الحكومة والعمل والعمال

حسن بشير محمد نور
2013 / 5 / 2


بمناسبة يوم العمال العالمي علي المشتغلين في مجال الإنتاج وأسواق العمل مراجعة العلاقة بين الحكومة، سوق العمل ووضع العمال وفقا للمعايير المعروفة لعنصر العمل، بوصفه العامل الأهم من بين عوامل الإنتاج المتمثلة في العمل نفسه، رأس المال، الأرض والتنظيم. عندها سيكتشفون العجب العجاب وسيدركون أسباب تخلفنا وتدهور حالنا وتضعضعها بين الأمم.
تفرد العمل بخاصية اختلافه عن عوامل الإنتاج الاخري، ناتجة عن ارتباطه مباشرة بالإنسان ، بحكم انه – نظريا وأخلاقيا- غير قابل للبيع والشراء ، إضافة لتأثر الإنسان، الحامل لهذا العنصر ببيئة العمل. من هنا تضاف الجوانب غير النقدية الي مكونات سوق العمل الاخري مثل البيئة الصحية، العوامل الإدارية، المؤسسات والتشريعات، المهارات وتكنولوجيا الإنتاج، نظام الحقوق الجارية والمكتسبة لتصبح بيئة كاملة مواتية او غير مواتية للعمل حتى يصبح منتجا وكفؤا ومستمرا.
يمكن البدء بسؤال من أين تأتي العمالة؟ هنا سنجد في هذه الإجابة ان مخرجات التعليم، التأهيل وبناء القدرات بائسة ومتخلفة سواء ان كانت في التعليم العام، العالي والفني وسنجد ان مشاكل التدريب وبناء القدرات تشكل مرضا مزمنا في سوق العمل السوداني بقطاعيه العام والخاص. يرتبط هذا الوضع بفرص العمل والبطالة التي أصبحت كارثة قومية بانتشارها بشكل كثيف وسط الشباب بما فيهم خريجي الجامعات وحملة الدرجات العلمية العليا التي امتلأت بها البلاد وأصبحت ظاهرة فريدة تستحق البحث العميق والتقصي من ناحية انتشارها وارتفاع الطلب عليها دون ان تكون لها جدوى اقتصادية أو معرفية تذكر.
حال العمال المادي يغني عن السؤال، إذ ان الفقر هو المتسيد في أوساطهم، ما عدا استثناءات لا يشملها الحساب مثل العاملين في مؤسسات ذات أجور مرتفعة الذين يتمتعون بمزايا نادرة في الدخل، الامتيازات تصل إلي حد التغذية اليومية من أفخم المطاعم بكافة العناصر الغذائية ولا تنتهي بالسفر الي الخارج والاستراحة في المنتجعات والفنادق مع أسرهم. مثل هذه الأعمال لا يصل إليها إلا أصحاب الحظوة في جو انتشار المحاباة والموالاة والفساد السائد بالبلاد.هذا إضافة لامتياز من يتم تنصيبهم في مواقع معينة في المؤسسات العامة الذين يحصلون علي اعلي الامتيازات في السكن والحوافز و(السلفيات، منها من يستقطع ومنها من يذهب في شكل هبات أو مال هالك) المليونية والسيارات الفارهة من المال العام التي تملك بعد حين وبثمن بخس.
الخدمة المدنية في الحضيض ، قوانين العمل مشوهة من حيث الحقوق ، الواجبات ومكتسبات الخدمة والتقاعد. هياكل الأجور مليئة المفارقات التي يمكن ان تشكل سبقا عالميا لا مثيل له، إذ يكفي ان نشير إلي أن موظف صغير بدون مهام واضحة توكل إليه، في مؤسسات وشركات عامة (أو مفترض أن تكون) أصحاب الحظوة، يتمتع باجر ومزايا تفوق ما يحصل عليه عشرة أساتذة جامعيين من الذين يهربون الآن بالعشرات ويتكومون في الشوارع في انتظار الدخول الي مكاتب الوكالات الخاصة لمعاينة قد تأتي فيها (ليلة قدرهم).
لا يمكن الحديث عن أداء لسوق عمل في السودان يمكن فيه متابعة ورصد سلوك أصحاب العمل والعمال في الاستجابات الخاصة بالأجور، حوافز العمل، الأسعار، الأرباح، والجوانب غير النقدية المرتبطة ببيئة العمل بشكل يحث الأفراد علي العمل ويحدد أساليب اختيارهم المهني. نتحدث هنا بالمنطق الاقتصادي الخاص بدوافع السلوك غير الشخصية التي تنطبق علي مجموعات كبيرة من الناس وليس عن فرص العمل والحوافز ذات الطبيعة الشخصية التي لا تمت بصلة لمعايير او قوانين او مؤسسية. في هذا الحال لا يمكن الحكم بموضوعية ورشد علي ألعلاقة بين العمل والأجور، فرص العمل والتفاعل في الاختيار ونمط الإنتاج، ولا عن كيفية تأثير الحوافز العامة في سوق العمل علي اختيار الوظيفة والعلاقة بين العمل والاستثمار في التعليم والتدريب، ناهيك عن الحديث عن دور الاتحادات المهنية والنقابية.
أما عن النقابات والاتحادات المهنية التي من المفترض ان تكون الحارسة والراعية للمهنة بحقوقها وكفاءتها ومردودها، فهذه قد تم تدميرها ثم تسيسها وإدخالها في منظومة اقرب الي التشكيلات المافيوية. هنا أصبح المتحكم هو المسئول والمدير والحاكم، له مطلق السيادة في ان يتصرف في العمل والعمال كما يشاء، دون الخوف من مراجعة أو حساب. كيف لا يحدث ذلك وقد اختلط حابل المهن بنابلها. وضاعت الحقوق وأضاعت الكفاءة والانضباط في العمل معها.
جاءت الخصخصة وسياسات التحرير الاقتصادي الملتزمة بفكر الليبرالية الجديدة لتكمل المشهد في السودان وتربط العلاقة بين المكونات الحكومية والعمل والعمال لتتشكل صورة من الفوضى الشاملة. ابرز ملامح تلك الفوضى هي الجوانب السائدة في نظم العمل التي اشرنا إليها، إضافة إلي نظم التمويل والاستثمار التي اختلطت أوراقها وتناثرت بين الأزمات المطبقة وشهوة جمع المال واستقطاب المستثمرين دون رؤية وبين المكاسب والإطماع الشخصية. في هذا الوضع تم القضاء علي أهم المشروعات العامة التي تشكل ركائز التنمية الاقتصادية في السودان، كما أنها كانت دعامات وروافع اقتصادية واجتماعية مثل السكة الحديد، النقل الميكانيكي والنهري، سودان ايرويز، والعمود الفقري للاقتصاد السوداني مشروع الجزيرة. تلك المشروعات والمؤسسات، بتنظيمها الدقيق، إضافة لدورها الاقتصادي فقد كانت تلعب دورا تربويا في ممارسة العمل والارتقاء به وإضافة لحفاظها علي حقوق العمل فقد كانت ترعي الحق العام ولا تفرط فيه كما يحدث اليوم، كانت لها قيم إنسانية ووطنية متكاملة.
عندما أزاح البترول جميع القطاعات المنتجة تقريبا منذ نهاية تسعينيات القرن العشرين، لم يتم استخدام عائداته في تنمية وتطوير قطاعات الإنتاج الحقيقي لتولد فرص للعمل وترفع من مستويات الدخول ومكاسب الأعمال بل تم تدمير القطاع الصناعي وإهمال الزراعة، وعندما انفصل الجنوب وذهب البترول انكشف حال الاقتصاد السودان وكان العمل هو اكبر المتضررين. يضاف إلي ذلك الإمعان في إثقال كاهل العامل بالضرائب والرسوم التي لا تقيدها طاقة ولا تحدها إمكانيات من تفرض عليه ولا تعبأ بمستوي للدخل أو المعيشة ولا تهمها معدلات تضخم، مما حول المواطن صاحب الدخل المحدود الي اكبر عدو للحكومة تقوم بمطاردته بسيف الجبايات والإتاوات وغلاء الاسعار، في كل خطوة يخطوها وفي إي حاجة له كبرت أو صغرت ومهما كانت ضرورتها الحياتية.
في ظل الجدل الدائر حول إعادة تشكيل الدولة السودانية علي أسس توافقية جديدة يجب البحث عن المعايير الحاكمة لمجمل السياسات الخاصة بالعمل وتأثير السياسات الاجتماعية بما فيها التشريعات الأجور، المرتبات وقواعد إصلاح المعاشات وحقوق ما بعد الخدمة، قوانين الصحة والسلامة المهنية التقاعد، التشريعات المنظمة للاتحادات والنقابات المهنية، ضرائب الدخل والدخل الشخصي ثم إصلاح النظام الضريبي في مجمله، تأمينات العمل والبطالة والقوانين المناهضة للتفرقة حسب النوع او العزل السياسي وغيرها، محاربة الفساد في الخدمة المدنية العامة والخاصة واصطلاحها وتطهيرها من المحاباة والمحسوبية والعودة بها ألي معايير الأداء، الكفاءة والانضباط الذي عرفت به تاريخيا.
السؤال هو من الذي يمتلك برنامج يتضمن تلك الجوانب حتى يقوم بالبحث فيها وجعلها أهداف يسعي لتحقيها ضمن برامج متكامل في السياسة والاقتصاد والاجتماع؟ إذا كان هناك حزب يتوفر علي هذه المتطلبات فليظهرها في العلن ليتم حولها النقاش وعبرها الاستقطاب في العمل العام من اجل مستقبل افصل للطبقة العاملة وغيرها من جمهور العاملين الذين يعانون من الفقر وهضم الحقوق.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي