سيولُ ربيع الشمال: 25

دلور ميقري
2023 / 6 / 12

مع ذلك، قررَ أن يذهبَ مساءً إلى الملهى طالما أنّ شعوراً آخر، أكثر شؤماً، ألحّ عليه مذ إفتراقه عن جوليا بمركز المدينة. هذا الشعور، دفعه إلى التخلّي عن فكرة حمل بعض ثيابه الجديدة إلى شقتها. كانَ قد أدركَ سلفاً كذبها بشأن مفتاح الشقة، لأنه لحظَ قبيل ذهابهما إلى الفيلا كيف دسّت في حقيبة يدها حمالةَ المفاتيح، المُزيّنة بمجسّم دقيق لكولسيوم روما. أجراسُ الكاتدرائية، كانت قد قُرعت منذ نحو نصف ساعة، لما فوجئ بأحدهم يطرقُ بابَ الحجرة. كانَ نورو، المُرتدي سترةً أنيقة والمُضمّخ بالعطر؛ ما يشي بعزمه، بدَوره، على الذهاب إلى الملهى. رائحة فمه، كانت تدلّ أيضاً على أنه شربَ بضعة أقداح من الويسكي. ما لبثَ أن همدَ على الكرسيّ الوحيد، ومن ثم أخرجَ سيجارة لف. أطلقَ سحبةً من الدخان، وهوَ يسأل المُضيف عن سبب إنقطاعه عن زيارته وحتى عن مكالمته هاتفياً: " يبدو أنك الآخرُ، قد ضيّعتَ رشدكَ عقبَ تعرّفك على حسناء سويدية "، قالها في ضيق وتبرّم. فَهِمَ دارين أن مصدرَ المعلومة، ولا شك، هوَ نيازي. بالرغم من ذلك، فإنّ حضورَ ملّاك الأراضي قد خفّفَ عن نفسه بعض الشيء.
سألَ الضيفَ، مُناكداً: " وأنتَ؟ ما هيَ أخبارُ حصاد موسمك الزراعيّ، بما أنّ موسمك النسائيّ بائرٌ قطعاً؟ ". كانَ الحديثُ المُفضّل لمواطني نورو، المقيمين في هذا البلد، هوَ أمطارُ الموسم ومن ثم غلّة الحصاد. أطلقَ نورو ضحكة حزينة، وردّ بالقول فيما يُنفث من فمه طيفَ الدخان: " يبدو أنني سأذهبُ بنفسي قريباً، لأطمئن على موسمي الزراعي "
" هل حصلتَ على جوابٍ سلبيّ، بخصوص الإقامة؟ "، سأله دارين بنبرة جدّية. هزّ الآخرُ رأسَهُ نفياً: " أبداً ". ثم قالَ بلهجة ثقيلة على قدْر همومه: " لكنّ ديوني زادت وموضوع الإقامة قد يستغرق أعواماً أخرى "
" أليسَ في وسعكَ تسديد ديونك، وذلك من مردود موسمك؟ "
" لن يكونَ المردودُ مُطابقاً لخيرات الموسم، إذا لم أكن بنفسي أديرُ كلّ شيءٍ هناك "
" معقول هذا الكلام، وعندك هناك عدّة أشقاء؟ "
" كلّ منهم، مهتمٌ بأموره. بل إنهم هُم مَن يلحّون عليّ طوال الوقت، بضرورة ترك السويد والعودة إلى البلد "، نفخَ نورو بقنوط. ثم أستدركَ، مُغيّراً قليلاً من نبرته: " دَعَنا الآنَ من هذه الهموم، وأخبرني أينَ سنسهرُ الليلة؟ ". فكّرَ دارين لبعض الوقت، وقد أنتقلت الهواجسُ إليه. كانَ يخشى أن يرافقه صديقه إلى " فلوستريت "، فيرى ثمة جوليا بمسلكٍ غير لائق. على ذلك، أجابَ مُتكلّفاً الدعابة: " أرى أن نسهرَ في ألكسيس، لأنك قد تجدُ فيه ذوات الأم أربعة وأربعين ممن قد يقبلنَ بالرقص معك ".
أرتفعت قهقهة نورو: " من حقك أن تسخر، أيها الشامي، لأن ثمة حسناء ستفتح لك رجليها عقبَ العودة من الملهى! ". على الأثر، ذهبا مشياً إلى ذلك المكان، وكانَ الجوّ ما فتأ دافئاً مع سماءٍ صافية مُنجمة. الملهى، الكائن في نفس صف الأبنية مع المكتبة العامة، كانَ مدخله خالٍ من الزحام بسبب وصولهما في وقتٍ مُبكر. الشيءُ الإيجابيّ الآخرُ، فكّرَ دارين، أنه لن يُصادف نيازي في الملهى. كأنما رفيقُ السهرة، كانَ يفكّرُ أيضاً بنفس الشخص. فبعد برهةٍ من الإلتحاق بطاولة مناسبة، قريبة من دائرة الرقص، قالَ هذا لدارين في نبرةٍ مُبيّتة وكانت الموسيقى ما زالت هادئة: " سمعتُ أنّ ثمة مشروعاً، لربطك بالزواج من إحداهن؟ ". أدركَ الآخرُ، أنّ نيازي مصدرُ هذه المعلومة أيضاً. لكنه أرتأى المُراوغة، حينما أجابَ: " أنا وصديقتي لا نفكّرُ بعقد قراننا، حالياً "
" أتمكرُ عليّ، يا هذا! لقد سألتكَ عن موضوعٍ مُحدد، وأنت تعلمُ ما هوَ؟ "
" في حقيقة الحال، لا أعلمُ شيئاً عما تتكلّم؟ "
" أتكلمُ عن تلك الفتاة اللبنانية، التي أرادوا جلبها للسويد عن طريق مشروع زواج مع رمّو "، كشفَ نورو ما وراءَ الأكمة مع ضحكة ساخرة. أصرّ دارين على الإنكار، طالما أنّ أحداً غير ميديا لم يتكلم معه عن الموضوع: " وما شأني أنا، لو فشل مشروع زواج رمّو بالفتاة؟ "
" تتكلّمُ بصدق، حقاً؟ "
" أجل، وأرجوك أيضاً أن تخبرني بمعلوماتك عن ربطهم لشخصي بموضوع تلك الفتاة "
" يُقال أنّ السيّد حيدر صارَ يستقبلك في بيته لأنه وجدك زوجاً مناسباً للفتاة، وأنّ هذه رضيت بك عقبَ مشاهدتها لصورتك "
" صورتي وصلت إلى بيروت؟ إنها حكاية ظريفة! "، علّقَ دارين بنبرة مُستغربة وكان شعوره صادقا هذه المرة. ذلك أنّ المعلومة الأخيرة، كانت بالفعل شيئاً جديداً: في هذه الحالة، فكّرَ دارين، فإنّ مصدر المعلومة هوَ بالتأكيد رمّو وليسَ نيازي.
وهذا نورو، يقرّ أخيراً بمصدر المعلومة: " بصراحة، أنّ نيازي سبقَ وأخبرني بشأن ذلك المشروع. فرغبتُ عندئذٍ التيقّنَ من الأمر، فسألتُ شريك شقتي. وإنه رمّو، مَن أعلمني بموضوع الصورة ". عجبَ دارين عند ذلك من سُرعة وصول الصورة إلى بيروت، وكانَ مطارها الدوليّ ـ على حدّ علمه ـ ما زالَ معطّلاً مذ نشوب الحرب المجنونة قبلَ خمسة عشرة عاماً. بقيَ لبرهةٍ مُمسكاً عن التعليق على ما سمعه، وفي الأثناء، كانَ رفيقه مُطرقاً برأسه؛ كأنه ندمَ على إفضاء تلك المعلومات. فكّرَ دارين لأول مرةٍ بهذه المُفارقة، وهيَ أنه ـ شأنُ ربيب البيض ـ حوّلَ مشروعَ الزواج المُفترض من الخالة إلى ابنة شقيقتها. إنه إذاً أمام ظاهرة " القرين "، مُجدداً.. لكنه قرينٌ خارجيّ وليسَ داخلياً. هذا بالرغم من حقيقة، أن مشروعَ الزواج بالخالة كانَ مجهولاً تماماً بالنسبة إليه لولا أن باحت به ميديا.
واصلَ عرضَ حاله كما لو أنه غريبٌ تماماً عن الموضوع، فقال: " على مرجوح تقديري، أن الأمرَ لا يعدو عن كونه ثرثرة نساء. والدليل على ذلك، أنّ السيّد حيدر لم يفاتحني أبداً به بالرغم من أننا التقينا أكثر من مرةٍ مؤخراً "
" الموضوع أكبر من ثرثرة نساء، يا عزيزي "، قالها نورو ثم أضافَ: " عندي وجهة نظر في ذلك السيّد، وأرجو أن يبقى الكلام بيننا: إنه مُتحررٌ أكثر من اللازم مع بناته، مثلما أنه أسيرُ إرادة إمرأته "
" بكل الأحوال، أنا زرتهم مرتين لا أكثر. في الأولى حملني رمّو على مرافقته، وفي الثانية بناءً على إلحاح من السيّد حيدر لما ألتقينا في إحتفال نهاية العام الدراسي. وأظنّ أنه لن يكون ثمة زيارة ثالثة "
" وحسنٌ تفكيرك، بهذا الإتجاه. أنا أعرفُ عاداتهم، التي حملوها معهم من بلدهم الأول. لأنني كنتُ، فيما سبق، أزورُ بيروت بشكل متكرر. هؤلاء يطلبون مهراً باهظاً، ليسَ لك القدرة عليه وأنتَ شبه المُفلس "، شدد نورو على الجملة الأخيرة مُطلقاً ضحكة مقتضبة. ثم أستطرد بالقول: " أما لو أمتنعوا عن مطالبتك بالمهر، فاعلم إذاً أنّ الهدفَ من الزواج هوَ جلبُ إبنتهم إلى السويد "
" لا هذا ولا ذاك، لأنهم لن يرونني من بعد إلا في الأماكن العامة "، قال دارين. وأنتهى الحديث عند هذا الحد، لأن رفيقه كانَ في الأثناء قد أهتدى إلى " صيدٍ " مناسب، وذلك بعينيّ الوشق التي حظيَ بهما.
عندما أنتهى نورو من جولة للرقص مع إحداهن، كانت تترنّحُ فيما هيَ تتبعه إلى طاولته. قبل وصولهما، غادرَ دارين مكانه باتجاه سدّة البار وطلبَ هناك قدح بيرة. جلسَ على أحد الكراسي العالية، مستنداً بمرفقه إلى الكونتوار. ثمة، بدأت الهواجسُ تتناهبه: من جهة، تداول اسمه بين ألسن الجالية الكردية، بشأن الخطبة المزعومة. ومن جهة جوليا، المُتمرغة في الحضيض، بحيث أصبحت غير مأمونة الجانب. ألم يصفها والدها بنفسه، أنها " مجنونة ".

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي