانين (فن الغناء خاصة الحفلات) بما في ذلك (المقلدين) الذين لا يتقيدون بملكية فكرية لمؤلف او ملحن أو مغن مجيد أو حتى ما يعرف في قانون الملكية الفكرية (بالحقوق المجاورة). لغير المتابعين نقصد ب(أمركة أو دولرة) الأسعار في السودان أن الدولار الأمريكي اصبح هو وحدة الحساب ومقياس القيم بعد أن فقد الجنيه السوداني عددا من وظائفه المهمة (مقياس للقيم، وحدة للحساب ، مخزن للقيمة ووسيلة للتراكم الرأسمالي)، أصبح الدولار يقوم بتلك الوظائف بدلا عن الجنيه اللهم إلا فيما يتعلق بحقوق البحث والتأليف والكثير من ضروب العمل الفكري والذهني المزدري.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |